مضيفات عبد الحكيم قاسم الشريرات وأطباق إيكو الغبية!

تمثيل الحياة في السماء

أومبرتو إيكو:  ساخر لم يقدر السخرية - عبد الحكيم قاسم: مؤامرة تديرها المضيفات في الخفاء - أليساندرو باربكو:  الموسيقى تهزم الخوف
أومبرتو إيكو: ساخر لم يقدر السخرية - عبد الحكيم قاسم: مؤامرة تديرها المضيفات في الخفاء - أليساندرو باربكو: الموسيقى تهزم الخوف
TT

مضيفات عبد الحكيم قاسم الشريرات وأطباق إيكو الغبية!

أومبرتو إيكو:  ساخر لم يقدر السخرية - عبد الحكيم قاسم: مؤامرة تديرها المضيفات في الخفاء - أليساندرو باربكو:  الموسيقى تهزم الخوف
أومبرتو إيكو: ساخر لم يقدر السخرية - عبد الحكيم قاسم: مؤامرة تديرها المضيفات في الخفاء - أليساندرو باربكو: الموسيقى تهزم الخوف

تُصرُّ شركات الطيران على عرض إجراءات السلامة قبل الإقلاع، بينما يصر أغلب الركاب على تجاهل هذه الفقرة؛ فلم يعد أحد من طائرة معطوبة ليحكي لنا إن كان عرض إجراءات السلامة الشيق قد أفاده! لكن لا أحد بوسعه أن يتجاهل الفقرة التالية؛ فقرة تمثيل الوجود الراسخ!
عرض مسرحي بلا نص، يندمج فيه الركاب مع طاقم الضيافة؛ يتصرفون كما لو كانوا آمنين على أرض متينة. يشربون ويأكلون، يتمشون، ينامون، يقرأون، يتبادلون التحية ونظرات الإعجاب، يلتقطون لأنفسهم صوراً تذكارية مع نجوم ذلك المجتمع الطيب ويطلبون توقيعاتهم على دفاتر يومياتهم.
بعض الشركات توقفت عن تقديم الوجبة على رحلاتها القصيرة ضغطاً للنفقات، لكنها لا تترك الراكب دون أن تمنحه شيئا يناسب العرض القصير. زجاجة مياه وقطعة بسكويت أو بنبون، إذ لا يمكن أن يكون «تمثيل الحياة الطبيعية» في هذا الظرف غير الطبيعي مقنعاً دون وجود طعام، ولو رمزياً.
الذين يشيرون بأيديهم رافضين الوجبة عدد نادر جداً من الركاب، هم عادة محترفو السفر الذين يفضلون قضاء وقتهم في إنجاز عمل ما أو النوم، وأحياناً البسطاء الذين يركبون الطائرة للمرة الأولى مخافة أن يدفعوا ثمن ما يأكلون. لكن الأغلبية تُقبلُ على طقس المناولة بإخلاص.
يتقبلون ـ سعداء ـ تلك الوجباب، حتى ركاب الدرجة الأولى الذين أُتخموا منذ دقائق في قاعات الانتظار الفخمة الخاصة بركاب هذه الدرجة، وحتى في رحلة العودة، رغم أن طعام البيت ينتظرهم.
من الناحية العملية، يمكن بسهولة إلغاء وجبة الطائرة؛ فالمدة الطبيعية بين الوجبات تصل إلى ثماني ساعات، أي أكبر من زمن معظم الرحلات الجوية، لكن ما يجري في السماء ليس أكلاً تماماً؛ بل هو عرضٌ تمثلي، ينسى فيه الجميع هشاشة وضعهم بين السماء والأرض.
المضيف يجر ويدفع عربات الطعام في الممر الضيق، وعليه أن يحاذر من صب الشاي على رأس الراكب تحت تأثير هزة مفاجئة للطائرة أو حركة مفاجئة من الراكب نفسه.
