رواية «ديستوبيا» تعري مدينة أفسدتها الحرب

«مستر نون» لنجوى بركات

رواية «ديستوبيا» تعري مدينة أفسدتها الحرب
TT

رواية «ديستوبيا» تعري مدينة أفسدتها الحرب

رواية «ديستوبيا» تعري مدينة أفسدتها الحرب

بعض الكتب يعرف كيف يدافع عن نفسه في مواجهة قارئ غشاش. من هذه الكتب رواية نجوى بركات الجديدة «مستر نون»، الصادرة عن دار «الآداب». شخصياً، حاولت أن أغش وأقرأ فصلاً من هنا وفقرة من هناك، ولم أنجح، لأن كل حدث صغير في الرواية يتشابك مع حدث صغير سابق ويفسره.
ولست غشاشاً بطبعي، لكنها كانت محاولة انتقام من كاتبة تغامر بالرهان على صبر القارئ، حيث يبدو الإيقاع في الصفحات الأولى بطيئاً، لا يوحي بأن شيئاً مهماً سيحدث، بل ويقدم خطاً سردياً لن يكون موضوع الرواية.
يبدأ السرد بقول السيد المسيح لتلاميذه: «حبيبنا لعازر قد نام، ولكنني أذهب فأوقظه»، ويمضي مفتتح الرواية في ذلك الدرب، ونعتقد أننا بصدد رواية عن معجزة إحياء لعازر، تكتبها نجوى بركات، ثم نكتشف أن قصة لعازر مجرد بداية لرواية داخل الرواية، يكتبها «مستر نون» الذي سيصبح هو نفسه الموضوع، ولن يُكمل الرواية التي يكتبها أبداً.
لا نعرف عمره بالضبط، وهو يعيش في غرفة من نُزل اختاره بديلاً لبيته، لأنه لم يحتمل قيام برج قبيح أنشأه واحد من بارونات الحرب في مواجهة البيت. يبدو الرجل في البداية واحداً من ضحايا الكتابة الذين يحبونها من طرف واحد، ويضطر أحبابهم لمسايرتهم في إشباع جنونهم قليل الضرر. وهكذا، تفعل «مس زهرة» التي تهتم براحة «مستر نون»، وتوفر له أقلام الرصاص والورق الأبيض. تبدو مس زهرة مشرفة على خدمة الغرف، لكننا نتوقع أنها تميل عاطفياً إلى الكاتب الغامض.
ويمضي وقت مستر نون في عالمه الضيق: محاولة يائسة للتقدم في الكتابة، ومراقبة الشارع من الشباك، وانتظار مس زهرة التي تطرق الباب بين وقت وآخر لتتفقده. وشيئاً فشيئاً، يتسع العالم لنتعرف على شخصيات أخرى في إدارة النُزل، ونزلاء ونزيلات يتسمون بالغرابة، كما نتعرف على ذكريات «مستر نون» مع نساء أخريات: «ثريا» التي كانت تزدريه، و«ماري» التي تحتضنه بحب، كما نتعرف على أبيه الطبيب، وشقيقه سائد معشوق أمه، ثم نعرف أن ثريا هي الأم، وماري خادمة تتعاطف معه.
وتدفع الكاتبة بموجات من الضوء، موجة وراء موجة، لنرى أننا بمواجهة مريض فصام، وما يظنه نزلاً اختاره بنفسه، هو في الحقيقة مصحة يدفع شقيقه تكلفة إيوائه فيها. وبعد هذا التنوير، يحسن أن نعيد قراءة الفصل الأول، لننتبه إلى الإشارات الخفيفة التي ناثرتها الكاتبة للتأسيس لهذا الفصام: «نظرت إليه الذبابة وغمزت بطرف عينها، قبل أن تحلق ويختفي أثرها»، أو اعتبار الحقنة التي تغرس مس زهرة سنها في ذراعه مهارشة حب: «أخذت مس زهرة ذراعه برفق، ضربت خفيفاً على مرفقه، ومررت أصابعها على عروقه النافرة الزرقاء، ثم انحنت... آه، صرخ السيد نون، لقد غرست أسنانك في شراييني التي تحبين».
سنعرف بعد ذلك أن «مستر نون» ليس من ضحايا الكتابة، فهو مؤلف كتب سابقة مرموقة، ويُعلِّم الكتابة الإبداعية في الجامعة، ونتأكد من مستواه عبر تنظيره للكتابة في مواضع من الرواية. وعندما نرى فظاعات الحرب الأهلية اللبنانية، ثم صورة بيروت الفاسدة التي خرجت من بين الأنقاض، نتأكد أن السبب في فصام مستر نون هو الأم والأخ والحرب التي سحقته، وسلبته الحب بوحشية، وقبَّحت مدينته.
