بن لادن استقبل مبعوث صدام حسين فارتبط غزو العراق بهجمات 11 سبتمبر

زعيم «القاعدة» اتهم «البعث» بـ«الكفر» رداً على وساطة «الإخوان» السوريين بينهما

Sorry, the video player failed to load.(Error Code: 101102)
TT
20

بن لادن استقبل مبعوث صدام حسين فارتبط غزو العراق بهجمات 11 سبتمبر

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)
فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

ما أخطر مهمة يمكن أن يقوم بها إنسان؟ إنها لقاء يعقده مبعوث رجل صعب اسمه صدام حسين مع رجل صعب مقيم في السودان اسمه أسامة بن لادن، وأن تعرف أجهزة جورج بوش الابن أن اللقاء قد عُقد.

لا مبالغة في القول إن ذلك اللقاء كان الذريعة الأهم التي استخدمتها واشنطن في تبرير غزو العراق مستفيدةً من المناخات التي سادت أميركا بعد الهجمات التي شنتها «القاعدة» بزعامة بن لادن في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على واشنطن ونيويورك.

لم يكن هناك أصلاً أي مبرر كي يؤثر بن لادن على مصير صدام حسين. ينتمي الرجلان إلى قاموسين متباعدين. ثم إن صدام رئيس دولة عريقة في المنطقة وليس زعيم فصيل. وهو ابن حزب علماني، مما جعله يختار طارق عزيز المسيحي وزيراً لخارجية البلاد، الأمر الذي تعذر في أماكن أخرى. ثم إنه ليس من عادة صدام أن يتنازل للانخراط في لعبة لا يكون صاحب القرار فيها.

لكن خطأ القبول بموعد في الخرطوم جعل صدام يدفع ثمن الاتصال بأسامة بن لادن رغم أن اللقاء انتهى إلى فشل. ويقول أحد الذين عملوا في المخابرات العراقية في تلك الفترة إن القوات الأميركية التي غزت العراق استولت على وثيقة أعدَّتها المخابرات وتقول فيها إن المبعوث العراقي نصح بصرف النظر عن فكرة التعاون مع بن لادن، وهو ما حدث.

صدام مجتمعاً بأركان نظامه غداة اتهام جورج بوش له بالتعاون مع «القاعدة» (غيتي)
صدام مجتمعاً بأركان نظامه غداة اتهام جورج بوش له بالتعاون مع «القاعدة» (غيتي)

والواقع أن التسعينات السودانية كانت شديدة الخطورة. ارتكب فيها نظام الرئيس عمر البشير ثلاثة أخطاء كبيرة هي: استضافة زعيم «القاعدة»، واستضافة أشهر مطلوب دولي آنذاك وهو كارلوس الفنزويلي منفِّذ عملية احتجاز وزراء «أوبك»، وتداخل مع الخطأين ارتكاب كبير تمثَّل في ضلوع الرجل الثاني في النظام علي عثمان طه في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا.

لم يتوقف بن لادن طويلاً عند ما حدث في الخرطوم في أغسطس (آب) 1994. ففي ذلك الشهر جاءت وحدة كوماندوز فرنسية واعتقلت كارلوس واقتادته إلى فرنسا حيث يهرم الآن في سجنه. ولم يكن هناك ما يسمح بقيام تعاون بين كارلوس وبن لادن حتى ولو جمعهما العداء للغرب. جاء كارلوس من ينابيع مختلفة. من مناخات الحزب الشيوعي الفنزويلي وأطل على العالم على يد الدكتور وديع حداد، مسؤول «المجال الخارجي» في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». ولا مبالغة في القول إن حداد حوّل كارلوس نجماً ورمزاً قبل أن يفترق الرجلان في بداية 1976. نفَّذ كارلوس بعد ذلك التاريخ هجمات، لكن زمن لمعانه انقضى بعد مغادرته عباءة حداد.

أغلب الظن أن بن لادن لم يشعر بالقلق من احتمال أن يواجه مصير كارلوس. فهو جاء إلى السودان مع ثروته. ثم إن سلوكه الشخصي مختلف عن سلوك كارلوس الذي تستهويه مناخات الليالي الصاخبة حتى في مدينة محافظة. لكن بن لادن لم يتنبه إلى أن نظام عمر البشير وحسن الترابي قد يرضخ أيضاً للضغوط وينصحه ذات لحظة بالمغادرة.

