علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

قال إن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدّعين مجالات للظهور

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

 

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.


مقالات ذات صلة

صيد الأسود على وعاء معدني من سلطنة عُمان

ثقافة وفنون وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني

صيد الأسود على وعاء معدني من سلطنة عُمان

كشفت أعمال التنقيب الأثرية في سلطنة عُمان عن مجموعة من الأوعية المعدنية تعود إلى المرحلة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون رواية أردنية عن صراع الإنسان مع الزمن

رواية أردنية عن صراع الإنسان مع الزمن

تقوم الفكرة الأساسية في رواية «لون آخر للغروب» للكاتبة الأردنية هيا صالح، حول صراع الإنسان مع الزمن، وهو الصراع الذي من أسبابه الأساسية مفهوم السّلطة

«الشرق الأوسط» (عمان)
ثقافة وفنون بيرسيفال إيفيريت

بيرسيفال إيفيريت يقلب رواية مارك توين

بيرسيفال إيفيريت لم يقلبْ مارك توين رأساً على عقب، كما يدَّعِي العنوان، الذي لعبت دوراً في صياغته الرغبة في أن يكون لافتاً وجاذباً،

د. مبارك الخالدي
ثقافة وفنون صافي ناز كاظم تمزج السيرة الذاتية بالنقد

صافي ناز كاظم تمزج السيرة الذاتية بالنقد

تتميز نصوص الكاتبة المصرية صافي ناز كاظم بمذاق خاص من الحيوية والصدق والحرارة ينبع من مزجها الدائم بين السيرة الذاتية والرؤى النقدية

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

لماذا تتكرّر ظاهرة تغييب أسماء المترجمين عن أغلفة الكتب وصفحاتها الداخلية، وهل يعكس هذا تجاهلاً لدور المترجم في إعادة صياغة النصوص؟

هيثم حسين

صيد الأسود على وعاء معدني من سلطنة عُمان

وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني
وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني
TT

صيد الأسود على وعاء معدني من سلطنة عُمان

وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني
وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني

كشفت أعمال التنقيب الأثرية في سلطنة عُمان عن مجموعة من الأوعية المعدنية المزينة بنقوش تصويرية تعود إلى المرحلة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد، منها وعاء عُرض ضمن معرض أقيم في ربيع 2023 بمتحف الفنون الجميلة في مدينة ليون الفرنسية، وحمل عنوان «رحلة إلى أرض اللبان». خرج هذا الوعاء المميز من مقبرة في ناحية من ولاية سمائل في محافظة الداخلية، تُعرف بناحية الباروني، وهو من القطع التي وصلت بشكل شبه كامل، وتزينه حلقة دائرية تصوّر فارساً يحمل رمحاً وسط ثلاثة أسود.

دخل هذا الوعاء المتحف الوطني العُماني في مسقط، وهو مصنوع من البرونز، على شكل زُبْدِيَّة يبلغ قطرها 16 سنتمتراً وعمقها 4.6 سنتمتر. يُزين وسط قاع هذه الزُبْدِيَّة نجم وردي يتكون من أربع شتلات بيضاوية مروّسة، تفصل بينها أربع شتلات دائرية. يستقر هذا النجم وسط إطار دائري تلتفّ من حوله أربعة حيوانات رباعية القوائم صُوّرت بشكل جانبي. يظهر صياد يعتلي دابة ضاع الجزء الأكبر من بدنها، غير أنها حافظت على رأسها، وهو على شكل حصان ظهرت ملامحه في وضعية جانبية بشكل كامل. يظهر هذا الصياد في وضعية مشابهة، ويبدو حليق الرأس، عاري الصدر، مرتدياً مئزراً بسيطاً يلتف حول حوضه وأعلى ساقيه.

نراه يمد ذراعه اليمنى إلى الأمام، ممسكاً بزمام حصانه، ويرفع يده اليسرى في حركة موازية، شاهراً رمحاً مسنوناً في اتجاه أسد ضخم يفتح شدقيه على اتساعهما، في مواجهة مباشرة مع الحصان. حدّد تكوين هذا الأسد بدقة تشهد لرهافة كبيرة في التنفيذ الحرفي. الجسم طويل، ومفاصله مجرّدة من التفاصيل، وأعضاؤه أربع قوائم مستقيمة، وذيل طويل وملتو، تعلو طرفه جمة بيضاوية.

