فيلمان لبنانيان في «متروبوليس»: قراءتان بصريتان للعنف والذاكرة

من التجميل إلى الطريق... «شاشات الواقع» صورةُ الجرح والعائلة

إبرة تُغيّر الملامح وسيارة تُعيد صياغة العلاقة (الشرق الأوسط)
إبرة تُغيّر الملامح وسيارة تُعيد صياغة العلاقة (الشرق الأوسط)
TT

فيلمان لبنانيان في «متروبوليس»: قراءتان بصريتان للعنف والذاكرة

إبرة تُغيّر الملامح وسيارة تُعيد صياغة العلاقة (الشرق الأوسط)
إبرة تُغيّر الملامح وسيارة تُعيد صياغة العلاقة (الشرق الأوسط)

أفلام متعدّدة تَشدّ متابعي العروض اليومية في صالتَي «متروبوليس» خلال مهرجان «شاشات الواقع». في هذا الفضاء الذي بات واحداً من المرافئ النادرة للسينما البديلة في بيروت، يتكرَّس دور «متروبوليس» جسراً بين المدينة والسينما العالمية، ومكاناً يمنح العروض سياقاً وشرعية ثقافية ولا يكتفي باستضافتها. فمنذ تأسيسها، شكَّلت معبراً نحو تجارب لا تصل عادة إلى الشاشات التجارية، وأرشيفاً لذاكرة مدينة ترفض المحو.

خلال المهرجان، تبدو الخيارات بمستوى رفيع، يليق بالسمعة التي راكمها هذا الصرح السينمائي؛ إذ لا يكاد يمرّ فيلم من دون أن يترك سؤالاً أو أثراً أو انطباعاً. كلّ ما يُعرض يبدو حصيلة جهد انتقائي واضح، يُضيء على أفلام وثائقية تسرد حكايات الإنسان العالق في عالم يزداد قسوة، والمُثقل بصراع الهوية والحروب والغربة والتيه.

قُبيل العرض... «شاشات الواقع» تقدّم مشهداً سينمائياً مختلفاً (الشرق الأوسط)

«فتنة في الحاجبين»: العنف قدر جماعي

في الفيلم اللبناني «فتنة في الحاجبين» لعمر مسمار، تُثبّت الكاميرا موقعها في صالون تجميل نسائي ببيروت، ولا تغادر هذه المساحة الضيّقة. هناك، تُصوَّر وجوه نساء ورجال يطرقون الباب أملاً في مظهر يُعيد إليهم توازناً مع أنفسهم ومع تلك الصورة المُرتجفة في المرآة؛ فيما خلف الجدران، الحرب الإسرائيلية الأخيرة تتهيّأ للاشتعال. الغائب عن الكادر حاضرٌ بثقله: ضجيج التهديد رائحة العنف الآتي.

الكاميرا تلتقط تفاصيل مُثيرة للانقباض من دون أن تتنقّل كثيراً: الإبر التي تنخر الوجوه، النزيف الذي يظهر أحياناً، الألم الذي يُمارَس على الطبقة الأكثر انكشافاً في الإنسان، أي وجهه. لكنه الألم التجميلي هو في الحقيقة استعارة لعنف آخر أشمل يمتدّ إلى الخارج. فما يبدو إجراء جمالياً يومياً يتحوّل إلى صورة عن «العنف الكبير» الذي يقتحم الحياة من أبواب أخرى، لكنه يتسلَّل هنا عبر الإبرة نفسها.

كلّ وجه ساحة وكلّ ساحة احتمال لانفجار جديد (لقطة من الفيلم)

الفيلم كثيف الدلالات، يتجاوز كونه لقطات من صالون تجميل. إنه تأمُّل في العلاقة المعقّدة بين الإنسان والعنف. فهؤلاء الذين يُسلّمون وجوههم طوعاً ليدٍ أخرى تُعيد تشكيلها، هم أنفسهم مَن يرضون بأن يصبح وجههم «ساحة» مفتوحة لإعادة تعريف الجمال. الوجه يُشلّ ويُعاد ترتيبه على وَقْع أخبار الحرب المقبلة، ليغدو علامةً على مصير مشترك يتقاسمه الجميع في خرائط مهدَّدة بالنار.

