انسحاب «الجبهة الديمقراطية» من جلسات «المجلس المركزي» يعقّد الانقسام الفلسطيني

الرئيس محمود عباس خلال الدورة الثانية والثلاثين للمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في رام الله الأربعاء (إ.ب.أ)
الرئيس محمود عباس خلال الدورة الثانية والثلاثين للمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في رام الله الأربعاء (إ.ب.أ)
TT

انسحاب «الجبهة الديمقراطية» من جلسات «المجلس المركزي» يعقّد الانقسام الفلسطيني

الرئيس محمود عباس خلال الدورة الثانية والثلاثين للمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في رام الله الأربعاء (إ.ب.أ)
الرئيس محمود عباس خلال الدورة الثانية والثلاثين للمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في رام الله الأربعاء (إ.ب.أ)

أثار إعلان «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» تعليق مشاركتها وانسحابها من جلسة «المجلس المركزي» الفلسطيني في دورته الـ32، بجميع مندوبيها الموجودين في رام الله وفي الخارج، الكثير من الجدل حول أهمية انعقاد الجلسة في ظل الوضع الفلسطيني الحالي، خاصةً أن جدول أعمالها منصب بشكل أساسي على استحداث منصب لنائب رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.

وانسحب وفد «الجبهة الديمقراطية» بعد أن انتهت نائبة الأمين العام لـ«الجبهة»، ماجدة المصري، من كلمتها أمام اجتماع «المجلس المركزي» الذي انعقد في رام الله، يوم الأربعاء، ويستمر حتى يوم الخميس. وسجلت ماجدة المصري في كلمتها اعتراض «الجبهة» بشكل واضح على آلية عقد الدورة، في ظل غياب التحضيرات اللازمة لعقدها، وغياب الحوار الوطني بين كل الفصائل، إلى جانب اعتراضها على تصريحات الرئيس محمود عباس ضد حركة «حماس».

وقالت، في مؤتمر صحافي، عُقد الخميس في رام الله: «قررنا الانسحاب مما تبقى من جلسات المجلس المركزي لما يمكن أن يترتب في نهايتها من نتائج خطرة، خاصة أن المؤشرات التي جاءت في خطاب الرئيس (عباس) تشير إلى خطورة المرحلة، وما يمكن أن يخرج عن المجلس من نتائج».

خريطة طريق «الجبهة الديمقراطية»

الدورة الثانية والثلاثون للمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في رام الله 23 أبريل 2025 (أ.ب)

وأضافت أن «الجبهة» قدمت خريطة طريق سياسية وطنية للمجلس المركزي والقوى الوطنية تتضمن العديد من النقاط، أبرزها تفعيل الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير، وأن تتقدم الفصائل غير المنضوية في المنظمة بطلبات رسمية للانضمام إليها، وفق ما جرى التوافق عليه في اتفاق بكين، وعقد دورة جديدة للمجلس يتم فيها الاعتراف بهذه الفصائل، بحيث يجري انتخاب لجنة تنفيذية جديدة، واعتماد استراتيجية وطنية نضالية، وأن يتم تشكيل حكومة توافق وطني، وتشكيل وفد تفاوضي موحّد بقيادة منظمة التحرير، وبمشاركة «حماس»، و«الجهاد الإسلامي».

وحذرت خريطة الطريق، التي قدمتها «الجبهة الديمقراطية»، من تمرير إجراءات شكلية تفرضها إملاءات خارجية، منها استحداث منصب نائب رئيس المنظمة، إذ أكدت ماجدة المصري أن «هذه إجراءات لا تعالج أزمة النظام السياسي، بل تفاقمه، وتوسع الفجوة بينه وبين الجماهير»، مضيفة: «نحن لن نكون طرفاً في إضفاء شرعية زائفة على هذه الإجراءات».

«الاستجابة للضغوط الغربية»

ترمب ونتنياهو في البيت الأبيض 7 أبريل 2025 (أ.ف.ب)

من جانبه قال عضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير عن «الجبهة الديمقراطية»، رمزي رباح، إن جلسة «المجلس المركزي» جاءت استجابة لجملة من الضغوط الغربية، وتحديداً الأميركية، مشيراً إلى أن هذه الضغوط جاءت ضمن شروط لوقف الحرب في غزة، ونزع سلاح الفصائل، واستبعاد حركة «حماس» من الحكم، وإنجاز ترتيبات أمنية بإشراف خارجي بما يحقق احتياجات إسرائيل الأمنية.

