«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

أمين الريحاني
أمين الريحاني
TT
20

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

أمين الريحاني
أمين الريحاني

لئن عبّر أمين الريحاني، لا سيّما في مطالع شبابه، عن ميول طبيعيّة وتأمّليّة ذات مصدر رومنطيقيّ، فإنّ ما يبقى ويرسخ من أدبه، ومن تكوينه كأديب وكإنسان، شيء مختلف.

فبالمقارنة مع جبران خليل جبران الذي يصغره بسبع سنوات، والذي شاركه تجربة الهجرة المبكرة إلى الولايات المتّحدة، نجدنا حيال افتراق بارز: فمع جبران، هناك موقف ذو خلفيّة روسويّة تمجّد الطبيعة وتذمّ المجتمع وتهجوه، ومع الريحاني، هناك تورّطٌ في الواقع وفي العالم الحيّ وشؤونه، كما لو أنّ الريحاني الناضج قد انفصل عن الريحاني الشابّ. وتورّطٌ كهذا هو ما قاده إلى الصحافة وإلى أدب الرحلات كما أثار فيه فضول الاكتشاف والتعرّف، بحيث جاء كتابه «ملوك العرب» الذي نحتفل بمئويّته، بوصفه الأثر الأهمّ في دلالته على التوجّه المذكور.

وإذا استخدمنا القاموس المهنيّ في الصحافة، قلنا إنّ الريحاني كان كاتب «تحقيق» من طراز رفيع. والتحقيق أشدّ أبواب الصحافة توسيعاً لمواضيع التناول واحتضاناً للأصوات على خلافها، وهذا فضلاً عمّا يتطلّبه من ثقافة ومتابعة واسعتين لدى المحقِّق.

وكما في كلّ عمل تحقيقيّ محترم، احتلّ كلّ فرد يلتقيه الريحاني مكاناً وأهميّة في ما يكتب. ولئن بدا بعض الأفراد عرضة للنقد، كما في حالات وأوضاع بعينها، فإنّ الريحاني الذي كان ينقد لم يكن يشهّر. هكذا استطاعت نصوصه أن تقدّم إسهامات معرفيّة رفيعة، يمكن أن نسمّيها بلغة اليوم سوسيولوجيّة وأنثروبولوجيّة، في المسائل التي تناولتها.

وهذا ما ترافق مع اشتغال على اللغة العربيّة وعلى تحديثها. فهو واحد ممّن أعطوا دفعة قويّة لتلك الوجهة التي بدأت في جبل لبنان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي كانت الإرساليّات الأجنبيّة والترجمات التي أنجزتها عنصراً تأسيسيّاً فيه وفي الحضّ عليه.

وبهذه المعاني جميعاً، وخصوصاً من خلال الكتابة الصحافيّة والتحقيقيّة، كسر الريحاني صورة كانت سائدة للأديب وللمثقّف بوصفه «عبقريّاً» غريب الأطوار، غير مفهوم، يقول ما لا يقوله سواه ويهتمّ بما لا يهتمّ به غيره.

فهو في تقريبه الأدب من الصحافة والصحافة من الأدب كان يحدّث الأدب ويضفي على الصحافة عمقاً أكبر. وبهذا جميعاً رأينا انشغالاته تشبه انشغالات بعض الأدباء الصحافيّين الذين عرفهم القرن العشرون، كالأميركيّين جون ريد وإرنست همنغواي ومارثا غيلهورن، والروسيّ اسحق بابل، والبولنديّ ريسّارد كابوشنسكي.

وفي إحاطته الصحافيّة هذه، وكتابُ «ملوك العرب» شاهد قويّ على ذلك، تحدّث عن كلّ ما رأى وعن كلّ ما احتكّ به على نحو أو آخر. فهو كتب عن الخرافات وعن العادات، عن الملل والنحل، عن تاريخ المناطق والفِرق والعائلات والأديان والطوائف لدى كلّ من الحاكم والمحكوم، وإلى القبائل والعشائر والبطون والأفخاذ، كتب عن الأدباء والكتّاب والشعراء، وعن الكلمات وأصولها بالفصيح منها والعاميّ، وعن الطبيعة بأعشابها وحشائشها وصخورها وبواديها، وعن المآكل وطرق طبخها.