هكذا، يضع المخرج الجمال والخراب في مواجهة صريحة. جمالٌ مُشتهى يُعاد تصنيعه في الداخل، وخرابٌ متوقَّع يتربّص في الخارج. في كلتا الحالتين، العنف قدرٌ جماعي، سواء خرج من إبرة في وجه، أو من حرب لم تتأخّر في الاندلاع بعد انتهاء التصوير.

«يلا بابا!»: ما يُفرّق لا يلغي ما يجمع

فيلم لبناني آخر شاهدناه في «متروبوليس» ضمن «شاشات الواقع» جاء مُحمَّلاً بشحنة عاطفية خاصة، إذ يضع العلاقة بين أب وابنته في صميم حكايته، ويُحوّل رحلة برّية طويلة من بروكسل إلى بيروت مساحةً للمُكاشفة والمصالحة. «يلا بابا!» للمخرجة آنجي عبيد بحثٌ حميمي عن أب غاب طويلاً، وعن علاقة تريد الابنة أن تُعيد إليها الدفء والذاكرة.

تقترح آنجي على والدها منصور تكرار الرحلة التي قام بها قبل أكثر من 40 عاماً، حين غادر لبنان إبّان الحرب الأهلية. في البداية يتردَّد، ثم يقبل، لتنطلق الكاميرا في ملاحقة حواراتهما داخل السيارة، حيث تتكشّف تدريجياً طبقات من الماضي والحاضر. فالأب الصحافي يروي ذكرياته عن تلك الحقبة، عن الجنوب اللبناني تحت الاحتلال، وأسباب هجرته، فيما تعكس ابنته نظرة جيل جديد أكثر انفتاحاً وحرّية. وبين تحفُّظ الأب وجرأة الابنة، تنشأ مساحة مُشتركة تسمح بالبوح والتقارب، ليظهر أنّ ما يُفرّق بينهما لا يلغي ما يجمعهما.

سؤال العودة يُترَك معلّقاً (لقطة من الفيلم)

الطريق نفسه يكشف حجم التحولات السياسية التي عصفت بالمنطقة. فحدودٌ تبدَّلت، ودولٌ تفكّكت، ومسارات أُغلقت. ما كان في الثمانينات يمرّ عبر 6 دول، صار اليوم يستلزم عبور 10. وحتى سوريا، التي شكّلت جزءاً من الرحلة الأولى، أُغلقت أمامهما بسبب صراعاتها. هذا التبدُّل في الجغرافيا يصبح صدى لزمن تغيَّر ولخسارات أثقلت ذاكرة الأب وابنته.

سيارة صغيرة تحمل مسافة 40 عاماً بين أب وابنته (لقطة من الفيلم)

وعند الوصول إلى لبنان، تختلط مشاعر الأب بين النفور من واقع بلده الحالي والحنين العميق إلى أرضه الأولى. يتبدَّل مزاجه فجأة حين يدخل مَزارع الزيتون العائلية، فيستعيد بهجة الطفولة والشباب. تطرح المخرجة سؤال الانتماء: هل سيعود يوماً ليستقر في تلك الأرض؟ ولا تبحث عن إجابة نهائية بقدر ما تُظهر أنّ الرحلة نفسها هي فرصة لها لتتعرّف إلى أبيها من جديد، وله ليُواجه ذاته وذكرياته.

بذلك يكون «يلا بابا!» فيلماً عن علاقة تحتاج إلى الترميم بين جيلَيْن يُحاولان الإصغاء بعضهما إلى بعض. وفي بساطة مساره، يترك أثراً عاطفياً عميقاً.


مقالات ذات صلة

«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

يوميات الشرق المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)

«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

يقدّم فيلم «الأسود على نهر دجلة» تجربة تتقاطع فيها الذاكرة الشخصية بالذاكرة الجماعية، ويعود فيها المخرج زرادشت أحمد إلى المُوصل.

أحمد عدلي (القاهرة)
يوميات الشرق خيرية نظمي في مشهد من فيلم «هجرة» (الشرق الأوسط)

خيرية نظمي لـ«الشرق الأوسط»: حياتي الفنّية بدأت بعد الخمسين

تعود خيرية نظمي إلى فكرة السلام الداخلي، مؤكدةً أنها تعيش حالة رضا وتصالح مع الذات...

