رواية «ديستوبيا» تعري مدينة أفسدتها الحرب

«مستر نون» لنجوى بركات

رواية «ديستوبيا» تعري مدينة أفسدتها الحرب
TT

رواية «ديستوبيا» تعري مدينة أفسدتها الحرب

رواية «ديستوبيا» تعري مدينة أفسدتها الحرب

بعض الكتب يعرف كيف يدافع عن نفسه في مواجهة قارئ غشاش. من هذه الكتب رواية نجوى بركات الجديدة «مستر نون»، الصادرة عن دار «الآداب». شخصياً، حاولت أن أغش وأقرأ فصلاً من هنا وفقرة من هناك، ولم أنجح، لأن كل حدث صغير في الرواية يتشابك مع حدث صغير سابق ويفسره.
ولست غشاشاً بطبعي، لكنها كانت محاولة انتقام من كاتبة تغامر بالرهان على صبر القارئ، حيث يبدو الإيقاع في الصفحات الأولى بطيئاً، لا يوحي بأن شيئاً مهماً سيحدث، بل ويقدم خطاً سردياً لن يكون موضوع الرواية.
يبدأ السرد بقول السيد المسيح لتلاميذه: «حبيبنا لعازر قد نام، ولكنني أذهب فأوقظه»، ويمضي مفتتح الرواية في ذلك الدرب، ونعتقد أننا بصدد رواية عن معجزة إحياء لعازر، تكتبها نجوى بركات، ثم نكتشف أن قصة لعازر مجرد بداية لرواية داخل الرواية، يكتبها «مستر نون» الذي سيصبح هو نفسه الموضوع، ولن يُكمل الرواية التي يكتبها أبداً.
لا نعرف عمره بالضبط، وهو يعيش في غرفة من نُزل اختاره بديلاً لبيته، لأنه لم يحتمل قيام برج قبيح أنشأه واحد من بارونات الحرب في مواجهة البيت. يبدو الرجل في البداية واحداً من ضحايا الكتابة الذين يحبونها من طرف واحد، ويضطر أحبابهم لمسايرتهم في إشباع جنونهم قليل الضرر. وهكذا، تفعل «مس زهرة» التي تهتم براحة «مستر نون»، وتوفر له أقلام الرصاص والورق الأبيض. تبدو مس زهرة مشرفة على خدمة الغرف، لكننا نتوقع أنها تميل عاطفياً إلى الكاتب الغامض.
ويمضي وقت مستر نون في عالمه الضيق: محاولة يائسة للتقدم في الكتابة، ومراقبة الشارع من الشباك، وانتظار مس زهرة التي تطرق الباب بين وقت وآخر لتتفقده. وشيئاً فشيئاً، يتسع العالم لنتعرف على شخصيات أخرى في إدارة النُزل، ونزلاء ونزيلات يتسمون بالغرابة، كما نتعرف على ذكريات «مستر نون» مع نساء أخريات: «ثريا» التي كانت تزدريه، و«ماري» التي تحتضنه بحب، كما نتعرف على أبيه الطبيب، وشقيقه سائد معشوق أمه، ثم نعرف أن ثريا هي الأم، وماري خادمة تتعاطف معه.
وتدفع الكاتبة بموجات من الضوء، موجة وراء موجة، لنرى أننا بمواجهة مريض فصام، وما يظنه نزلاً اختاره بنفسه، هو في الحقيقة مصحة يدفع شقيقه تكلفة إيوائه فيها. وبعد هذا التنوير، يحسن أن نعيد قراءة الفصل الأول، لننتبه إلى الإشارات الخفيفة التي ناثرتها الكاتبة للتأسيس لهذا الفصام: «نظرت إليه الذبابة وغمزت بطرف عينها، قبل أن تحلق ويختفي أثرها»، أو اعتبار الحقنة التي تغرس مس زهرة سنها في ذراعه مهارشة حب: «أخذت مس زهرة ذراعه برفق، ضربت خفيفاً على مرفقه، ومررت أصابعها على عروقه النافرة الزرقاء، ثم انحنت... آه، صرخ السيد نون، لقد غرست أسنانك في شراييني التي تحبين».
سنعرف بعد ذلك أن «مستر نون» ليس من ضحايا الكتابة، فهو مؤلف كتب سابقة مرموقة، ويُعلِّم الكتابة الإبداعية في الجامعة، ونتأكد من مستواه عبر تنظيره للكتابة في مواضع من الرواية. وعندما نرى فظاعات الحرب الأهلية اللبنانية، ثم صورة بيروت الفاسدة التي خرجت من بين الأنقاض، نتأكد أن السبب في فصام مستر نون هو الأم والأخ والحرب التي سحقته، وسلبته الحب بوحشية، وقبَّحت مدينته.