وقدّم صورة عن عالمه الذي وصل به إلى تعريفنا بالهندوس والزرادشتيّين والمتصوّفين، وبلهجات المناطق وقراباتها، وبالتاريخ وعلم الآثار، وشؤون التربية والتعليم، والمدن والقرى والدساكر، وبالحروب والمناوشات والمعارك، لا سيّما حين تحدّث عن العراق في العشرينات، وبالسفن والمراكب والصيد البحريّ وجمع اللؤلؤ وتجارته، وبالمهن والأشغال كذلك.

ولئن كان الريحاني يكتب فصولاً من تاريخ تلك الظاهرات والممارسات، فقد بدا حريصاً على التعامل مع التاريخ بغير طرق الماضي الشفويّة، فـ «التاريخ غير السجع. يجب أن يكون للتاريخ عينان وعقل ووجدان، ولا بأس إذا كان له شيء من البداهة والتصوّر. أمّا القلب فلا حاجة له فيه، ولا يجوز».

وإلى «ملوك العرب»، كان لشغفه بالناس والأمكنة معاً أن أنتج «تاريخ نجد الحديث وملحقاته» و«قلب العراق» و«قلب لبنان» وأعمالاً أخرى، وهذا فضلاً عن اهتمامات فكريّة وثقافيّة بالعناوين التي شغلت زمنه، ولا تزال تشغل زمننا، كالثورة الفرنسيّة وروسيا البلشفية وقضيّة فلسطين ومسائل القوميّة وسواها. وكان من علامات وعيه الكونيّ اهتمامه بالصراع البريطانيّ – الفرنسيّ على المنطقة، وبعلاقات الدول ودور مصالحها في تقرير سياساتها.

فهو كائن كوزموبوليتيّ، يعرف العالم ويجيد فهمه والعيش فيه وفي ثقافاته والتجوال على تخومها. فقد استدخل القيم والأفكار الغربيّة في الثقافة العربيّة، وكتب بالانجليزيّة وربّما كان أوّل عربيّ يفعل هذا، وتأثّر بالشاعر والت ويتمان واهتمّ بتحديث التعبير الشعريّ التقليديّ. لكنّنا مثلما نقع في نصّه وفي هوامشه على المسرحيّ إبسن والمؤرّخ غيبون والمستشرق هوغارث، فإنّنا نقع على القزويني وابن الأثير وابن خلدون والشعراء العرب الأقدمين، وطبعاً على أبي العلاء المعرّي الذي ترجم الريحاني بعض أعماله إلى الإنجليزيّة. ولكنّنا أيضاً نتعرّف إلى متابعته للشعراء المعاصرين كمعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وسواهما.

صحيح أنّه عبّر عن بعض آراء زمنه التي لم تعد مستساغة في زمننا، لكنّه لم يخطىء في الأساسيّات، فرأى مثلاً في العبوديّة والنخاسة «تجارة معيبة»، واعتبر أنّ «البليّة، كلّ البليّة، هذا الجهل المسلّح، هذا الإجرام باسم القوميّة، هذه اللصوصيّة باسم الاستقلال».

وكمثل تعدّده الثقافيّ كان متعدّد الانتماءات والهويّات، لا يتظاهر بكتمان أيّ منها. فهو مسيحيّ ولبنانيّ وعربيّ ومعنيّ على نحو وثيق بالثقافة الغربيّة وأسئلتها، وقبل كلّ شيء آخر، هو ذو نزوع إنسانويّ يجعله «الرجل النهضويّ» النموذجيّ.