إيمان الخطاف (جدة)
يوميات الشرق أمير المصري قام ببطولة فيلم «العملاق» (مهرجان البحر الأحمر السينمائي)

المخرج البريطاني روان أثالي: أمير المصري أبهرني في «العملاق»

قال المخرج البريطاني روان أثالي إن اختيار المشهد الافتتاحي لفيلم «العملاق» لم يكن قراراً مفاجئاً، بل كان محدداً منذ المراحل الأولى للكتابة.

أحمد عدلي (جدة )
يوميات الشرق لقطة من فيلم «مملكة القصب» (مؤسَّسة الدوحة للأفلام)

حسن هادي: «مملكة القصب» كوميديا سوداء من ذاكرة الحصار

أكد حسن هادي أنَّ الفيلم حاول عكس صورة المجتمع خلال التسعينات، بسبب الحصار والعقوبات المفروضة.

داليا ماهر (الدوحة)
سينما أونا تشابلن شريرة الفيلم (تونتييث سنتشري ستديوز)

فيلم «أڤاتار: نار ورماد»... نقاط ضعف وحسنات

كل ما يحدث في «أڤاتار: نار ورماد» على مدى ثلاث ساعات و17 دقيقة كان يمكن له أن يحدث على كوكب الأرض فيما لو قرر جيمس كاميرون وكاتبا السيناريو ذلك.

محمد رُضا (بالم سبرينغز (كاليفورنيا) )

انتحار الممثل الأميركي جيمس رانسون

أرشيفية للممثل الأميركي جيمس رانسون (ا.ب)
أرشيفية للممثل الأميركي جيمس رانسون (ا.ب)
TT

انتحار الممثل الأميركي جيمس رانسون

أرشيفية للممثل الأميركي جيمس رانسون (ا.ب)
أرشيفية للممثل الأميركي جيمس رانسون (ا.ب)

توفي الممثل الأميركي جيمس رانسون، الذي جسد شخصية «زيجي سوبوتكا» في مسلسل قناة «إتش بي أو» الشهير «ذا واير» وظهر في العديد من المسلسلات التلفزيونية والأفلام الأخرى، عن 46 عاماً.

وذكر مكتب الطب الشرعي في مقاطعة لوس أنجليس في سجلاته المنشورة على الإنترنت أن رانسون توفي منتحراً يوم الجمعة.

وتشمل الأعمال السينمائية لرانسون أفلاما مثل «إت: الفصل الثاني»، و«الهاتف الأسود»، و«الهاتف الأسود 2»، كما ظهر في مسلسلات تلفزيونية من بينها دراما الشرطة «بوش» ومسلسل «بوكر فيس».


اعتقال موظف بقصر الإليزيه لاتهامه بسرقة أدوات مائدة قيّمة

أدوات مائدة وقائمة طعام في انتظار حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لعشاء الكريسماس مع جنوده في أبوظبي (أ.ف.ب)
أدوات مائدة وقائمة طعام في انتظار حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لعشاء الكريسماس مع جنوده في أبوظبي (أ.ف.ب)
TT

اعتقال موظف بقصر الإليزيه لاتهامه بسرقة أدوات مائدة قيّمة

أدوات مائدة وقائمة طعام في انتظار حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لعشاء الكريسماس مع جنوده في أبوظبي (أ.ف.ب)
أدوات مائدة وقائمة طعام في انتظار حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لعشاء الكريسماس مع جنوده في أبوظبي (أ.ف.ب)

أعلنت النيابة العامة في باريس أن 3 رجال سيمثلون أمام المحكمة، العام المقبل، بعد أن تمَّ اعتقال موظف فضيات يعمل في المقر الرسمي للرئيس الفرنسي، هذا الأسبوع، بتهمة سرقة أدوات فضية وأواني مائدة تقدر قيمتها بآلاف اليوروات.

وأفاد كبير موظفي الفضيات في قصر الإليزيه باختفاء هذه الأدوات، حيث قُدِّرت الخسائر بما بين 15 ألفاً و40 ألف يورو، وفقاً لوكالة «أسوشييتد برس».