وأضاف رباح أن «ضغوطاً سياسية تمارس على السلطة تحت عنوان الإصلاح، أي بمعنى تأهيل السلطة لدور قادم ينسجم مع متطلبات الخطة الأميركية المطروحة للقضية الفلسطينية، وترتيبات المنطقة برمتها». وأشار إلى أن «هذه الضغوط بدأت تأخذ مساراً خطيراً، وهو طمس قضية الأسرى، والتعليم، وتعديل محتوياته، وإفراغه من المحتوى الوطني، والتحريض لإفراغ الخطاب الوطني، إلى جانب دعوات لإصلاح الأجهزة الأمنية للعب دور شرطي في إطار المشروع الأمني المطروح».

وبين أن المستوى الثالث من الضغوط يدور حول إدخال تعديلات هيكلية على بنية النظام السياسي الفلسطيني، بما يسمح لأميركا بوجود يد طويلة لها في النظام، وهذا جرى عبر استحداث منصب نائب للرئيس.

ولفت إلى أن ضغوطاً إقليمية ودولية، وتحديداً من واشنطن، قد مورست على قيادة السلطة لعقد المجلس المركزي بالصيغة التي جرى عقد «المركزي» عليها، ولذلك «استغربنا من حديث الرئيس عن الإفراج عن أسرى الاحتلال، ونزع سلاح المقاومة»، وفق ما أعلن في المؤتمر الصحافي.

وتابع القيادي في «الجبهة الديمقراطية» قوله إن «هذا الحديث لا يجوز، ويشكل خطورة كاملة بتلبية مطالب أميركا وإسرائيل، لأن الاستجابة لذلك ستؤدي إلى تشجيع إسرائيل على الاستمرار في عدوانها تحت عنوان تنظيف جيوب المقاومة، لخلق البيئة معنوياً واجتماعياً للتهجير وفق مخطط نتنياهو». وأكد رباح أن التسرع في عقد جلسة المجلس المركزي بهذا الشكل «تلبية لإملاء وضغوط الخارج في ظل نزعة داخلية تميل للتفرد بالقرار دون الشراكة، وهذا لا يمكن توفير الغطاء له».

بيان «الجبهة الديمقراطية»

اجتماع الفصائل الفلسطينية في الصين انتهى بتوقيع إعلان بكين لإنهاء الانقسام وتعزيز الوحدة الفلسطينية (رويترز)

وسبق ذلك أن قالت «الجبهة الديمقراطية» في بيانها الرسمي إن «تعليق المشاركة، وانسحاب الوفد جاء احتجاجاً على عدم التجاوب مع ما طرحه وفد (الجبهة) من محددات لجهة استعادة الوحدة الوطنية، وصياغة استراتيجية عمل وطني لمواجهة تداعيات حرب الإبادة في قطاع غزة، ومخطط الضم في الضفة، وعدم تطبيق قرارات المجلسين الوطني والمركزي، ومخرجات إعلان بكين».

واعتبرت «الجبهة» أن طريق الوحدة تتحقق من خلال البحث عن قواسم مشتركة، وليس بطريقة تعميقها، مشيرةً إلى أنه تم التوصل إلى هذه القواسم من خلال اجتماع بكين، وأنها كانت تأمل أن تكون دورة المجلس المركزي هي التي تنهض بالوظيفة التوحيدية، لذلك دعت للتحضير لدورته في اجتماع على مستوى الأمناء العامين لكل الفصائل الفلسطينية، بما فيها «حماس» و«الجهاد الإسلامي».

واعتبر بعض المراقبين أن موقف «الجبهة الديمقراطية» حسم الجدل الذي كان دائراً من أن هذه الدورة هدفها السماح لبعض الأطراف بزيادة التفرد بالقرار الفلسطيني بدلاً من البحث عن قاسم مشترك يجمع كل الأطياف السياسية تحت مظلة منظمة التحرير، بما ينهي حالة الانقسام، وإبقاء الفلسطينيين تحت حكومة وسلطة واحدة قادرة على أن تقودهم إلى بر الأمان في ظل التغول الإسرائيلي.

