طلال حيدر... شاعر النقاء الرعوي والاستعارات المدهشة

اقتطع الشعر من براريه وينابيعه الخام ووضعه في قلب الحداثة

طلال حيدر في ربوع قلعة بعلبك
طلال حيدر في ربوع قلعة بعلبك
TT

طلال حيدر... شاعر النقاء الرعوي والاستعارات المدهشة

طلال حيدر في ربوع قلعة بعلبك
طلال حيدر في ربوع قلعة بعلبك

أصعب ما في الكتابة عن طلال حيدر أنك لا تستطيع ضبطه متلبساً في حالة هدوء، أو وضعية ثابتة، لكي تستطيع القبض على ملامحه. فهو يظهر حيناً في صورة إعصار، ويظهر حيناً آخر متلفعاً بحكمته، ومنكفئاً داخل نفسه كالكهف، ويبدو حيناً ثالثاً مشمساً ورائقاً كصباحات سهل البقاع. وإذا كنت قد أجلت الكتابة عنه مرة إثر أخرى، فليس لأنني لم أعثر في شعره وسيرته على المواد الكافية للكتابة، بل لأن فيه من التعدد بما يشعرك بالتهيب من كثرته، ومن تقلبات المزاج وملابسات الحضور، بما يجعلك عاجزاً عن وضعه في خانة، أو توصيف.

إلا أن ما تقدم لا يعني بأي حال أن طلال حيدر كان مديناً فيما قدمه من أعمال متميزة لموهبته ومزاياه الشخصية وحدها، بل إن تجربته الشعرية قد أخذت طريقها إلى الجدة والابتكار، مستندة إلى مجموعة من العوامل التي لم يكن له من دونها أن يحتل موقع الريادة في القصيدة اللبنانية المحكية. وإذا كان الشعر من بعض وجوهه هو أحد تجليات المكان، وتعبيراته الرمزية، فإن مخيلة صاحب «بياع الزمان» قد استندت إلى ملاعب شاسعة الآفاق، يتشكل ظهيرها المشهدي من سلسلتي جبال شاهقتين، ونهرين متعاكسي المجرى هما العاصي والليطاني، وسهل فسيح، ومبقع بعشرات الألوان.

وحيث لا يوجد شعر غني دون طفولة غنية، كما يقول باشلار، فقد عرف طلال كيف يحول طفولته إلى مصيدة ناجحة للصور والمجازات، وكيف يدرب حواسه الخمس على تعقب الظواهر المتقلبة للطبيعة، معايناً حركة الأرض في مخاضاتها، والرياح في تفتحها، والشموس في اندلاعها الأوليّ، والغيوم في أوكارها الممطرة.

وعلينا أن لا نغفل في الوقت ذاته أن تجربة طلال المميزة قد نشأت في كنف حالة النهوض الاجتماعي والثقافي التي شهدها لبنان بُعيد منتصف القرن الفائت، حيث أتيح للشاب البقاعي الوافد إلى بيروت أن يعاين عصر المدينة الذهبي، وأن يقف عن كثب على السجالات الحادة بين حركات التقليد والتجديد التي شهدتها العاصمة اللبنانية في أواسط القرن الفائت. واللافت أن رغبة الشاعر العارمة في الاطلاع على التراث العربي وتذوق فنونه وآدابه كانت ترافقها رغبة موازية في التفاعل الخلاق مع تيارات الحداثة الوليدة، والتي توزعت تعبيراتها بين الشعر، والمسرح، والموسيقى، وفنون التشكيل.

كما تتبع طلال نشوء مجلة «شعر» ورافق روادها المؤسسين، مشاركاً في ندوتها الأسبوعية، ومتفاعلاً في الوقت ذاته مع انطلاقة مهرجانات بعلبك الدولية، ومع النصوص المحكية التأسيسية لسعيد عقل، وميشال طراد، والأخوين رحباني. وبفضل اشتغاله المضني على تثقيف نفسه، وحرصه الدؤوب على تنويع قراءاته الأدبية والفنية والفلسفية، تمكن الشاعر المغامر من تجاوز الردح الزجلي السائد في تلك الفترة، والقائم على الهجاء، والمديح، والاجترار اللفظي السقيم، ليأخذ القصيدة المحكية نحو مناطق تعبيرية ورؤيوية جديدة، وغير مأهولة.

والواقع أن ما أضافه طلال إلى الشعرية العربية لا تنحصر أهميته في إثبات قدرة القصيدة المحكية على مجاراة الفصحى، ومنافستها في مجال التخييل، والتقاط الصور المجازية المفاجئة في عمقها وطزاجتها، بل في تعقبه المستمر للفولكلور والتراث الشعبي، ولأغاني الرعاة، ومواويل الريف، وصولاً إلى الروح الإسلامية التي تشربها طفلاً ويانعاً، والأهازيج والحداءات المنتشرة في نواحي بلاد الشام وبواديها.