وقد تمكَّن «مصنع سيفر»، الذي زوَّد القصر بمعظم الأثاث، من التعرُّف على عدد من القطع المفقودة بعد ظهورها على مواقع المزادات الإلكترونية. وأدت التحقيقات مع موظفي الإليزيه إلى الاشتباه بأحد موظفي الفضيات، إذ أظهرت سجلات الجرد الخاصة به أنه كان يخطط لعمليات سرقة مستقبلية.

قصر الإليزيه في باريس بفرنسا (رويترز)

وكشفت التحقيقات عن أن الرجل كان على علاقة بمديرة شركة متخصصة في بيع الأدوات المنزلية عبر الإنترنت، خصوصاً أدوات المائدة.

يأتي ذلك بعدما تمكَّن لصوص من الاستيلاء على 8 قطع مجوهرات «لا تُقدَّر بثمن» كانت مملوكة سابقاً لملكات وإمبراطورات فرنسيات، من بينها تيجان مرصعة بالأحجار الكريمة، وقلائد، وأقراط، وبروشات، قبل أن يضطروا إلى الفرار بعد تدخل موظفي المتحف.


«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
TT

«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)

اختارت مبادرة «نوابغ العرب» البروفسور اللبناني بادي هاني للفوز بالجائزة عن فئة الاقتصاد، تقديراً لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية.

وهنّأ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، البروفسور هاني، مؤكداً أن استدامة النمو الاقتصادي المرن والمتوازن تُعد ركناً أساسياً لتقدم المجتمعات وازدهار الحضارة الإنسانية. وقال في منشور على منصة «إكس» إن هاني، أستاذ الاقتصاد في جامعة سيراكيوز، قدّم «إسهامات استثنائية» في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية، لافتاً إلى أنه نشر أكثر من 200 بحث علمي، وأن كتابه في تحليل نماذج البيانات الاقتصادية بات مرجعاً للباحثين حول العالم.

وأشار الشيخ محمد بن راشد إلى حاجة المجتمعات العربية إلى اقتصاديين محترفين، مؤكداً أن السياسات الفاعلة تُبنى على علم راسخ وبيانات دقيقة، وأن «اقتصاد الأمة يُصنع بعقولها»، معبّراً عن تطلعه إلى «فصل عربي جديد» في مسيرة استئناف الحضارة العربية.

وجاء منح جائزة الاقتصاد هذا العام للبروفسور بادي هاني تقديراً لإسهاماته في تطوير أدوات التحليل الاقتصادي، خصوصاً في مجال «تحليل لوحة البيانات الاقتصادية»، الذي يعزز دقة دراسة البيانات عبر دمج معلومات من فترات زمنية ومصادر متعددة. وأسهمت ابتكاراته، بحسب المبادرة، في تحسين تقييم آثار السياسات الاقتصادية على المدى البعيد وعبر مناطق مختلفة، ما دفع حكومات ومؤسسات إلى تبنّي أساليبه في قياس كفاءة السياسات والإنفاق العام والأطر التنظيمية.

كما قدّم هاني دورات تدريبية لمختصين اقتصاديين ضمن مؤسسات دولية، بينها البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وبنوك مركزية عدة. ونشر أكثر من 200 بحث علمي، وله مؤلفات أكاديمية مؤثرة، أبرزها كتاب «تحليل نماذج البيانات الاقتصادية» المرجعي. وهو يحمل درجة البكالوريوس في الإحصاء من الجامعة الأميركية في بيروت، والماجستير من جامعة كارنيجي ميلون، والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة بنسلفانيا.

وفي إطار الإعلان عن الجائزة، أجرى محمد القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء ورئيس اللجنة العليا لمبادرة «نوابغ العرب»، اتصالاً مرئياً بالبروفسور بادي هاني أبلغه خلاله بفوزه بجائزة «نوابغ العرب 2025» عن فئة الاقتصاد، مشيراً إلى أهمية الأبحاث والنظريات والأدوات التي طورها على مدى عقود، والتي أصبحت ركيزة أساسية في التحليل الاقتصادي الاستراتيجي القائم على المعطيات والبيانات الدقيقة لاستشراف مستقبل التنمية وتعظيم فرصها.

واعتبر القرقاوي أن فوز هاني يمنح «دافعاً قوياً» لجيل جديد من الباحثين والمحللين والاقتصاديين العرب للإسهام في رسم المرحلة المقبلة من التنمية الشاملة في المنطقة.