«مشاركة الكل»

أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح» حسين الشيخ خلال اجتماع «المجلس المركزي» 23 أبريل 2025 (إ.ب.أ)

وقال المحلل السياسي مصطفى إبراهيم إن هذه الخطوة تأتي استكمالاً لخطوات اتخذتها فصائل يسارية تريد البحث في تجليات الوحدة الوطنية، ومشاركة الكل، وهذا جزء مما يطرحه الشعب الفلسطيني، والفصائل التي تريد أن تكون هناك إعادة ترتيب للمجلسين الوطني، والمركزي.

وكانت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وحركة «المبادرة الوطنية»، وهما من فصائل منظمة التحرير، قد استبقتا عقد الدورة بإعلان عدم مشاركتهما في تلك الاجتماعات، احتجاجاً على عدم دعوة فصائل فلسطينية أخرى، وعدم الالتزام بمخرجات الحوارات الوطنية التي عقدت سابقاً، واتهام حركة «فتح» بالتفرد بالقرار الفلسطيني.

وقال أمين عام «المبادرة الوطنية»، مصطفى البرغوثي، في تصريحات متلفزة، إن حركته لا تقبل أن تكون المسألة في المجلس المركزي مجرد الإدلاء برأيك، ثم يفعل الآخرون ما يشاءون، مضيفاً في تعقيبه على خطابات، بما فيها خطاب الرئيس عباس: «️سمعنا عبارات غير لائقة بالوحدة الفلسطينية، بل تعمّق الانقسامات الداخلية، ولا يجب أن تقال، وآخر ما يمكن أن يكون مقبولاً هو لوم الضحية على ما ترتكبه إسرائيل من جرائم».


مقالات ذات صلة

السعودية تدعم الخزينة الفلسطينية بـ90 مليون دولار

الخليج الأمير منصور بن خالد يسلم المنحة المقدمة من السعودية للوزير اسطفان سلامة بمقر السفارة في عمّان (وفا)

السعودية تدعم الخزينة الفلسطينية بـ90 مليون دولار

قدمت السعودية، الاثنين، منحة مالية لدعم الخزينة الفلسطينية بقيمة 90 مليون دولار، تسلّمها اسطفان سلامة وزير التخطيط والتعاون الدولي، مُسير أعمال وزارة المالية.

«الشرق الأوسط» (عمّان)
المشرق العربي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال لقائه مع نظيره الفلسطيني محمود عباس في شرم الشيخ على هامش قمة السلام التي عقدت في أكتوبر 2025 (أرشيفية- موقع الهيئة الوطنية للإعلام)

مصر تؤكد مركزية دور السلطة الفلسطينية في أي تسوية

أكدت مصر اليوم (السبت) ضرورة تثبيت وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وضمان التدفق الحر وغير المشروط للمساعدات الإنسانية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
المشرق العربي خيام مؤقتة للنازحين الفلسطينيين في دير البلح وسط قطاع غزة (أ.ب) play-circle

«رفح الخضراء» و«غزة جديدة»... ماذا ينتظر القطاع الفلسطيني؟

قفزت أسماء جديدة، مثل «رفح الخضراء» و«غزة جديدة»، إلى ملف القطاع الفلسطيني، في وقت يتعثر فيه الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف النار.

نظير مجلي (تل أبيب)
المشرق العربي الشيخ وفريقه يلتقي بلير وفريقه في رام الله (موقع الشيخ على إكس)

لقاء الشيخ وبلير في رام الله هل يحرك «اليوم التالي» في غزة؟

انخرطت السلطة الفلسطينية بعمق في مباحثات «اليوم التالي» في غزة، وكان ذلك محور لقاء نائب الرئيس الفلسطيني حسين الشيخ، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير.