على أن طلال حيدر الذي رفد تجربته بما ادخرته الصحارى العربية في رمالها اللاهبة من شموس متخثرة، وأقواس قزحية، وأعقاب زفرات وأصوات، لم يُبق المواد الأولية التي تلقفها من هذه الأماكن في صورتها الخام، بل أعاد إنتاجها بصورة مختلفة، مستخدماً أسلوب الاختزال، والترميز، والإيماء إلى المعنى، والمباعدة المدهشة بين طرفي الصورة، بما جعل منها قيمة مضافة إلى جمالية الفصحى، وللمشهد الشعري الحداثي برمته. ولعل ما فعله طلال باللغة المحكية يشبه إلى حد بعيد ما فعله الشاعر الإسباني غارسيا لوركا، الذي جاب سهوب الأندلس وجهات إسبانيا الأربع، بحثاً عن تراث أسلافه الشفوي، وعن أشكال التعبير الشعبي والفولكلوري التي اقتبس منها ديوانه المميز «أغاني الغجر».

ولأن حيدر كان يعرف بفطرته السليمة وذكائه الحاد أن الشعر العظيم لا تنتجه مصانع التأليف البارد، ولا التصاميم المتعسفة للعقل، وأنه لا يتأتى من احتكاك المفردات بنفسها فحسب، بل من احتكاكها بالعالم الحقيقي، وتفتح الحواس، فقد اندفع باتجاه الحياة بكامل «شراسته»، وجنونه، ونزوعه الشهواني، غير آبه بالأعراف، والمحظورات، والخطوط الحمراء. ولهذا السبب بدت كتابته مزيجاً شديد الفرادة من الاختزالات اللفظية المنمنمة، والحِكَم المأثورة، والتعريشات القريبة من فن الأرابيسك العربي، والمشهديات المقطعية القريبة من فنون السينما، والتشكيل، كما في أبيات من مثل «هالعمرْ جفْلة فَرسْ والناسْ خيَّاله»، أو «حلوةْ متلْ طلُّوا العربْ رحْ يوصلوا عالشامْ»، فيما كان توتره العصبي وضراوة شغفه بالحياة يمنعان شعره من الوقوع في مزالق التأنق المحض، والزخرفة الساكنة، ويمنحانه قوة التوهج، وثراء الدلالة، وجماليات التأويل.

أما افتتان الشاعر بالأنوثة، فلم يكن ناجماً عن اكتظاظه بالرغبات، أو تعلقه المفرط بالمرأة فحسب، بل لأنه رأى في الأنوثة رمزاً للجمال الكوني، وللحياة في صيغتها الوردية، والقصيدة في تفتحها الملغز. هكذا نتعرف عنده على نساء غابرات احتفظت بهن المخيلات الجمعية، فيما تسمر جمالهن كحروف قديمة على جداريات الزمان الآفل «عبله على ضهر الفرَسْ، حلوهْ متلْ آيهْ، كلّ الحروف مْنكَّسهْ، إلا الألِفْ رايهْ، أللهْ شو حلوه الألِفْ، بسْ تنحكى حْكايهْ، سبعْ لغات العربْ، عندي مْخبَّيهْ، عَكِترْ ما القوس انحنى، صار السهمْ غايهْ».

ولم يجد طلال حرجاً في الإفادة من المصادر الأم لنصوص الحب والعشق، سواء تعلق الأمر بشعر الرقائم والألواح التي تركتها خلفها حضارات السومريين والبابليين والفراعنة، أو تلك التي أفردت لها الكتب المقدسة أسفاراً وآيات وحكايا خاصة بها. وهو ما تبدو تمثلاته واضحة في قول الشاعر: «وجِّكْ قطعان الِمعزَه بْجبل التفاحْ»، الذي يستلهم عبارة «شَعركِ كقطيع معِزٍ يبدو من جبل جلعاد»، الواردة في: «نشيد الأناشيد».