تتكرّر صورة هذا الليث بشكل متطابق في الطرف المواجه، حيث تحضر بشكل معاكس، وبين الأسدين المتماثلين، يظهر حيوان ضاعت ملامحه بشكل شبه مبكر، وما تبقّى منها يُظهر أنّها تمثّل أسداً ثالثاً مشابهاً على الأرجح.

بين ظهر الفرس وظهر الأسد الذي يقف من خلفه، نرى ثعباناَ يلتوي عمودياً في الأفق. وفي الطرف المقابل، نرى ثعباناً مماثلاً يفصل بين الأسد المواجه للحصان والأسد الذي ضاعت صورته. يتبنّى هذان الثعبانان في تكوينهما طرازاً شاع خلال العصر الحديدي في نواحٍ عدة من شبه جزيرة عُمان، على مدى أكثر من ألف عام. وتشهد لهذا الشيوع عشرات الأفاعي المعدنية التي عُثر عليها في مقابر أثرية تتوزّع على مواقع تتبع في زمننا سلطنة عُمان ودولة الإمارات العربية.

في المقابل، يشكّل صيد الأسود الذي يزيّن هذا الوعاء مشهداً من المشاهد الحيوانية المتعدّدة التي تزيّن مجموعة من الأوعية المعدنية الجنائزية، كشفت عنها عمليات المسح والتنقيب المتواصلة في الكثير من المقابر الأثرية الخاصة بهذا الإقليم العُماني. تعود هذه الأوعية إلى المرحلة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد، كما تشير اللقى المختلفة التي عُثر عليها في هذه المقابر، وتتميّز بنقوشها التصويرية التي يغلب عليها الطابع الحيواني بشكل شبه دائم. تحضر هذه النقوش في سلسلة من المشاهد تتغيّر ملامحها بين وعاء وآخر، غير أنها تتبع قالباً جامعاً يشكّل أساساً لها. ويتمثّل هذا القالب الواحد في نجم وردي مجرّد، تحيط به حلقة دائرية تصويرية تتغيّر عناصرها الحيوانية وتتبدّل.

يشابه مشهد صيد الأسود على وعاء سمائل مشهداً آخر على كسور من وعاء برونزي من موقع مليحة في الشارقة

خرج وعاء سمائل من محافظة الداخلية، حيث يقع الوادي المعروف بوادي سمائل بين سلسلتين من جبال الحجر، أولاهما سلسلة جبال الحجر الغربي، وقمتها الجبل الأخضر، وثانيتهما سلسلة جبال الحجر الشرقي، وقمتها جبل سمان. ونقع على أربعة أوعية عُمانية مزينة بنقوش حيوان تختلف مكوناتها بشكل كلّي عن مكونات نقش وعاء سمائل، ومصدر هذه الأوعية موقع عملا في ولاية عبري التابعة لمحافظة الظاهرة، وتبدو هذه المحافظة أشبه بسهل ينحدر من السفوح الجنوبية لسلسلة جبال الحجر الغربي، في اتجاه صحراء الربع الخالي.

يشابه مشهد صيد الأسود الذي يزيّن وعاء سمائل مشهداً يحضر بشكل مجتزأ على كسور من وعاء برونزي مصدره موقع مليحة في إمارة الشارقة، وفيه يظهر أسد في وضعية جانبية بين صيادَين ينقضان عليه. يرفع أحد هذين الصيادَين درعه في وجه الطريدة الوحشية، بينما يغرز رفيقه خنجره في مؤخرتها. كذلك نجد على طبق آخر مصدره موقع الدور في أم القيوين مشهداً من هذا الصنف، وفيه يظهر فارس يُطلق سهماً في اتجاه أسد ينتصب من أمامه، وفارس آخر يرفع رمحه في اتجاه أسد آخر يقف في مواجهة حصانه.تشهد هذه القطع الفنية لتقليد فني خاص بهذا الإقليم العُماني، ظهرت شواهده في العقود الثلاثة الأخيرة، وينقسم هذا التقليد كما يبدو فروعاً عدّة يجمع بينها أساس واحد. يمثّل نقش زُبْدِيَّة سمائل فرعاً من هذه الفروع، ويختزل جماليته بشكل بديع، تشهد له حرفية عالية في النقش المتقن والمرهف.