كفاح زبون (رام الله)
أوروبا رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين تعلن عقد أول اجتماع لمجموعة المانحين لفلسطين مع السلطة الفلسطينية (رويترز)

الاتحاد الأوروبي يتعهد بتقديم 88 مليون يورو للسلطة الفلسطينية

تعهد الاتحاد الأوروبي الخميس بتوفير نحو 88 مليون يورو لمساعدة السلطة الفلسطينية التي تتعرض لضغوط من الأوروبيين لإجراء إصلاحات.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)

«أونروا»: تمديد الأمم المتحدة عمل الوكالة يعكس تضامناً عالمياً مع اللاجئين الفلسطينيين

خيام تؤوي النازحين الفلسطينيين وسط الدمار الذي خلفه الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي على مدينة غزة (أ.ب)
خيام تؤوي النازحين الفلسطينيين وسط الدمار الذي خلفه الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي على مدينة غزة (أ.ب)
TT

«أونروا»: تمديد الأمم المتحدة عمل الوكالة يعكس تضامناً عالمياً مع اللاجئين الفلسطينيين

خيام تؤوي النازحين الفلسطينيين وسط الدمار الذي خلفه الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي على مدينة غزة (أ.ب)
خيام تؤوي النازحين الفلسطينيين وسط الدمار الذي خلفه الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي على مدينة غزة (أ.ب)

وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة، اليوم (الجمعة)، على تمديد عمل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) لمدة 3 سنوات إضافية، في خطوة قال مفوض الوكالة، فيليب لازاريني، إنها تعكس تضامناً عالمياً واسعاً مع اللاجئين الفلسطينيين.

وقال لازاريني، في منشور على «إكس»، إن قرار الأمم المتحدة «هو أيضاً إقرار بمسؤولية المجتمع الدولي في دعم الاحتياجات الإنسانية والتنموية للاجئي فلسطين، إلى حين التوصُّل إلى حل عادل ودائم لمعاناتهم المستمرة منذ عقود».

وزعمت إسرائيل، أوائل العام الماضي، أن 12 من موظفي «أونروا» شاركوا في الهجوم الذي شنَّته حركة «حماس» على جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وأشعل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؛ مما دفع دولاً عدة، من بينها الولايات المتحدة إلى تعليق تمويل الوكالة.

وخلصت مراجعة، صدرت في وقت لاحق من ذلك العام أجرتها مجموعة عمل أممية، إلى أن إسرائيل لم تقدِّم أدلةً على مزاعمها بأنَّ موظفين في «أونروا» أعضاء في جماعات إرهابية.

وتأسست «أونروا» في 1949 بعد إعلان قيام إسرائيل على الأراضي الفلسطينية في العام السابق، وتقدم خدمات تعليمية وصحية، ومساعدات للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية والأردن ولبنان وسوريا.


تقرير: سفير أميركا لدى الأمم المتحدة يبدأ غداً جولة تشمل إسرائيل والأردن

السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة مايك والتز (أ.ف.ب)
السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة مايك والتز (أ.ف.ب)
TT

تقرير: سفير أميركا لدى الأمم المتحدة يبدأ غداً جولة تشمل إسرائيل والأردن

السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة مايك والتز (أ.ف.ب)
السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة مايك والتز (أ.ف.ب)

أوردت وكالة «بلومبرغ» أن السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة، مايك والتز، سيبدأ، غداً (السبت)، جولة في الشرق الأوسط تستمر أربعة أيام تشمل إسرائيل والأردن.

وقالت الوكالة إن والتز سيلتقي أثناء زيارته لإسرائيل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والرئيس إسحاق هرتسوغ.

ويلتقي أثناء زيارته للأردن بالملك عبد الله الثاني ووزير الخارجية أيمن الصفدي لمناقشة دور الأردن في تسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.