والراكب عليه أن يتصرف بمهارة في حيز ضيق مع صينية الأكل الصغيرة بما عليها من أوان صغيرة متلاصقة، وعليه أن يتخلص من مواد التغليف البلاستيك والألمونيوم دون أن يلوث ثيابه، وأن يمتلك مهارة لاعب شطرنج في تنقيل البيادق على رقعة الصينية الصغيرة واستخدام ملاعق وسكاكين وشوك تحاكي أدوات المائدة بشكل فكاهي.
يسخر أومبرتو في كتابه «كيفية السفر مع سلمون» من أنواع الوجبات التي تُقدم على الطائرة. البازلاء مثلاً، التي تنزلق تحت ياقة القميص أو تجد طريقها إلى ثغرات فتحات البنطلون. ويعدد وجبات كثيرة جافة يمكن تقديمها على الطائرات؛ فالجاف لا يكون بالضرورة قبضة حبوب.
يستغرب اختيار الطائرات حتى في الخبز الذي تختاره دائماً من النوع غير المتماسك الذي يتحول إلى نثار، كما يستغرب اتساع فناجين الطائرات وانخفاض حافتها بشكل مؤسف، ويقول إن هذه النوعية السيئة والغبية من أدوات المائدة لا يمكن أن نجدها في أي مكان على اليابسة، لأن شركات الطائرات تحتكرها.
خيارات الطعام وأدوات المائدة التي تؤدي حتماً إلى تلويث الملابس يعتبرها إيكو نتاج الغباء البشري، ولم يضع في حسبانه أن تكون هذه الصعوبات الجمة، وغير القاتلة على أي حال، جزءاً من التدبير الذكي لحمل الركاب على نسيان الخوف.
الأطعمة السائلة في أوان غبية تجعل العرض منهكاً إلى الحد الذي يدفع الركاب إلى التركيز في محاولات النجاة من امتحان تناول الوجبة بدلاً من التفكير في مخاطر الموت في حادث.
إلى جانب الصعوبات العملية، هناك السلوى التي يوفرها الجمال. تختار الشركات الناجحة مضيفات جميلات ومضيفين وِساماً، لكن هذا التدبير ليس ضرورياً؛ ففي أوقات الخطر هذه يكون الإنسان أكثر هشاشة، وتستيقظ فيه غريزة البقاء، ويصبح قادراً على تثمين أقل المفاتن شأناً، حيث يكون حنين الأنصاف إلى الاكتمال أكثر منه في أي مكان آخر.
كذلك، لا تُفوِّت الشركاتُ فرصَ الإدهاش بقائمة السينما والموسيقى والصحف على طائراتها، وما تجده جديداً يُضفي على هذا المكان الهش رسوخاً أرضياً.
قد يكون الخوف على متن السفينة أقل ثقلاً، لكن زمن الإبحار أطول من زمن الطيران. قد ننظر إلى البحر أو المحيط من فوق الشاطئ الصلب بسعادة وفضول يتجاوزه إلى التفكير فيما بعده على الضفة الأخرى، لكنه يتحول إلى صحراء عدائية عندما نصبح في قلبه، ولا بد من محفزات قوية لنسيان الكينونة فوق السفن.
لا تستطيع شركة الملاحة أن تتكفل بصناعة النسيان وحدها دون مساهمة الركاب، وهم لا يتأخرون. المساحة أرحب مما هي على الطائرة والوقت يكفي لتكوين صداقات، لمغامرات سرقة، لنسج قصص حب، وهذا يلزمه الرقص، والرقص تلزمه موسيقى، ومن غير الممكن إرضاء راكب السفينة بالموسيقى المُعلَّبة كما في الطائرة. وجود العازفين ضرورة، أما عددهم ومستواهم فيتوقف على حجم وتصنيف السفينة.