يمكننا اعتبار «مستر نون» رواية نفسية، وبالقدر نفسه يمكننا اعتبارها رواية حرب، أو رواية «ديستوبيا» تعري مدينة أفسدتها الحرب، كما أنها رواية وجودية تقدم عقدة البطل المعتزل للمجتمع، الخائف، الرافض غير المبالي، لكن في الوقت نفسه الباحث عن الاعتراف، ولو من خلال الإهانة!
يمضي «مستر نون» بقدميه إلى العشوائيات والحارات الشعبية لكي يحظى بالإهانة، ما يذكرنا بسعي بطل نوفيلا «في قبوي» لدوستويفسكي، عندما لمح مشاجرة في حانة، فاقتحمها لكي ينال صفعة، لكن المعتدي لوى عنه بإهمال، فظل يترصد حركته في المدينة، ويتعمد أن يواجهه. وفي كل مرة، يشيح الرجل القوي عنه، فيزداد غيظاً.
مثل بطل «في قبوي»، يعاني مستر نون من ألم ألا يكون موجوداً، ويريد الاعتراف بوجوده، لكن صبية بيروت كانوا أكثر كرماً من القبضاي الروسي المترفع، ومنحوا مستر نون ألواناً من الإهانة والجروح أرضته، وجعلته يتوقف عن جولاته!
المأزق الوجودي لمريض فصام لم يجعل الرواية تقبع داخل الأماكن المغلقة، لكنها تهتم بما تستقبله الحواس من وصف للطقس، وشكل الشوارع وحياة المدينة، بتفاصيل مفعمة بالصدق الفني، يرصدها راو يظهر قليلاً، ثم يفسح لصوت البطل أسير المصحة الذي يرى الأشياء من النافذة!
ومن النوافذ تأتي كذلك الكوارث الأكبر في حياة مستر نون. رأى، عندما كان صبياً في التاسعة، أباه الطبيب معالج الفقراء ينساب من النافذة منتحراً. ومن النافذة، يُلقي القواد بالفتاة النيبالية التي أحبها «مستر نون» وأخذها لتعيش معه. ومن النافذة في المصحة، يشاهد انتحار نزيلة بمساعدة نزيل آخر، وتمنعه مس زهرة من الإدلاء بشهادته.
الرواية حافلة بالمفارقات السوداء التي تؤسس لها الكاتبة على مهل، ومنها رعب مستر نون من اسم «لقمان»، ولا نفهم سر ذلك الرعب إلا قبل نهاية الرواية بقليل. سنعرف أن لقمان المخيف يسكن حكاية من طفولته سحقت أباه قبل أن تسحقه. كان اسم لقمان لمسلح اقتحم مستشفى الأطفال، حيث يعمل والد مستر نون. قبل وصول المسلح، طلب الطبيب من الممرضة تخدير الأطفال، والممرضة فلسطينية الأصل، ناجية من مذبحة 1948، ولا تريد أن ترى مذبحة أخرى، لذلك زادت الجرعة التي حقنت بها الأطفال، ثم حقنت نفسها في النهاية. وعندما دخل لقمان، وجد الأطفال ميتين سلفاً، فإذا به ينحني ليحيي شجاعة خصمه: «نشكرك أيها الطبيب، لقد قدمت لنا خدمة لا تقدر بثمن. فمهما يكن، يبقى قتل الأطفال صعباً يتطلب مقدرة كمقدرتك!».
في هذه الرواية، كما في رواياتها السابقة، يبدو هاجس اللغة قوياً لدى نجوى بركات. لغة فحلة، لكن فحولتها لا تخفي أنوثتها البادية في أبسط سلوك تأتيه امرأة في الرواية، في تشبيه لحظة سكينة البطل بـ«راحة العجين». وفي ظني، لم تكن الرواية بحاجة إلى صفحة الختام الأخيرة، وهي عبارة عن تقرير كتبه الطبيب أندريه للشرطة، نعرف منه أن «مستر نون» سيدة تعاني التباساً في الهوية، وتظن نفسها رجلاً.
وفيما يزعم رولان بارت، فإن «في كل رجل يحكي أنوثة تفصح عن ذاتها»، وما يعانيه السيد أو السيدة نون شيء أكبر من التباس الهوية؛ هو افتقاد الحب الذي جعل موته أو نومه أعمق من نوم لعازر، ويحتاج إلى معجزة كي ينهض.

- روائي مصري


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.