بدت بيترا ڤولپي، مخرجة وكاتبة الفيلم الألماني - السويسري «مناوبة متأخرة»، وكأنَّها تدخل هذا المشروع وهي مُثقلة بوعيٍ طويل الأمد تجاه قطاع لا يحظى بالإنصاف الذي يستحقه، فموضوع العاملين في الرعاية الصحية كان يشغلها لسنوات، حتى قبل جائحة «كورونا». «أزمة نقص الممرّضين لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت ظاهرةً متفاقمةً في سويسرا وأوروبا والعالم»، وفق قولها.
تضيف بيترا ڤولپي لـ«الشرق الأوسط» أن احتكاكها الشخصي بالمهنة، عبر تجربة سكنها مع ممرّضة لسنوات، جعلها تشهد يومياً حجمَ الضغوط التي يعيشها العاملون في هذا القطاع الحيوي، الأمر الذي دفعها إلى التفكير في تحويل هذا الهمّ إلى مادة سينمائية.
وتتابع: «على الرغم من أن جائحة كورونا أعادت الاعتبار للممرّضين بوصفهم العمود الفقري للمجتمع، فإن العالم سرعان ما نسي تضحياتهم بمجرد انتهاء الأزمة، وهو ما أثار لديَّ شعوراً بضرورة التذكير، عبر الفن، بما يتعرَّضون له يومياً؛ لذا رأيتُ في الفيلم فرصةً للتعبير عن موقفي السياسي، وعن اهتمامي بقضايا النساء، إذ إنهنَّ يشكّلن الغالبية الساحقة من العاملين في التمريض».
وتوضح المخرجة الألمانية أن «نقطة الانطلاق الحقيقية بدأت عندما قرأتُ روايةً توثيقيةً كتبتها ممرّضة ألمانية تتناول مناوبةً واحدةً فقط ضمن واقع مرهق، وقد شعرتُ بأن سرد نقطة زمنية واحدة يمكن أن يحمل طابعاً من الإثارة والتوتر، كأنها بنية فيلم تشويقي». لكن الرواية، كما تقول، لم تكن سوى شرارة الفكرة، إذ طوّرتْ ڤولپي الحكاية من خلال بحثٍ موسّع استند إلى عشرات المقابلات مع ممرّضات، وتقصّي تفاصيل المهنة من داخل المستشفيات، ومن ثَمَّ شرعت في كتابة السيناريو الذي استغرق عاماً كاملاً، قبل أن تبدأ التصوير الذي امتد لـ26 يوماً.

وعن مرحلة الإنتاج، تشير إلى أن الأمر لم يكن معقّداً كما يحدث عادةً مع مشروعات سينمائية أخرى، إذ سارعت الجهات المموّلة في سويسرا إلى دعم الفيلم، ربما لأن موضوعه واضح وملحّ، ولأن أزمة نقص العاملين في الرعاية الصحية باتت واقعاً ملموساً للجميع. لذلك لم تواجه المخرجة صعوبات في تأمين التمويل، بخلاف كثير من المشروعات التي تتطلّب مساراً طويلاً ومعقّداً.
أمّا على مستوى الإخراج، فتصف التحدي الأكبر بأنه «كيفية تمثيل 10 ساعات من العمل المتواصل في زمن سينمائي لا يتجاوز 90 دقيقة. فقد أردتُ للمشاهد أن يعيش الإحساس نفسه الذي تعيشه الممرّضة، وأن يشعر بالإنهاك نفسه الناتج عن الدوران المستمر بين المرضى، والركض خلف التفاصيل، والاستجابة للتنبيهات المتتابعة».
ولتحقيق هذا الإحساس، اعتمد الفريق لقطات طويلة غير مقطوعة في بداية الفيلم، ما استدعى تدريبات دقيقة وتنسيقاً صارماً بين الممثلين والفريق الفني، بحيث لا يُسمح لأيِّ عنصر بأن يتعثَّر خلال الحركة المستمرة للكاميرا.
وتشدّد على أن الفيلم، الذي يُعرَض ضمن فعاليات الدورة الخامسة من مهرجان «البحر الأحمر السينمائي»، لا يُعدّ اقتباساً مباشراً من الرواية الملهمة، بل هو استلهام لطريقتها في النظر إلى المناوبة الواحدة. فجميع الشخصيات والأحداث في الفيلم متخيَّلة، لكنها مستمَدة من حوارات كثيرة أجرتها مع العاملين في القطاع، ومن تجارب شخصية عايشتها. وتضرب مثالاً على ذلك قصة المريض الذي يقلقه مصير كلبه، وهي حالة استوحتها من حياتها الخاصة بوصفها صاحبة حيوانٍ أليف.
وحين ينتقل الحوار إلى البعد الإنساني للفيلم، توضّح ڤولپي أنها أرادت تقديم صورة شاملة لواقع المرضى داخل المستشفيات، «باعتبار أن الجميع مُعرَّضون لأن يكونوا في مكانهم مهما اختلفت طبقاتهم وأعمارهم وثقافاتهم. فالفيلم يعرض نماذج لشبابٍ وشيوخ ومرضى بحالات متفاوتة، في محاولة لعكس مجتمعٍ كامل داخل جناح واحد».

الأهم، من وجهة نظر المخرجة السينمائية، هو إبراز التعقيد النفسي والوجداني في مهنة التمريض؛ فالممرّضة ليست مسؤولةً فقط عن حالة طبية، بل مطالَبة بفهم ما يحتاج إليه كل مريض بوصفه إنساناً: هل يحتاج إلى دعم، أو كلمة طمأنة، أو لحظة صمت، أو لمسة حنان؟ هذا البعد، في رأيها، هو ما يجعل المهنة أكثر تعقيداً مما يظنه الجمهور.
وعن المقارنات التي يطرحها النقّاد بين فيلمها والمسلسلات الطبية التقليدية، ترى ڤولپي أن أغلب الأعمال التي تتناول بيئة المستشفيات تُقدِّم الأطباء بوصفهم الأبطال المركزيين، في حين يختفي دور الممرّض في الخلفية، رغم أنه الأقرب إلى المريض والأقدر على قراءة التحوّلات الدقيقة في حالته. لذلك حرصت على قلب هذا المنظور تماماً، فجعلت الممرّضة محور الحكاية، لا بوصفها بطلة خارقة، بل لكونها الإنسان الأكثر حضوراً وتأثيراً في مسار العلاج.
وتعود لتؤكّد أن اهتمامها بقضايا النساء حاضرٌ في كل عمل تقدّمه، «لأن التمريض مهنة تعتمد في الأساس على النساء، ومع ذلك لا يحظين فيها بما يليق من تقدير أو مكانة، سواء اجتماعياً أو مؤسّساتياً». ومن هنا جاء سعيها لتسليط الضوء على هذا التناقض، وعلى الجهد الهائل الذي تبذله ملايين النساء حول العالم من دون الاعتراف الكافي بقيمتهنّ الحقيقية.