في رواية أليساندرو باريكو «1900» يقول الراوي عازف البوق: «كنا نعزف ثلاث أو أربع مرات في اليوم، للأغنياء من الطبقة العليا أولاً، ثم لركاب الطبقة الثانية، وفي بعض الأحيان كنا نذهب لدى المهاجرين البؤساء، ونعزف لهم دون ارتداء الزي الموحد، كيفما اتفق، وكانوا يشاركوننا العزف أحياناً. كنا نعزف؛ لأن المحيط شاسع ومخيف، كنا نعزف كي لا يشعر الناس بمرور الوقت، وكي ينسوا أين كانوا ومن يكونون. كنا نعزف ليرقصوا؛ فإذا رقصت لا تموت...».
لكن سفر البحر لم يعد خياراً سوى للهاربين دون تأشيرات سفر، وقلة من عشاق البطء. المنافسة الآن تجري في السماء، ولا تفتأ شركات الطيران تخترع ما يجذب المسافرين.
«كمال» بطل رواية عبد الحكيم قاسم «رجوع الشيخ» لم ينطل عليه «تمثيل الحياة» وظل محافظاً على وساوسه بشأن ذلك الكيان الجسيم الثقيل المعلق في الهواء، وبقي في انتظار احتمال السقوط الوارد جداً، وبدلاً من تأمل جمال المضيفات، ترك العنان لغضبه من طريقتهن في التزين على طراز واحد في قص الشعر وطلاء الشفتين وتكحيل العينين. حتى ابتساماتهن اعتبرها تكشيرات أنياب، ولم يعجبه أنهن يضعن أمام المسافرين وجبات موحدة، وعندما اختفين توهم أنهن يدبرن مؤامرات شريرة، لم تلبث أن أسفرت عن اهتزاز مخيف للوحش الطائر. كانت بالطبع مطبات هوائية مرت بها الطائرة، لكنها هبطت بسلام، وبدلاً من المخاوف الخيالية والعدائية المتوهمة واجه خوفاً حقيقياً في تحقيق أمني. كانت الرحلة إلى فاس، وعاد منها بكتاب «رجوع الشيخ إلى صباه» في حقيبته. لم يسبق للمحقق الغاضب أن قرأ الكتاب، لكنه مثبت لديه في قائمة الكتب الخطرة. وانتهى التحقيق بالمصادرة.
كان عبد الحكيم قاسم مصري تماماً في خوفه من الطائرات. ولا أعرف إن كان هناك غير المصريين من يُفصح عن خوفه من الطيران في لحظة الهبوط!
مع ملامسة العجلات للأرض يندلع التصفيق من آخر الطائرة. لا أحد يُصفق عند الإقلاع الذي لا يحتاج إلى براعة أقل. هذا يؤكد أن كلاً من المصفقين زارته مخاوف الاختطاف أو العطل المفاجئ أو قلة كفاءة الطيَّار.
كل راكب طائرة تراوده هذه الأحلام الخطرة، بينما يكون منخرطا في تمثيل الحياة العادية بلطف محتفظا بمخاوفه لنفسه لأن رواية الأحلام السيئة هي الضمانة الأكيدة لتفسيرها. وجميعنا مهما تعلم أو تثقف أو تمجرم (أتقن الإجرام) يتشبث بأرض أساطيره ويتذكر التفاؤل والتشاؤم وقت الخطر. والأهم أن الكل يصبح طيباً وبسيطاً. ولا أدري لماذا لا تعقد محادثات السلام على متون الطائرات؟!
عندما تهبط الطائرة يشعر الناجون أنهم صاروا أخيرا في أرض الحقيقة. واستردوا السيطرة على حيواتهم. يتنكرون للصداقة التي توثقت في ساعات الخوف، ويعودون غرباء عن بعضهم البعض، يتحرى الواحد منهم الوقوف في الجهة الأخرى أمام مخرج الحقائب، ثم يتدافعون بجشع على باب الخروج.



