بين أوديب وجلغامش... بسالة المهزومين

الزمن عدوٌّ خفي نرى أثر عبوره فحسب

مشهد من مسرحية «أوديب ملكا» لسوفوكلس
مشهد من مسرحية «أوديب ملكا» لسوفوكلس
TT
20

بين أوديب وجلغامش... بسالة المهزومين

مشهد من مسرحية «أوديب ملكا» لسوفوكلس
مشهد من مسرحية «أوديب ملكا» لسوفوكلس

كانت رحلة نوح بمثابة خلق ثانٍ للعالم. سفرٌ إلى اللامكان طفواً فوق قدر الغرق، وأول يابسة ظهرت كانت محطة الوصول المثالية. كانت تلك رحلة فرار واحدة نعرفها تكللت بالنجاح؛ فالقدر لا يمنح المسافر جائزته دائماً.
الفرار من الموت، واحد من الأهداف المضمرة للسفر، لكن المصير محتوم. في بعض القصص الميثيولوجية يكون البطل عارفاً مسبقاً بمصيره، وفي بعضها يجهل ذلك كلياً.
فرّ أوديب من نبوءة قتل أبيه والزواج من أمه، فإذا به يحقق النبوءة بهذا الفرار. تتضمن أسطورة أوديب ثلاث محاولات هرب من الموت لا هرباً واحداً؛ حيث يتلقى لايوس ملك طيبة نبوءة بأنه سينجب طفلاً يقتله ويتزوج من أمه، وعندما أخفق في تحاشي حدوث الحمل، انتظر حتى وضعت زوجته الغلام وقيده من كاحليه وسلَّمه إلى حارس ليقتله، لكن الحارس يعهد بالطفل لراعٍ، والراعي يهديه لملك وملكة كورنثة العقيمين، ويكبر الطفل ذو الأصفاد «أوديب» ويتلقى النبوءة ذاتها «ستقتل أباك وتتزوج من أمك» وهو لا يعرف أن ملك وملكة كورنثة ليسا أبويه، ويفرّ من النبوءة إلى طيبة، حيث تتحقق اللعنة، بقتله أباه وزواجه من أمه الحقيقيين.
يمكننا أن نرى في رحلة نوح وما حمل في سفينته من أزواج الكائنات أمثولة للاصطفاء الديني، ونرى في تغريبة أوديب ثم فراره نموذجاً للحبكة المحكمة، لكن القصتين معاً تقولان إن المقدَّر سلفاً هو الذي يكون.
خطباء الجمعة يتحاشون قصة أوديب، بينما يتناقلون قصة مشابهة، يرد ذكرها في «المصنف في الأحاديث والآثار» لأبي بكر بن أبي شيبة، وفي «كتاب الزهد» لأحمد بن حنبل، وفي «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» لأبي نعيم الأصبهاني، وغيرهم.
تروي القصة أن سليمان - عليه السلام - كان جالساً ذات يوم وبين يديه وزير عظيم الشأن، كان من قبل وزير أبيه داود، ثم دخل رجل فسلّم على سليمان وجعل يحادثه ويحدّ النظر إلى الوزير؛ ففزع منه، فلما خرج الرجل قام الوزير وسأل سليمان: يا نبي الله! من هذا الرجل الذي خرج من عندك؟ قد والله أفزعني منظره؟ فقال سليمان: هذا ملك الموت يتصور بصورة رجل ويدخل عليَّ، فازداد الوزير فزعاً وبكى وقال: يا نبي الله أسألك بالله أن تأمر الريح فتحملني إلى أبعد مكان، إلى الهند، فأمر سليمان الريح فحملته، فلما كان من الغد دخل ملك الموت على سليمان يسلم عليه كما كان يفعل، فقال له سليمان: قد أفزعت صاحبي بالأمس فلماذا كنت تحدَّ النظر إليه، فقال ملك الموت: يا نبي الله إني دخلت عليك في الضحى وقد أمرني الله أن أقبض روحه بعد الظهر في الهند فعجبت أنه عندك، قال سليمان: فماذا فعلت؟ فقال ملك الموت: ذهبت إلى المكان الذي أمرني الله بقبض روحه فيه فوجدته ينتظرني، فقبضت روحه».
في أقدم الملاحم الشعرية المعروفة، يسافر جلغامش مع عدوه «إنكيدو» وقد صارا رفيقين بعد نزال عنيف بينهما، يبحثان عن عشبة الخلود، فلا يتوصلان إلى العشبة الشافية من الموت، لكنهما يتوصلان إلى أن الحصول على الخلود ممكن بطريقة واحدة: عبر الأعمال التي تبقى. ربما لا نرى لملك أورك السومري كبير الأثر في الأدب العربي الحديث يضاهي أثر الملك اليوناني عوليس في الآداب والفنون الغربية عموماً، وتأثيره الكبير الممتد في الروح الهيلينية والسلافية خصوصاً.
بسالة عوليس ضد الموت تبدو واضحة لدى ورثته المقربين؛ نراها في مذكرات اليوناني كزنتزاكيس «العودة إلى جريكو» مثلما نراها في أفلام الكثير من مخرجي تلك المنطقة بالذات، من الروسي أندريه تاركوفسكي إلى اليوناني ثيو أنجلوبولس، إلى البولنديين رومان بولانسكي وكريستوف كيسلوفسكي. في أعمال كل هؤلاء نشاهد تحديقات مطولة لعدسة كئيبة تسافر بحثاً عن خلود، تعرف مسبقاً أنه غير موجود. لكنها تواصل نحتها الصبور في الزمن، وتنتهي إلى أن الرحلة إلى إيثاكا أجمل من إيثاكا، كي لا ننسى ابن الإسكندرية كفافي.
بسالة وجنون الحرب الخاسرة سلفاً ضد العدم، نراها في كل فن عظيم، لكن أحداً لن تتيسر له رؤية ذلك العدو مهما أطال التحديق.
الزمن عدوُّ خفي نرى أثر عبوره فحسب؛ لذا نسافر دائماً. يبدو المكان هدف مطاردتنا في الظاهر، لكن في العمق نحن نطارد الزمن. نعود إلى أماكن الطفولة بأمل يائس في استرداد الزمان الذي قضيناه فيها، ونسافر إلى أماكن جميلة، وداخلنا تصور ساذج بأن الموت لا يصلها. في روايتي «يكفي أننا معاً» يسأل جمال منصور الطبيب الإيطالي: «هل يوجد موت في كابري؟» ويرد الطبيب: «موجود، لكن السُيَّاح لا يتوقعونه هنا».
هل نتعلم من شخصيات اخترعناها في رواياتنا؟! لقد أصبحت بعد أن كتبت بيدي هذا الحوار أكثر تفهماً لسلوك أصدقاء غير مصريين، يهاتفونني بعد وصولهم إلى القاهرة لنلتقي؛ فأقول إنني في عزاء، لا يسألون عن صلتي بالميت أو مقدار حزني، بل عن الموعد الآخر المناسب للقائنا.
أفترض أن التصرف على هذا النحو لا يعني قلة حساسية أو قلة اعتبار لمشاعري، لكن أحداً لا يريد أن يلتقي بسيرة الموت في سفره، وقد تركه وراءه، ويريد أن يحمل المقيم على الخفة في التعامل مع الموت.
لملاك الموت في اللاوعي الإنساني صورة شرطي يلاحقنا، سيطرق الباب في أي لحظة؛ لذا نفكر كما فكر وزير سليمان: نسافر حتى لا يجدنا عندما يصل!