فرنسا: نظرة إيجابية إلى التحولات في سوريا رغم النواقص والصعوبات

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره السوري أحمد الشرع يتصافحان بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي المشترك في قصر الإليزيه يوم 7 مايو الماضي (أرشيفية - أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره السوري أحمد الشرع يتصافحان بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي المشترك في قصر الإليزيه يوم 7 مايو الماضي (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

فرنسا: نظرة إيجابية إلى التحولات في سوريا رغم النواقص والصعوبات

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره السوري أحمد الشرع يتصافحان بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي المشترك في قصر الإليزيه يوم 7 مايو الماضي (أرشيفية - أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره السوري أحمد الشرع يتصافحان بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي المشترك في قصر الإليزيه يوم 7 مايو الماضي (أرشيفية - أ.ف.ب)

في قراءتها للوضع في سوريا، بعد مرور عام على سقوط نظام الرئيس بشار الأسد وفراره إلى موسكو، تختار باريس المقاربة الإيجابية، رغم وجود تحفظات وعلامات استفهام حول مستقبل البلاد. هي تفضل قطعاً رؤية الكأس نصف الملآنة على الكأس نصف الفارغة. وتريد باريس أن تؤكد، بداية، أنها كانت سبّاقة في مواكبة الوضع في سوريا منذ الأيام الأولى؛ حيث أرسلت وفداً دبلوماسياً إلى سوريا بعد 9 أيام فقط على سقوط دمشق بأيدي فصائل المعارضة السابقة، فيما كان وزير خارجيتها، جان نويل بارو، أول من زار العاصمة السورية (مع نظيرته الألمانية) يوم 3 يناير (كانون الثاني). وكانت المحطة الثالثة في تحرك باريس باتجاه دمشق انعقاد مؤتمر لدعم سوريا في العاصمة الفرنسية بداية شهر فبراير (شباط).

تُوّج الحراك الدبلوماسي الفرنسي بزيارة الرئيس أحمد الشرع إلى باريس يوم 7 مايو (أيار)، وكان الرئيس إيمانويل ماكرون أول رئيس غربي يلتقيه الشرع. وخلاصة كل ذلك أن باريس «قررت الانخراط إلى جانب النظام الجديد في دمشق رغبة منها في التأثير عليه ودفع العملية الانتقالية في الاتجاه الصحيح المتلائم مع مصالح السوريين والمصالح الفرنسية الأمنية والإقليمية». وتشدد باريس على أهمية إضفاء نوع من الشرعية على الشرع من خلال استقباله في قصر الإليزيه ومناشدة ماكرون لرفع العقوبات التي كانت تخنق سوريا.

الأولويات الفرنسية في سوريا

بناءً على ما سبق، دارت الأولويات الفرنسية حول 4 محاور أولها المحور الأمني وأول مكوناته العمل على دفع سوريا إلى الانضمام إلى التحالف الدولي في الحرب ضد «داعش»، الأمر الذي تم رسمياً في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. والغرض من ذلك منع عودة الحركات والتنظيمات المتشددة. ويتوازى ذلك مع اهتمامين: التخلص من الأسلحة الكيماوية التي ما زالت تمتلكها سوريا ومحاربة إنتاج وتهريب المخدرات. ورغم أن هذا النشاط ما زال قائماً جزئياً، فإن باريس ترى أن السلطات السورية حققت «نتائج مهمة» في محاربته.

يتمثل المحور الثاني في دعم العملية الانتقالية، وأبرز معالمها تمسك باريس بأن تشمل جميع المكونات المجتمعية الإثنية والدينية، انطلاقاً من مبدأ قوامه أن الاستقرار «لا يمكن توافره إن لم يشعر كل مكوّن بالأمن ويتمتع بكامل الحقوق». وفي هذا السياق، تؤكد باريس أنها لعبت دوراً مهماً في التقريب بين «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) المُشكَّلة في غالبيتها من الأكراد، وبين نظام الحكم في دمشق، وكان باكورة مساهمتها توقيع اتفاق مارس (آذار) الماضي الذي أُلحق باتفاق آخر نهاية الشهر الماضي. لكن باريس تعترف بأن «الوضع لم يسوَّ» كلياً بين الجانبين، رغم أنه تم تجنب وقوع اشتباكات واسعة بينهما. وتنظر باريس بكثير من الأسى، من جهة، لما حصل في شهر مارس الماضي من انتهاكات في منطقة الساحل العلوية، وما تبعها في يوليو (تموز) في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية. وفي الحالتين كان هناك دور لعناصر من السلطات السورية في هذه الأحداث التي أدانتها باريس وأكدت ضرورة محاسبة المسؤولين عنها انطلاقاً من مبدأ عدم الإفلات من العقاب.