«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
TT

«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)

اختارت مبادرة «نوابغ العرب» البروفسور اللبناني بادي هاني للفوز بالجائزة عن فئة الاقتصاد، تقديراً لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية.

وهنّأ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، البروفسور هاني، مؤكداً أن استدامة النمو الاقتصادي المرن والمتوازن تُعد ركناً أساسياً لتقدم المجتمعات وازدهار الحضارة الإنسانية. وقال في منشور على منصة «إكس» إن هاني، أستاذ الاقتصاد في جامعة سيراكيوز، قدّم «إسهامات استثنائية» في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية، لافتاً إلى أنه نشر أكثر من 200 بحث علمي، وأن كتابه في تحليل نماذج البيانات الاقتصادية بات مرجعاً للباحثين حول العالم.

وأشار الشيخ محمد بن راشد إلى حاجة المجتمعات العربية إلى اقتصاديين محترفين، مؤكداً أن السياسات الفاعلة تُبنى على علم راسخ وبيانات دقيقة، وأن «اقتصاد الأمة يُصنع بعقولها»، معبّراً عن تطلعه إلى «فصل عربي جديد» في مسيرة استئناف الحضارة العربية.

وجاء منح جائزة الاقتصاد هذا العام للبروفسور بادي هاني تقديراً لإسهاماته في تطوير أدوات التحليل الاقتصادي، خصوصاً في مجال «تحليل لوحة البيانات الاقتصادية»، الذي يعزز دقة دراسة البيانات عبر دمج معلومات من فترات زمنية ومصادر متعددة. وأسهمت ابتكاراته، بحسب المبادرة، في تحسين تقييم آثار السياسات الاقتصادية على المدى البعيد وعبر مناطق مختلفة، ما دفع حكومات ومؤسسات إلى تبنّي أساليبه في قياس كفاءة السياسات والإنفاق العام والأطر التنظيمية.

كما قدّم هاني دورات تدريبية لمختصين اقتصاديين ضمن مؤسسات دولية، بينها البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وبنوك مركزية عدة. ونشر أكثر من 200 بحث علمي، وله مؤلفات أكاديمية مؤثرة، أبرزها كتاب «تحليل نماذج البيانات الاقتصادية» المرجعي. وهو يحمل درجة البكالوريوس في الإحصاء من الجامعة الأميركية في بيروت، والماجستير من جامعة كارنيجي ميلون، والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة بنسلفانيا.

وفي إطار الإعلان عن الجائزة، أجرى محمد القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء ورئيس اللجنة العليا لمبادرة «نوابغ العرب»، اتصالاً مرئياً بالبروفسور بادي هاني أبلغه خلاله بفوزه بجائزة «نوابغ العرب 2025» عن فئة الاقتصاد، مشيراً إلى أهمية الأبحاث والنظريات والأدوات التي طورها على مدى عقود، والتي أصبحت ركيزة أساسية في التحليل الاقتصادي الاستراتيجي القائم على المعطيات والبيانات الدقيقة لاستشراف مستقبل التنمية وتعظيم فرصها.

واعتبر القرقاوي أن فوز هاني يمنح «دافعاً قوياً» لجيل جديد من الباحثين والمحللين والاقتصاديين العرب للإسهام في رسم المرحلة المقبلة من التنمية الشاملة في المنطقة.


آلاف يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند «ستونهنج» في إنجلترا

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
TT

آلاف يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند «ستونهنج» في إنجلترا

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

احتشد آلاف الأشخاص ورقصوا حول «ستونهنج» في إنجلترا، بينما ارتفعت الشمس فوق الدائرة الحجرية ما قبل التاريخ، اليوم (الأحد)، في الانقلاب الشتوي.

وتجمعت الحشود، العديد منهم مرتدون زي الدرويد والمشعوذين الوثنيين، قبل الفجر، منتظرين بصبر في الحقل البارد والمظلم في جنوب غربي إنجلترا. وغنى بعضهم، وضربوا الطبول، بينما أخذ آخرون وقتهم للتأمل بين الأعمدة الحجرية الضخمة.

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

يقوم كثيرون بزيارة هذه الدائرة الحجرية كل صيف وشتاء، معتبرين ذلك تجربة روحية. ويعد النصب القديم، الذي بني بين 5000 و3500 سنة مضت، مصمماً ليتوافق مع حركة الشمس خلال الانقلابات، وهي تواريخ رئيسية في التقويم بالنسبة للمزارعين القدماء.

وقالت منظمة إنجلش هيريتاج، المسؤولة عن إدارة «ستونهنج»، إن نحو 8500 شخص احتفلوا يوم السبت بالموقع في سالزبوري بلين، على بعد نحو 75 ميلاً (120 كيلومتراً) جنوب غربي لندن. وأضافت أن البثّ المباشر للاحتفالات جذب أكثر من 242 ألف مشاهدة من جميع أنحاء العالم.