وفي أغلب الظنّ كان لتكوينه هذا، المصحوب بفضول إلى المعرفة وإلى استقصاء الحقائق من طريق طرح الأسئلة وزيارة المناطق، أن جلب عليه تهمة الجاسوس. ذاك أنّ مَن يختلف ويسأل ويستفهم ويتلصّص ويتنقّل لم يكن شخصاً مألوفاً في بداية القرن الماضي في عالم عربيّ كان يومذاك متقوقعاً على نفسه ومكتفياً بذاته.

والعالم العربيّ هذا كان شغلاً شاغلاً للريحاني. فهو كتب أيّام العرب ووقائعهم في عشرينات القرن الماضي، وبدا في «ملوك العرب»، كما في كتب سواه، يحمل لهذا العالم برنامجاً للتحديث والتقدّم لا يبرأ من علمويّات ذاك الزمن ومن ميله إلى التحقيب الصارم وإلى توزيع الشهادات في التقدّم والتأخّر، وكذلك من إصداره أحكام قيمة ومعادلات مغلقة وملزمة. فنحن «في زمان سيّده المال وحاكمه الاقتصاد ومديره الأوّل العلم، وليس عندنا من الثلاثة ما يؤهّلنا اليوم لوظيفة صغيرة في معمل هذا الزمان الأكبر».

والريحاني كان كارهاً للتخلّف، جعله اهتمامه بتقدّم العرب أشدّ إصراراً على نقد التخلّف المذكور. فحين تحدّث عن أقاليم اعتبرها متأخّرة عهدذاك، كتب التالي: كأنّك هناك «تعود فجأة إلى القرن الثالث للهجرة. لا مدارس ولا جرائد ولا أدوية ولا أطبّاء ولا مستشفيات... إنّ الإمام لَكلُّ شيء، هو المعلّم والطبيب والمحامي والكاهن. هو الأب الأكبر».

وهو إذ دافع عن استقلال العرب وحذّر من لعب الإنجليز عليهم وتلاعبهم بهم ضدّ بعضهم، أرفق موقفه بالتوكيد على اكتساب شروط نيل الاستقلال أو الارتفاع إلى سويّته. وهو لم يُخفِ التناقضات العربيّة – العربيّة، ولا قال «كلّنا أخوة»، ولا اتّهم المستشرقين بأنّهم مَن يثير البغضاء في ما بيننا، مدركاً مصاعب الوحدة بين العرب، علماً بحماسته لها، ومحاولاً البحث عن تدرّج فيها يرافقه توسيع المساحات المشتركة.

والحال أنّ فكرة التدرّج كانت عضويّة في فكره، فهو إذ أراد التخلّص من الاستعمار، حثّ الاستعمار، في هذه الغضون، على أشكال أقلّ جلافة في السيطرة وأشدّ اكتراثاً بمصالح السكّان، وحين كان يتناول العلاقة بالدول الغربيّة، وخاصّة بريطانيا المتمدّدة عهد ذاك في الخليج، كان يؤكّد على ضرورة البحث عن مصالح جامعة، من غيرَ أن يكون غافلاً عن المطامع.

وهذا، في عمومه، بدا له ضروريّاً في عشرينات القرن الماضي، بعد الحرب العالميّة الأولى وأهوالها، وبعد «مبادئ وودرو ويلسون» وتأسيس «عصبة الأمم»، وما تبدّى للريحاني ولسواه من المثقّفين عالماً جديداً يولد وينبغي أن يكون للعرب فيه موقع ومكانة.