بن لادن «مستثمراً»

ما قصة بن لادن مع السودان؟ سألت صديقاً مطلعاً أن يروي، فقال: «جاء أسامة بن لادن إلى السودان مرتين. كانت الأولى على ما أذكر في نهاية أغسطس (آب) 1988. كان السودان قد تعرض في تلك الفترة لسيول وفيضانات خلَّفت ضحايا وأضراراً واسعة في بلد معروف الإمكانات. كنت في زيارة شخصية رفيعة حين دخل شابان هما أسامة بن لادن وأخوه الأصغر».

صورة نادرة للبشير وبن لادن في سنوات السودان
صورة نادرة للبشير وبن لادن في سنوات السودان

يتذكر الرجل أن أسامة «قدم نفسه بوصفه صاحب شركة إنشاءات وتحدث بلغة هادئة. تطرق إلى ما أحدثته السيول معبِّراً عن تعاطفه مع البلد. شدد على أهمية أن تكون في بلاد واسعة كالسودان شبكة طرق جيدة نظراً لما لذلك من فوائد اقتصادية وتنموية، ولأن هذه الشبكة تسهل عمليات الإغاثة في حال حصول كوارث طبيعية. وأعرب في اللقاء عن استعداد المؤسسة التي يديرها للمساهمة في شق الطرق وفي بعض عمليات الإغاثة. تحدث الرجل بصورة طبيعية ولم يكن اسمه آنذاك معروفاً إلا في سياق المشاركة في الجهاد الأفغاني ضد السوفيات».

ويضيف الراوي: «بعد تحرير الكويت على يد تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة غادر بن لادن السعودية إلى السودان في 1991، وأعتقد أن ملفه صار هذه المرة في عهدة الأمن. اصطحب بن لادن معه إحدى زوجاته وأقام في محلة الرياض في الخرطوم في فيلا يملكها مغترب سوداني كان يعيش في السعودية اسمه عثمان سلمان. وكان سلمان مديراً لمصنع الشفاء الذي قصفته القوات الأميركية في 1998 في عهد الرئيس بيل كلينتون».

«الأفغان العرب» في السودان

طلب بن لادن من الجهات التي تتولى العلاقة معه السماح له باستقدام أفراد من مجموعته. في محلة سوبا الحلة التي تبعد 25 كيلومتراً عن الخرطوم. اشترى مزرعة كمزارع الباقير التي تبعد 60 كيلومتراً عن العاصمة والتي كانت تحتوي على عدد من العنابر. في محلة الرياض كان مع بن لادن سوري أصبح إماماً للمسجد القريب الذي كان بن لادن قليلاً ما يظهر فيه، وقد اعتُقل السوري المشار إليه لاحقاً في ألمانيا. في محلة سوبا الحلة لاحظ سكان أن شباناً بملامح غير أفريقية يركضون صباحاً في ما يشبه التدريبات وتبين لاحقاً أن هؤلاء من «الأفغان العرب».

منزل بن لادن في السودان (أرشيفية - الشرق الأوسط)
منزل بن لادن في السودان (أرشيفية - الشرق الأوسط)

كانت لدى بن لادن شركة اسمها «وادي العقيق» تولت بناء مطار في بورتسودان وشق أكثر من طريق، بينها طريق الخرطوم-العيلفون. وعلاوة على ذلك كان بن لادن مولعاً بتربية الخيول التي كانت أيضاً محط اهتمام عدد من أبناء كبار الشخصيات البارزة، وبينهم عصام نجل الدكتور حسن الترابي.

كان سلوك أسامة بن لادن أقرب إلى الانطواء. لم يكن يظهر في مناسبات عامة. لكنَّ وجود «الأفغان العرب» بدأ يثير بعض الإشكالات. كان هناك مثلاً إسلامي ليبي اسمه محمد عبد الله الخليفي يدخل مع جماعة «أنصار السنة» في جدالات حادة. في فبراير (شباط) 1994، ذهب الخليفي إلى مسجد الشيخ أبو زيد في الخرطوم وسحب رشاشه وقتل 20 شخصاً من «أنصار السنة». توجه بعدها مع رفاق له إلى منزل بن لادن وتبادل إطلاق النار مع حراس المنزل. بعد اعتقاله تبين أنه كان ينوي أيضاً اغتيال بن لادن والدكتور الترابي.

زار الراوي بن لادن وسأله إن كان يعرف هؤلاء فقال إنه كان يتعرف عليهم في مرحلة الجهاد ضد السوفيات في أفغانستان. وأضاف بابتسامة أن هؤلاء كانوا مولعين بمسألة التكفير. يُكفِّرون الحاكم ثم الجماعة ويُكفِّرون حتى أنفسهم.