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

واليوم (الأحد)، هو أقصر يوم في السنة شمال خط الاستواء، حيث يشير الانقلاب الشتوي إلى بداية الشتاء الفلكي. أما في نصف الكرة الجنوبي، فهو أطول يوم في السنة ويبدأ الصيف.

ويحدث الانقلاب الشتوي عندما تصنع الشمس أقصر وأدنى قوس لها، لكن العديد من الأشخاص يحتفلون به كوقت للتجديد، لأن الشمس بعد يوم الأحد ستبدأ بالارتفاع مجدداً، وستزداد مدة النهار يوماً بعد يوم حتى أواخر يونيو (حزيران).


«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
TT

«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)

يقدّم الفيلم العراقي «الأسود على نهر دجلة» تجربة تتقاطع فيها الذاكرة الشخصية بالذاكرة الجماعية، ويعود فيها المخرج زرادشت أحمد إلى المُوصل، مدينة الجراح المفتوحة، بعد سنوات من محاولته الابتعاد عن العراق وصراعاته، فبعد نجاح فيلمه السابق «لا مكان للاختباء» وما تركه من أثر عاطفي ثقيل عليه، كان المخرج يؤكد لنفسه أنه لن يصوّر في المنطقة مرة أخرى.

لكن المُوصل كما يقول لـ«الشرق الأوسط» أعادت جذبه ببطء حين رأى الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب مع تنظيم «داعش»، وواجه أسئلة لم يتمكن من تجاهلها حول كيفية سقوط مدينة بهذا التاريخ أمام 800 مقاتل فقط، وكيف يحاول سكانها اليوم النهوض من جديد.

الفيلم الذي حصد التانيت الفضي للفيلم الوثائقي الطويل ضمن فعاليات الدورة الـ36 من «أيام قرطاج السينمائية»، بتونس، بدأت رحلة مخرجه من فكرة مختلفة تماماً، إذ كان يبحث عن تحفة أثرية، تُعرف باسم «بطارية بغداد»، ظنّ أنها سُرقت بعد عام 2003، قبل أن يكتشف وجودها في قبو المتحف الوطني.

وثّق الفيلم جانباً من الأضرار التي لحقت بالموصل (الشركة المنتجة)

لكن زيارة إلى الموصل بدّلت مسار الفيلم، ففي أحد الأزقة الضيقة للمدينة القديمة، وقف أمام منزل دُمر بالكامل، ولم يبقَ منه سوى بوابة رخامية، يعلوها أسدان منحوتان، كأنهما الحارسان الأخيران لزمنٍ مضى، هذا المشهد كان كافياً ليقرر أنه أمام قصة أكبر من مجرد بحث أثري، بل أمام ذاكرة مدينة بأكملها.

تعرف أحمد خلال تلك الرحلات إلى بشّار، الصياد ابن الموصل وصاحب المنزل المدمر، 4 أجيال من عائلته عاشت في ذلك البيت، واليوم لم يبقَ لهم سوى هذين الأسدين، في نظر بشّار لم يكونا حجارة، بل كانا امتداداً لعائلته، لذكرياته، لروحه كلها، يذهب يومياً إلى الأطلال ليحرسهما، ويواجه محاولات سرقة متكررة، ويقاوم شعوراً لا ينتهي بأن الدولة تخلّت عنه، وأن مدينته فقدت القدرة على ضمّه، مأساته في الفيلم ليست فقدان منزل فقط، بل فقدان هوية، وفشل محاولات الإقناع بأن الوقت قد حان للبدء من جديد.

رصد الفيلم جوانب مختلفة من الحياة في الموصل (الشركة المنتجة)

وفي مقابل بشار، يظهر فخري، الشخصية التي تضيف بعداً مختلفاً للفيلم، رجلاً ستينياً، جمع على مدى سنوات أكثر من 6 آلاف قطعة أثرية أنقذها من بيوت مهجورة وبقايا خراب الحرب، وحوّل منزله إلى متحف مفتوح للناس، باع سيارته، ومقتنيات زوجته، ومدخراته كلها ليحافظ على جزء من هوية الموصل. في البداية، كان يحلم بأن يضم باب منزل بشّار إلى مجموعته، معتقداً أنه يحمي تاريخ المدينة من الضياع.