ورغم كثرة الجوانب والأوجه التي يتناول فيها الحكّام العرب في عشرينات القرن الماضي، فإنّ ما يستوقفني هنا هو ما قد تجوز تسميته بنزع الأسطرة والسحر عن السياسة والسياسيّ. ففي تلك الحقبة، ولم يكن هناك تلفزيون، ولا كانت الصور الفوتوغرافيّة شائعة، رأيناه يتوقّف عند المواصفات التي لم يكن الكثيرون يتناولونها في الحاكم. فهو يصفه بجسمه وملبسه وحركات يديه، محاولاً أن يستقي من وصفه بعض المعاني والدلالات الأوسع. فالسلطان، ثمّ الملك، عبد العزيز «هدم بكلمة من كلماته حواجز الرسميّات فجعل نفسه، تنازلاً، في مقام الصنو والرفيق»، كما أنّ «الرجل فيه أكبر من السلطان». وهو أيضاً «طويل القامة مفتول الساعد، شديد العصب، متناسق الأعضاء، أسمر اللون، أسود الشعر، ذو لحية خفيفة مستديرة... يلبس في الصيف أثواباً من الكتّان بيضاء وفي الشتاء قنابيز من الجوخ تحت عباءة بُنّيّة». وإذ يتناول فيصل الأوّل، ملك العراق، يقول: «كنت أرى في أنامله دليل الاضطراب، إذ كان يُخرج الخاتم من بنصره فيلعب به كأنّه سبحة ثمّ يعيده إليه».

فهو كان مهموماً بتبديد الغموض الذي يحيط بالسياسيّ وبصانع القرار، ويجعلهما مَرئيّين وجزءاً من عالم البشر الأحياء. فالحاكم يُقدَّم، عند الريحاني، بوصفه إنساناً ذا ملامح وذا جسد وعادات وطباع، وهو إلى ذلك ليس كائناً غرائبيّاً عصيّاً على الفهم، عديم الصلة بعناصر ملموسة أكانت علاقاتٍ أهليّة واجتماعيّة، أو تراتُباً سلطويّاً ينمّ عن جماعات المجتمع وعصبيّاتها وقوّتها.

وهذا قبل عقود على موجتين عرفتهما المنطقة في إضفاء المبالغة والهالة على الزعيم: الموجة الأولى التي تمثّلت في زعامات الانقلاب العسكريّ ممّن اعتُبروا أيدي تنفّذ أوامر التاريخ، فأطلّوا على الجماهير من شرفة المجد والغموض. أمّا الموجة الثانية فتلك التي عبّر عنها بقوّة أكبر كثيراً سياسيّون زعموا أنّ لهم مراجعَ في الغيب فاختبأوا وراء غموض وسحر مصنوعين، كما لو أنّهم سرّ أو لغز لا يُفكّ ولا يُفهم.

وبهذه المعاني جميعاً، فإنّ قيمة كتاب «ملوك العرب» الأولى، كما أراها، كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة، وهذا رغم انقضاء قرن على الكتاب. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنّه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

- كلمة ألقيت في الندوة التي أقامتها «دارة الملك عبد العزيز» في الرياض تكريماً لأمين الريحاني وللذكرى المئويّة لكتابه «ملوك العرب»


مقالات ذات صلة

«الليلة الكبيرة»... الواقع والفانتازيا يمتزجان عبر لغة ساخرة

ثقافة وفنون «الليلة الكبيرة»... الواقع والفانتازيا يمتزجان عبر لغة ساخرة

«الليلة الكبيرة»... الواقع والفانتازيا يمتزجان عبر لغة ساخرة

يستدعي عنوان رواية «الليلة الكبيرة» للكاتب محمد الفولي حالة من الحنين أو «النوستالجيا» لأوبريت مسرح العرائس الأشهر الذي يحمل الاسم نفسه وتربت عليه الأجيال

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون عبد العزيز المانع

كرسي عبد العزيز المانع... إضافات ثريَّة إلى اللغة العربية

وأنا أكتب عن كرسي الدكتور عبد العزيز المانع في جامعة الملك سعود، وما أضافه هذا الكرسيُّ من إنجازات لهذه الجامعة العريقة، وبالتالي إلى لغتِنا العربية

عبد الجليل الساعدي
ثقافة وفنون «أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر

«أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر

تصدر قريباً عن «دار نوفل - هاشيت أنطوان» رواية «أغالب مجرى النهر» للكاتب الجزائري سعيد خطيبي. وفيها يصوّر الكاتب أناساً انتهتْ بهم الحياة أسرى أقدارهم.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
كتب تقهقر القراءة ينبئ باقتراب «كارثة معرفية»

تقهقر القراءة ينبئ باقتراب «كارثة معرفية»

أثارت نتائج مسح دولي أجرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لمهارات القراءة والكتابة والحساب وحل المشكلات

ندى حطيط
كتب سيرة أرمن القاهرة... عشق الأماكن وبهجة الفنون

سيرة أرمن القاهرة... عشق الأماكن وبهجة الفنون

تشير كلمة «المشربية» إلى بروز خشبي في المنازل القاهرية القديمة، لا سيما في العصر المملوكي، يتيح لمن داخل الغرفة أن يرى من بالخارج في الطرقات دون أن يراه الآخرون

رشا أحمد (القاهرة)

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي
TT
20

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

إذا كانت نقاط التقاطع بين صخب الحياة العباسية المدينية، وبين بوادي الحجاز التي كانت مأهولة بالحرمان وشظف العيش في العصر الأموي، هي من الندرة بمكان، بحيث يصعب أن نعثر في العصر العباسي الأول على نسخ عذرية مماثلة لمجنون ليلى، وجميل بثينة، وكثيّر عزة. إلا أن ما تقدم لا يعني بالضرورة الغياب التام لحالات التتيم العاطفي وتجارب العشق الصادقة في ذلك العصر. ذلك أن الإشباع الجسدي لا يوقف وجيب القلوب، والحصول على المتعة لا يروي عطش الروح، ولا يوفر للشخص المعني ما يحتاج إليه من الحب والعاطفة الصادقة. وهي الفرضية التي تجد ضالتها المثلى في حالة العباس بن الأحنف، الذي لم تحل حياته المترفة ووسامته الظاهرة، وظرفه المحبب، دون وقوعه في حب «فوز»، المرأة التي شغلته عن كل ما عداها من النساء.

ومع أن الرواة قد اختلفوا حول نشأة العباس ونسبه، حيث ذكر الأصفهاني أنه نشأ في بغداد وينتمي إلى بني حنيفة العرب، وقال الأخفش إنه كان من عرب خراسان، ورأى آخرون أنه نشأ في البصرة ثم وفد إلى بغداد، فقد أجمع المبرّد والصولي والأصمعي على تقريض شعره، ورأى الجاحظ أنه كان شاعراً غزِلاً شريفاً مطبوعاً، وله مذهب حسن ولديباجة شعره رونق وعذوبة، وأنه لم يتجاوز الغزل إلى مديح أو هجاء. لكن اللافت أن الأصفهاني لم يولِ العباس وأخباره الكثير من الاهتمام، ولم يركز إلا على أشعاره الصالحة للغناء، دون أن يأتي على ذكر فوز، أو أيٍّ من معشوقاته الأخريات.

ورغم أن العباس يعرض في ديوانه للكثير من النساء، مثل ظلوم وذلفاء ونرجس ونسرين وسحر وضياء، ومعظمهن من الجواري، فإن فوز هي التي احتلت النصيب الأوفر من شعره الغزلي. ومع ذلك، فقد ظلت هويتها الحقيقية في دائرة الغموض واللبس. وحيث ذهب البعض إلى أنها والجارية ظلوم تسميتان لامرأة واحدة، إلا أن قصائد الشاعر تؤكد أن فوز لم تكن جارية، بل امرأة من الأشراف ذات نسب عريق. وفي مواضع عدة يشير العباس إلى أنه أخفى اسم حبيبته الحقيقي خشية على نفسه وعليها، كما في قوله:

كتمتُ اسمها كتمان من صار عرضةً وحاذر أن يفشو قبيح التسمُّعِ

فسمّيتها فوزاً ولو بحتُ باسمها

لسُمِّيتُ باسمٍ هائل الذكْر أشنعِ

وفي بحثها النقدي الاستقصائي عن العباس بن الأحنف، ترى الكاتبة العراقية عاتكة الخزرجي أن حبيبة الشاعر لم تكن «كائناً متخيلاً، بل امرأة من لحم ودم، وأن ديوانه الشعري كان سيرته وقصة قلبه». إلا أن الخزرجي تذهب إلى أبعد من ذلك، فترجح أن تكون فوز هي الاسم المعدل لعليّة بنت المهدي، أخت هارون الرشيد، وأن العباس أخفى هويتها الحقيقية خوفاً من بطش الخليفة، الذي كان الشاعر أحد جلسائه.

وقد كان يمكن لاجتهاد الخزرجي حول هوية فوز، أن يكون أكثر مطابقة للحقيقة، لو لم يشر الشاعر في غير موضع إلى أن حبيبته قد انتقلت للعيش في الحجاز، في حين أن عليّة، ظلت ملازمة لبغداد ولقصر أخيها الرشيد بالذات. وأياً تكن هوية حبيبة العباس الحقيقية، فقد بدت المسافة الشاسعة التي تفصله عنها، بمثابة النقمة والنعمة في آن واحد. فهي إذ تسببت له بالكثير من الجروح العاطفية والروحية، إلا أنها منحته الفرصة الملائمة لإحالتها إلى خانة الشعر، ولتحويلها نداءً شجياً في صحراء الغربة الموحشة، كقوله فيها:

أزيْنَ نساءِ العالمين أجيبي

دعاء مشوُقٍ بالعراق غريبِ

أيا فوز لو أبصرتِني ما عرفْتني

لطول نحولي دونكم وشحوبي

أقول وداري بالعراق، ودارها

حجازيةٌ في َحرّةٍ وسهوبِ

أزوّار بيت الله مُرّوا بيثربٍ

لحاجة متبولِ الفؤاد كئيبِ

ولو تركنا هذه الأبيات غفلاً من الاسم، لذهب الظن إلى أن ناظمها الفعلي هو جميل بثينة أو مجنون ليلى. وليس من قبيل الصدفة أن ينسب الرواة إلى العباس، ما نُسب قبله إلى المجنون، ومن بينها مقطوعة «أسرْب القطا هل من يعير جناحه؟» المثبتة في ديوانَي الشاعرين. وإذا كان لذلك من دلالة، فهي أن هاجس العباس الأهم، كان يتمثل في إعادة الاعتبار للشعر العذري بوصفه الحلقة المفقودة في الحب العباسي، إضافة إلى أنه أراد في ظل القامات الشاهقة لأبي نواس وأبي تمام وغيرهما، أن يحقق عبر الحب العذري، ما يمنحه هويته الخاصة ويمهد له الطريق إلى الخلود. وهو ما يظهر في قوله إن التجربة التي اختبرها سوف تكون «سنناً للناس»، أو قوله: «وصرنا حديثاً لمن بعدنا، تحدّث عنا القرونُ القرونا».

وإذ يقارب المستشرق الفرنسي جان كلود فاديه في كتابه «الغزل عند العرب»، تجربة العباس من زاوية كونها خروجاً على التجارب الحسية البحتة لمعاصريه، يتوقف ملياً عند حبه لفوز، متسائلاً عما إذا كانت الأخيرة قد وُجدت حقاً، أم أن الشاعر قد ألفها من عنديات توقه للمرأة الكاملة. وإذا كان فاديه قد رأى في فوز المعادل الشرقي لبياتريس، حبيبة دانتي في «الكوميديا الإلهية»، فإن النموذج الغزلي الذي راح العباس ينسج على منواله، هو نموذج عربي بامتياز. وحيث كانت البيئة الحاضنة لشعره خالية من البوادي المقفرة والفقر المدقع، فقد استعاض الشاعر عن الصحراء المحسوسة، بصحراء الحب المستحيل الذي يلمع كالسراب في أقاصي العالم، موفراً له ما يلزمه من بروق المخيلة ومناجم الإلهام.