كان أسامة بن لادن مستقراً في السودان. تردد لاحقاً وعلى لسان مسؤولين بارزين بينهم الترابي أن جهاز الأمن السوداني عرض ذات يوم على الجانب الأميركي تسليمه بن لادن لكنه رفض بسبب عدم وجود أسباب لمحاكمته في الولايات المتحدة. لكنَّ زلزالاً مفاجئاً سيغير المشهد السوداني لجهة علاقته بـ«الأفغان العرب».

محاولة اغتيال مبارك

في 26 يونيو (حزيران) 1995، نجا الرئيس حسني مبارك من محاولة اغتيال استهدفته في أديس أبابا خلال مشاركته في القمة الأفريقية. أثار الحادث ردود فعل عربية وإسلامية ودولية خصوصاً بعدما ألمح مبارك نفسه إلى احتمال علاقة «الجبهة الإسلامية» التي يتزعمها الترابي بالحادث.

سيارة المسلحين الذين حاولوا اغتيال مبارك في أديس أبابا (أ.ف.ب)
سيارة المسلحين الذين حاولوا اغتيال مبارك في أديس أبابا (أ.ف.ب)

وقع فشل المحاولة كالصاعقة على النظام السوداني بعدما لاحت في الأفق بوادر عقوبات دولية عليه. الرجل الذي أُصيب بالذعر هو الرجل الثاني في النظام، أي نائب الرئيس، علي عثمان طه، وهو كان «الرجل القوي» في عهد البشير. كان الرجل ضالعاً في المحاولة مع كبار المسؤولين في جهاز الأمن. وقد أوكل التنفيذ إلى «الجماعة الإسلامية» المصرية بزعامة مصطفى حمزة الذي نجح في الفرار من السودان بعد الهجوم الذي أدى إلى مقتل خمسة من المهاجمين.

خروج بن لادن

لم يكن أمام النظام غير السعي إلى محاولة خفض الأضرار والأخطار. أقال البشير كبار مسؤولي جهاز الأمن وتقرر تسفير «الأفغان العرب». وذات يوم جاء البشير ونائبه إلى مكتب الترابي وأبلغاه بأن ترتيبات مغادرة أسامة بن لادن قد أُنجزت. وزار الرجلان بن لادن في مقر إقامته، ثم تولت طائرة عسكرية نقله إلى أفغانستان.

البشير ونائبه أمام القضاء بعد إطاحتهما (أ.ف.ب)
البشير ونائبه أمام القضاء بعد إطاحتهما (أ.ف.ب)

احتضنت حركة «طالبان» زعيم «القاعدة» ووفَّرت له الملجأ الآمن. لم يكن الملا عمر يتوقع أن يكون هذا الزائر سبباً في سقوط نظامه. في أواخر التسعينات كان السؤال عن بن لادن طبيعياً حين يلتقي صحافي مسؤولاً سودانياً. سألت الرئيس عمر البشير فأجاب: «جاء بن لادن إلى السودان في أعقاب الحرب الأفغانية من مدخل الاستثمار في مجال الطرق والمطارات والزراعة، وهي مجالات ظل يعمل فيها وتعمل فيها شركات تابعة لأسرته منذ أمد طويل، وليس له أتباع أو شبكات تنبت بهذا المعنى في السودان سوى مجموعة قليلة من مساعديه ظلت دائماً حوله. ظل هؤلاء بعيدين عن الإعلام وأجهزته على أي مستوى، بل لم يشاركوا حتى في مناسبات ونشاط المجتمع العادي. لكنَّ أميركا جعلت منه بعبعاً ترى صورته في كل مكان وحتى بعد أن خرج من السودان وهي تعلم جيداً أنه يعيش في شبه عزلة في بلد بعيد، لكنَّ هواجسها تغلب معلوماتها».

كلام البشير لا يُلغي أنه التقى الرجل مرات عدة في أثناء وجوده في الخرطوم ويصعب الاعتقاد أن الرئيس كان غير مطلع على علاقة حلقة في جهاز الأمن السوداني ببن لادن و«مزارعه».