محمد فاضل: «الضاحك الباكي» ليس بقائمة أعمالي التي أعتز بها

المخرج المصري محمد فاضل
المخرج المصري محمد فاضل
TT
20

محمد فاضل: «الضاحك الباكي» ليس بقائمة أعمالي التي أعتز بها

المخرج المصري محمد فاضل
المخرج المصري محمد فاضل

عبّر المخرج المصري محمد فاضل عن سعادته بمنحه «وسام ماسبيرو للإبداع» خلال مؤتمر «الدراما» الذي نظمته «الهيئة الوطنية للإعلام» (الثلاثاء)، مؤكداً أن التكريم داخل مبنى التلفزيون المصري له مذاق خاص بالنسبة إليه بصفته مخرجاً كان شاهداً على بناء التلفزيون ومشاركاً في العمل داخل بلاتوهاته المختلفة بأعمال فنية.

وقال فاضل لـ«الشرق الأوسط» إن مؤتمر «الدراما» كان بمنزلة احتفالية بعودة التلفزيون المصري للإنتاج مرة أخرى بعد توقف دام أكثر من عقد، وهو أمر حظي بترحيب من الفنانين والمخرجين وكل صناع الدراما، وخصوصاً أن الدراما التي أنتجها التلفزيون المصري منذ 1960 شكلت وعي أجيال متعددة وبقيت خالدة، ليس فقط في مصر، ولكن أيضاً في التلفزيونات العربية التي كانت تعرض هذه الإنتاجات.