ومع أن العباس كان يسير عبر قصائده الغزلية والعاطفية، في اتجاه معاكس لنظرائه ومجايليه من الشعراء، فإن من يقرأ ديوانه لا بد أن ينتابه شعور ما، بأنه ليس إزاء شاعر واحد متجانس التجربة والمعجم والأسلوب، بل إزاء نسختين أو أكثر من الشخص إياه. فهناك القصائد الطويلة المترعة بالحسرة والوجد، التي تحتل فوز مكان الصدارة فيها، وهناك بالمقابل النصوص القصيرة ذات المعاني والمفردات المستهلكة، التي يدور معظمها حول مغامرات الشاعر العابرة مع القيان والجواري. إلا أن ما يدعو إلى الاستغراب هو أن يكون بين المنظومات المهداة إلى فوز ما هو متكلف ومستعاد وسطحي، كمثل قوله:

أيا سيدة الناسِ

لقد قطّعت أنفاسي

يلوموني على الحبّ

وما في الحب من باسِ

ألا قد قدُمتْ فوزٌ

فقرَّت عينُ عباسِ

رغم أن العباس يعرض في ديوانه للكثير من النساء، ومعظمهن من الجواري فإن فوز هي التي احتلت النصيب الأوفر من شعره الغزلي

ولعل الأمر يجد تفسيره في كون العباس لم يحصر اسم فوز في المرأة التي محضها قلبه، بل استعاره لغير واحدة من نسائه العابرات. إضافة إلى أن رغبته بأن تصدح بهذا الاسم حناجر المغنين والمغنيات، جعلته يتنازل عن سقف شعريته العالي، لمصلحة النصوص السهلة والصالحة للغناء، خصوصاً أن احتفاء عصره بهذا الفن، لم يكن موازياً لاحتفاء الأمويين به فحسب، بل كان متجاوزاً له بفعل التطور والرخاء واختلاط الشعوب والثقافات.

وعلينا ألا نغفل أيضاً أن النزوع النرجسي للعباس، قد دفعه إلى أن يصيب بقصائده ومقطوعاته أكثر من هدف. فرغبته في أن يحاكي التجربة الفريدة لعمر بن أبي ربيعة، والتي جعلته يكرس بعضاً من النصوص لسرد فتوحاته ومغامراته العاطفية التي يواجه فيها المخاطر ليظفر بامرأته المعشوقة، لم تحل دون رغبته الموازية في التماهي مع تجارب العذريين الكبار، وما يستتبعها من بوح صادق وشفافية مفرطة.

إلا أن المقارنة بين النموذجين الحسي والمتعفف في تجربة الشاعر، لا بد أن تصبح في مصلحة هذا الأخير، حيث يذهب العباس بعيداً في الشغف وحرقة النفس، وفي الأسئلة المتصلة بالحب واللغة والفراق والموت. وهو إذ يحول العناصر والمرئيات مرايا لروحه الظامئة إلى الحب، تتراءى له فوز في كل ما يلوح له من الأشياء وظواهر الطبيعة، حتى إذا أبصر السيل منحدراً من أعالي الهضاب، تذكر أن ثمة في مكان قريب، حبيبة له «مسيلة» للحنين والدموع وآلام الفراق، أنشد قائلاً:

جرى السيلُ فاستبكانيَ السيلُ إذ

جرى وفاضت له من مقلتيّ سروبُ

وما ذاك إلا حيث أيقنتُ أنه

يمرُّ بوادٍ أنتِ منه قريبُ

يكون أجاجاً دونكمْ فإذا انتهى

إليكمْ تلقَّى طيبكمْ فيطيبُ

أيا ساكني شرقيّ دجلةَ كلُّكمْ

إلى النفس من أجل الحبيب حبيبُ