يمكننا اعتبار «مستر نون» رواية نفسية، وبالقدر نفسه يمكننا اعتبارها رواية حرب، أو رواية «ديستوبيا» تعري مدينة أفسدتها الحرب، كما أنها رواية وجودية تقدم عقدة البطل المعتزل للمجتمع، الخائف، الرافض غير المبالي، لكن في الوقت نفسه الباحث عن الاعتراف، ولو من خلال الإهانة!
يمضي «مستر نون» بقدميه إلى العشوائيات والحارات الشعبية لكي يحظى بالإهانة، ما يذكرنا بسعي بطل نوفيلا «في قبوي» لدوستويفسكي، عندما لمح مشاجرة في حانة، فاقتحمها لكي ينال صفعة، لكن المعتدي لوى عنه بإهمال، فظل يترصد حركته في المدينة، ويتعمد أن يواجهه. وفي كل مرة، يشيح الرجل القوي عنه، فيزداد غيظاً.
مثل بطل «في قبوي»، يعاني مستر نون من ألم ألا يكون موجوداً، ويريد الاعتراف بوجوده، لكن صبية بيروت كانوا أكثر كرماً من القبضاي الروسي المترفع، ومنحوا مستر نون ألواناً من الإهانة والجروح أرضته، وجعلته يتوقف عن جولاته!
المأزق الوجودي لمريض فصام لم يجعل الرواية تقبع داخل الأماكن المغلقة، لكنها تهتم بما تستقبله الحواس من وصف للطقس، وشكل الشوارع وحياة المدينة، بتفاصيل مفعمة بالصدق الفني، يرصدها راو يظهر قليلاً، ثم يفسح لصوت البطل أسير المصحة الذي يرى الأشياء من النافذة!
ومن النوافذ تأتي كذلك الكوارث الأكبر في حياة مستر نون. رأى، عندما كان صبياً في التاسعة، أباه الطبيب معالج الفقراء ينساب من النافذة منتحراً. ومن النافذة، يُلقي القواد بالفتاة النيبالية التي أحبها «مستر نون» وأخذها لتعيش معه. ومن النافذة في المصحة، يشاهد انتحار نزيلة بمساعدة نزيل آخر، وتمنعه مس زهرة من الإدلاء بشهادته.
الرواية حافلة بالمفارقات السوداء التي تؤسس لها الكاتبة على مهل، ومنها رعب مستر نون من اسم «لقمان»، ولا نفهم سر ذلك الرعب إلا قبل نهاية الرواية بقليل. سنعرف أن لقمان المخيف يسكن حكاية من طفولته سحقت أباه قبل أن تسحقه. كان اسم لقمان لمسلح اقتحم مستشفى الأطفال، حيث يعمل والد مستر نون. قبل وصول المسلح، طلب الطبيب من الممرضة تخدير الأطفال، والممرضة فلسطينية الأصل، ناجية من مذبحة 1948، ولا تريد أن ترى مذبحة أخرى، لذلك زادت الجرعة التي حقنت بها الأطفال، ثم حقنت نفسها في النهاية. وعندما دخل لقمان، وجد الأطفال ميتين سلفاً، فإذا به ينحني ليحيي شجاعة خصمه: «نشكرك أيها الطبيب، لقد قدمت لنا خدمة لا تقدر بثمن. فمهما يكن، يبقى قتل الأطفال صعباً يتطلب مقدرة كمقدرتك!».
في هذه الرواية، كما في رواياتها السابقة، يبدو هاجس اللغة قوياً لدى نجوى بركات. لغة فحلة، لكن فحولتها لا تخفي أنوثتها البادية في أبسط سلوك تأتيه امرأة في الرواية، في تشبيه لحظة سكينة البطل بـ«راحة العجين». وفي ظني، لم تكن الرواية بحاجة إلى صفحة الختام الأخيرة، وهي عبارة عن تقرير كتبه الطبيب أندريه للشرطة، نعرف منه أن «مستر نون» سيدة تعاني التباساً في الهوية، وتظن نفسها رجلاً.
وفيما يزعم رولان بارت، فإن «في كل رجل يحكي أنوثة تفصح عن ذاتها»، وما يعانيه السيد أو السيدة نون شيء أكبر من التباس الهوية؛ هو افتقاد الحب الذي جعل موته أو نومه أعمق من نوم لعازر، ويحتاج إلى معجزة كي ينهض.

- روائي مصري


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.