وإذ لا يكف طلال عن المواءمة بين افتتانه بسحر المرأة، وافتتانه الموازي بسحر المكان الصحراوي، يجعل من اللغة نفسها الأقنوم الثالث لهذه المواءمة، وبخاصة صيغة المثنى التي لم يكف عن استخدامها في غير واحدة من قصائده، وبينها قوله: «تتْلفَّتين شْمالْ، يِتْغيّرْ طقسْ سنْتينْ، ويمرقْ عرسْ بالبالْ أحلى من بنات تنينْ، والبنْ شاف الهالْ جايي من اليمنْ دَلُّوا على الخدَّينْ، بسْ يكتملْ بدر الجزيرة فوق نجْد بْخافْ صيبةْ عينْ، لوَّنتْ توبكْ منِ الشمس البِقِتْ فوق الرملْ عامينْ، والرملْ ما بيسأل الصحرا مْنين المدى بِبلِّش ولَويْنْ».

تحولت نصوص كثيرة لطلال حيدر إلى أغنيات معروفة ترددها حناجر الكبار من المغنين والمغنيات

ولم يكن من قبيل الصدفة أن تتحول نصوص كثيرة لطلال حيدر إلى أغنيات معروفة ترددها حناجر الكبار من المغنين والمغنيات، من أمثال فيروز، وصباح، ووديع الصافي، ومرسيل خليفة، بل إن الأمر عائد إلى تصادي هذه النصوص مع أجمل ما ترسخ في الذاكرة العربية من أطياف الأزمنة، والأماكن المفقودة، ومع الترجيعات الدفينة للطفولة الجمعية. ولعل معرفة الشاعر الوثيقة باللغة الفصحى، وبحور الخليل هي التي ساعدته على الإفادة من بعض أوزان الشعر العربي الفصيح، وبخاصة البسيط، والخبب، والاشتغال على البنية الإيقاعية للقصيدة المحكية. كما أنه استفاد إلى أبعد الحدود من البنى الإيقاعية المختلفة لأشكال الفولكلور المحلي، وبينها الحداء، والحوربة، والندب، وأهازيج النصر، وأغاني الحصاد، والأعراس، وهدهدات الأطفال.

إلا أن احتفاء طلال بمباهج الحياة وجمالاتها ولحظاتها الممتعة يجب ألا يصرفنا بالمقابل عما يشيع في شعره من نبرات الشجن والأسى النوستالجي الناجمة عن خسارة مباهج الحياة، وتغيُّر الأحوال، وتقادم السنين. وإذا كنا نرى ظلالاً لهذا الشجن والأسى في الكثير من نصوص طلال حيدر، فإنها تبدو جلية تماماً في قصيدته المؤثرة «هالكان عندن بيت»، التي يقول فيها: «وين أهلي؟ وين طاحونةْ حزنْ خيّي الزغيرْ؟ وين طيارةْ ورقْ نومي على هزّةْ سْريرْ؟ وين الإيديْن الْحطَّت إبريق الشّتي فوق الحصيرْ؟ وين شْبابيك الْفات منها الصوتْ متل الزمهريرْ؟ وِقْع العمرْ ما بين إيد وْبينْ هزَّات السّريرْ».


مقالات ذات صلة

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

ثقافة وفنون محمود البريكان... شعرية الاغتراب

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

تجربة الشاعر محمود البريكان، بوصفه أحد شعراء الحداثة العراقيين، المجايلين للشاعر بدر شاكر السياب، منذ خمسينات القرن الماضي، تجربة شعرية متفردة إلى حدٍ كبير.

فاضل ثامر
الوتر السادس مصطفى الجارحي: أغنياتي مُحمّلة بطاقات شعرية لا تخضع لحسابات السوق

مصطفى الجارحي: أغنياتي مُحمّلة بطاقات شعرية لا تخضع لحسابات السوق

كان لأغنيات الشاعر مصطفى الجارحي التي لحنها وغناها الفنان مصطفى رزق، مطرب الجاز المصري، حضور كبير في النسيج الدرامي لمسلسل «ولاد الشمس».

حمدي عابدين (القاهرة)
كتب ركائز الخطاب الشعري في أعمال الأبنودي

ركائز الخطاب الشعري في أعمال الأبنودي

صدر حديثا عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر كتاب «عبد الرحمن الأبنودي: شاعر الهوية المصرية» للناقد الدكتور رضا عطية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

«تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

يبدو ديوان «تجرحني بخفة وتعلو»، للشاعر المصري جمال القصاص، منذ عنوانه مفتوحاً على احتمالات تأويلية متعددة.

عمر شهريار
يوميات الشرق الشاعر ناصر بن جرّيد (صور متداولة للراحل)

الشاعر ناصر بن جرّيد… عبَر سكة التائهين ثم رحل

فقد الوسط الفني والثقافي والأدبي والرياضي في السعودية، الشاعر والأديب ناصر بن جرّيد، بعد معاناة مع المرض، تاركاً إرثاً لافتاً جمع بين الموهبة والإبداع.

بدر الخريف (الرياض)

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».