لكن مع الوقت تبدأ تحولات داخلية عميقة تظهر في شخصيته، خصوصاً حين يواجهه صديقه الموسيقار فاضل بأن التاريخ ليس سلعة، وأن ما تبقى لبشّار ليس حجراً بل حياته نفسها، فيصبح هذا الصراع الإنساني بين رجلين يحبان مدينتهما على طريقتين مختلفتين محوراً أساسياً ينبني عليه الفيلم.

أما فاضل، الموسيقار الذي عاش 3 سنوات من الرعب تحت حكم «داعش»، فكان يخفي آلته الموسيقية خشية إعدامه. يخرج اليوم إلى الشارع، يعزف وسط الأنقاض، يعلّم جيلاً جديداً من الشباب ومعظمهم من الفتيات ويعيد الموسيقى إلى مدينة حاول التطرف أن يخنق صوتها، وجوده في الفيلم لا يقدّم بعداً موسيقياً جمالياً فقط، بل يعكس التغيّر الأعمق الذي عاشته الموصل بعد التحرير، انفتاحاً ثقافياً مفاجئاً وغير متوقع، وعودة للحياة المدنية من خلال الفن، لا السياسة.

التصوير كان رحلة محفوفة بالمخاطر كما يؤكد المخرج، فالكاميرا في العراق ليست موضع ترحيب، الناس يخشونها، السلطات تشك فيها، والمخابئ والممرات تحت الأرض كانت لا تزال مليئة بالألغام وبقايا العبوات، كثيراً ما أوقفته الشرطة أو اتهمه البعض بالتجسس، بينما كان يحاول الحفاظ على سلامة فريقه وسلامة الشخصيات التي ترافقه داخل أحياء مهدمة. ومع ذلك، كان الإحساس بأن الوقت ضيق والمدينة تتغير بسرعة دافعاً له للاستمرار، كما لو أنه يصوّر آخر فرصة لتوثيق ما تبقى من ذاكرة شفافة قبل أن تذوب.

خلال 5 سنوات من العمل، جمع المخرج أكثر من 600 ساعة تصوير، لم يكن يعتمد على سيناريو ثابت، بل على تطور القصة من قلب الواقع، وعلى اللحظة التي يلتقطها بعفوية، وعلى مشاهد تنشأ من الصمت أو من جملة يقولها بشّار أو فخري أو فاضل. ولهذا يبدو الفيلم حياً، غير مشكَّل مسبقاً، أقرب إلى تسجيل نبض مدينة تبحث عن روحها.

عودة الروح والموسيقى إلى الموصل بعد تحريرها من أيدي «داعش» (الشركة المنتجة)

يمتد أثر الفيلم إلى ما يتجاوز الشخصيات، فالموصل التي يظهرها أحمد ليست مجرد مدينة مدمرة، بل مدينة تحاول استعادة معمارها وروحها وذاكرتها، حيث نساء يخرجن إلى الساحات من جديد، فنانون يعيدون افتتاح المسرح، موسيقيون يدرّبون أطفالاً صغاراً، ومتحف وطني يُرمَّم بعد أن دمّره «داعش»، كل تفصيلة تتحرك داخل الفيلم باعتبارها جزءاً من سؤال أكبر؛ هل يمكن لمدينة فقدت كل شيء أن تستعيد هويتها؟ وهل يستطيع الإنسان أن يشفى من ذاكرة الحرب؟

ورغم أن الموصل اليوم أكثر أماناً، فإن المخرج يذكّر بأن الأفكار المتطرفة لا تختفي بسهولة، ويرى أن المدينة مثل مرآة للمنطقة كلها، وأن ما يحدث فيها يعكس ما يمكن أن يحدث في مدن أخرى إذا تُركت بلا دعم حقيقي أو دون إعادة بناء للثقة والوعي والانتماء.