وأضاف أن «عودة التلفزيون للإنتاج الدرامي لا تعني مزاحمته للقطاع الخاص الذي برزت إنتاجاته في السنوات الماضية، لكن في المقابل ستوفر فرصة لتقديم تجارب درامية مختلفة، بما يزيد من المنافسة التي تشجع المبدعين لتقديم أفضل ما لديهم»، لافتاً إلى أنه «تابع 12 عملاً درامياً خلال شهر رمضان غالبيتها كانت جيدة على المستوى الفني لأجيال مختلفة من الفنانين».

محمد فاضل وزوجته فردوس عبد الحميد مع رئيس «الهيئة الوطنية للإعلام» أحمد المسلماني (الهيئة الوطنية للإعلام)
محمد فاضل وزوجته فردوس عبد الحميد مع رئيس «الهيئة الوطنية للإعلام» أحمد المسلماني (الهيئة الوطنية للإعلام)

ورفض فاضل الحديث عن وجود انفصال في الأجيال بين المبدعين باعتبار أن العمل الفني والإبداعي لا يرتبط بعمر محدد، ولكن بالمضمون الذي يقدم، فلا يوجد ما يمنع من تعاون مخرج كبير مع كاتب شاب والعكس، لافتاً إلى أن المخرج والمؤلف هما أساس أي عمل فني، وانشغالهما على المشروع بشكل جيد يكون سبب نجاحه.

وأكد أن فكرة التواصل بين الأجيال موجودة بالفعل وباستمرار في الدراما؛ لأن الجميع يعمل على تقديم تجارب جيدة على المستوى الفني والأفكار، وطريقة الطرح هي التي تحدد من يتعاون مع الآخر، لكن في النهاية هناك ضرورة لأن يحصل كل عمل على وقته في التحضير للخروج بشكل جيد فنياً.

وانتقد المخرج المصري «تفصيل أعمال درامية على مقاس النجوم»، مؤكداً أن تأثير ذلك يكون سلبياً للغاية.

وحول الخلاف السابق بينه وبين الفنانة سميرة أحمد أثناء تحضيرات مسلسل «أميرة في عابدين»، قال المخرج المصري إن هذا الأمر مر عليه وقت طويل، ولم يعد هناك مجال للحديث فيه، خصوصاً أنه تمسك وقتها بصلاحيته وحقوقه بصفته مخرجاً في المسلسل قبل أن يتركه، مشيراً إلى أنه رغم كونه لم يشاهده بعد تقديمه فإن العمل لا يسجل ضمن أهم أعمال كاتبه الراحل أسامة أنور عكاشة.

ورغم أن فاضل كسر غيابه عن الدراما التلفزيونية منذ 2012 قبل 3 أعوام بمسلسل «الضاحك الباكي» فإنه لا يشعر بالرضا عن العمل الذي رصد جوانب من قصة حياة الفنان نجيب الريحاني لأسباب إنتاجية تركت أثراً سلبياً على العمل، لكن في النهاية لا يتبرأ منه باعتباره حمل توقيعه مخرجاً.

محمد فاضل مع المسلماني - الوطنية للإعلام
محمد فاضل مع المسلماني - الوطنية للإعلام

وأضاف أنه رغم تجاوزه التجربة مع عرضها دون أن تلقى رد فعل إيجابي من الجمهور، فإنه لا يضع المسلسل في قائمة الأعمال التي يعتز بتقديمها في مسيرته الدرامية، مؤكداً أنه «لا يشعر بالندم على أي تجربة قدمها أو لم يستكملها باعتبار أن كل تجربة استفاد منها في مسيرته الفنية».

وحول ما إذ كان الحديث الدائم عن ترشيحه لزوجته الفنانة فردوس عبد الحميد في أعماله قد أثر على مسيرته بصفته مخرجاً، قال فاضل إن انحيازه دائماً يكون للشخصيات الأقدر على تقديم الأدوار كما يراها المخرج، وهو أمر تكرر مع الراحلة أمينة رزق، مشيراً إلى أن الحديث عن تفضيله لزوجته كان يستخدم ورقة ضغط عليه إعلامياً وإنتاجياً، لكن الوضع مختلف بالنسبة للجمهور.