متظاهرون في مدينة حماة الجمعة 5 ديسمبر بمناسبة الذكرى الأولى لسقوط نظام الرئيس بشار الأسد (رويترز)

ويندرج تحت المحور الأمني الانتهاكات المتلاحقة التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي السورية، وهي انتهاكات تدينها فرنسا. وأشارت المصادر الدبلوماسية إلى أن باريس دعمت الجهود الأميركية للتوصل إلى اتفاقات أمنية بين سوريا وإسرائيل، وأنها، لهذا الغرض، استضافت لقاءات متعددة جمعت وزير الخارجية أسعد الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، بحضور المبعوث الأميركي توم برّاك. ولا تنسى باريس الدور الذي تقوم به لترسيم الحدود اللبنانية ــ السورية التي لم ترسّم منذ استقلال البلدين عن فرنسا في أربعينات القرن الماضي. يبقى أن باريس تشدد على أمرين إضافيين: الدعم الذي وفّرته للسكان إنسانياً وتربوياً واقتصادياً، من جهة، ومن جهة ثانية تفعيل التعاون الثقافي.

عقدة «المشاركة الجماعية»

رغم النظرة الإيجابية الإجمالية الفرنسية، فإن باريس لا تكتم قلقها سواء بشأن الأحداث الأمنية المتنقلة أو لصعوبة إعادة إطلاق الاقتصاد وعدم اكتمال عملية الانتقال السياسية. كذلك تتوقف باريس مطولاً عند عقدة «المشاركة الجماعية» لكل الأطراف في بنية الدولة السورية الجديدة وعلاقة المكوّنات ببعضها، وهي تنطلق من مبدأ تحديد «المعايير» الواجب الأخذ بها. وبرأيها أن الأخذ بالمعايير الأوروبية يبيّن بلا شك النواقص والعيوب وهذه كثيرة أكان بالنسبة لعلاقة المركز مع الأقليات أو بالنسبة للتعيينات في المراكز الحكومية والعسكرية أو بالنسبة لآلية الانتخاب النيابية والسلطات المعطاة للرئاسة أو لحضور المرأة أو لسيطرة السلطات على الأجهزة الأمنية وكذلك بالنسبة للعمل من أجل العدالة الانتقالية الضرورية.

ورغم ذلك كله تعتبر باريس أن العملية الانتقالية بكل شوائبها جاءت أقل درامية مما كان متوقعاً، وأن المخاوف من قيام «جمهورية إسلامية» لا تحترم الأقليات وحقوق المرأة ولا التوجهات الليبرالية لم تتحقق. والخلاصة التي كونتها باريس هي أنه يمكن النظر إلى الوضع السوري من مختلف الزوايا وهي نظرة تؤكد أن ثمة «أموراً إيجابية في العملية الانتقالية».

وتؤكد المصادر أن باريس على حوار متواصل مع السلطات السورية، بما في ذلك ما يخص استكمال أعضاء مجلس النواب والمقاعد المخصصة للنساء والدستور الانتقالي والعدالة الانتقالية وقانون الأحزاب... وكلها مسائل بالغة الأهمية في نظر فرنسا.

وتنظر باريس بقلق، بحسب المصادر الدبلوماسية، لما تقوم به إسرائيل في سوريا. وتؤكد المصادر أن موقف باريس «واضح ويقوم على دعوة إسرائيل لسحب قواتها من الأراضي التي احتلتها بعد سقوط نظام الأسد والعودة إلى خط فك الاشتباك لعام 1974». وتضيف المصادر أن باريس أعربت مراراً عن قلقها من التطورات الجارية وأن هناك مصادر قلق للطرفين يتعين التعامل معها. وتبدو باريس سعيدة بأن الملف السوري يحظى بنوع من الإجماع الدولي باعتبار أن «سوريا مستقرة تعد ضرورة للتوازنات الإقليمية والدولية». وتبدو باريس كذلك سعيدة بالانخراط الأميركي إلى جانب استقرار سوريا بما في ذلك ما تقوم به إسرائيل في هذا البلد والذي يهدد الحكومة السورية.