وكان من الطبيعي أن أسأل الترابي نفسه، فقال: «نعم، قام بيني وبينه حوار محدود، فهو كان يبني في السودان طرقاً ومطارات وهو من أسرة تعمل في هذا المجال. لم يكن رجلاً يدخل في الساحات الفكرية والصحافية، ولم يُكتب عنه في الصحافة ولم يُرَ يوماً فيها. تحدثت معه عن أفغانستان وعن أننا كنا نخشى أن يترك الروس وراءهم بعد خروجهم منها أناساً ثوريين تمرَّسوا في تخريب (الباطل والاستبداد الأجنبي) ولكنهم لم يتمرنوا على أي شيء آخر فيحدث لهم ما حدث للثورة الفرنسية وكل الثورات الأخرى. قلت له إنني كنت أتحدث مع الإخوة في أفغانستان قبل سقوط كابل وكيف يجب أن يُحضِّروا لما بعد تحرير البلاد. وحدَّثته أن كابل سقطت قبل أن يتهيأوا لذلك ولم يكن لديهم بعد استعداد لإقامة مجتمع مسلم على مثالهم».

حسن الترابي (أ.ف.ب)
حسن الترابي (أ.ف.ب)

ورداً على سؤال عن الجهات التي طالبت بخروج بن لادن من السودان، قال الترابي: «جاء خروجه بطلب من البريطانيين نيابةً عن الأميركيين. المملكة العربية السعودية لم توجه ضغطاً مباشراً على السودان وهي لطيفة أصلاً. هو شعر بأن وجوده يُحرج العلاقات بين السودان والسعودية، والبَلدان تربطهما علاقات وثيقة جداً. العلاقات طيبة جداً ومن السودانيين نحو نصف مليون مواطن يعملون في السعودية ولم يطردوا واحداً منهم، وبن لادن لم يكن يريد أن يُحرج هذه العلاقات».

أفغانستان والمرحلة الأخطر

عاد أسامة بن لادن إلى أفغانستان لتبدأ المرحلة الأخطر في تجربته. بعد شهور من عودته سيطرت حركة «طالبان» على أفغانستان وعدّته ضيفاً عليها. بعد عامين فقط دوت تفجيرات في سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، ووجهت واشنطن أصابع الاتهام إلى زعيم «القاعدة» المتحصن في أفغانستان، وتكرر الأمر نفسه بعد الهجوم الذي استهدف المدمرة «كول» الراسية في ميناء عدن. أصدر بن لادن في تلك الفترة بيانات توحي بأنه أطلق الحرب على الولايات المتحدة، لكن لم يتوقع أحد أن ينقل الحرب إلى أراضيها، وهو ما حدث في 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

حين حاول الرئيس جورج بوش الابن تبرير قراره بغزو العراق، أورد جملة اتهامات ضد نظام صدام تشمل أسلحة الدمار الشامل والقمع والمقابر الجماعية وانتهاك القرارات الدولية. لكنَّ التهمة التي استوقفت كثيرين كانت كلام بوش عن تعاون نظام صدام مع «القاعدة». لم تقدم الإدارة الأميركية دليلاً على تعاون من هذا النوع وظل الحديث عن علاقة بين نظام صدام و«القاعدة» مجرد تهمة لم يتقدم مَن يثبتها أو يقدم الدليل عليها.

قصة محاولات التواصل

أسوةً بصحافيين كثيرين أثار موضوع الاتصال بين صدام وبن لادن فضولي، فرُحتُ أسأل عنه. لم أعثر على جواب لدى معارضي صدام ولا لدى بعض الذين عملوا معه آنذاك. وكان لا بد من محاولة الوصول إلى «الصندوق الأسود» الحقيقي، أي إلى ذاكرة المخابرات العراقية في تلك الفترة. وافق رئيس شعبة أميركا في المخابرات، سالم الجميلي، على التحدث، وشاءت الصدفة أن يكون وراء المحاولة الأولى للاتصال بزعيم «القاعدة».

قبل الغزو العراقي للكويت كانت العلاقات بين العراق والسعودية طبيعية وإيجابية. وقَّع البلدان اتفاقية أمنية تحظر التدخل في الشؤون الداخلية وتوقف نشاطات الأجهزة الاستخباراتية على أرض الدولة الأخرى إلا في حدود النشاط العادي للسفارات. وكان صدام حسين يتحدث بإيجابية عن السعودية ووقوفها إلى جانب العراق في الأيام الصعبة وكان يشيد بالملك فهد بن عبد العزيز واحترامه الروابط بين البلدين وعدم امتناعه عن تقديم أي دعم ممكن إبان الحرب العراقية - الإيرانية. وروى أحد الذين عملوا في قصر الرئاسة العراقي أن الملك فهد بذل جهوداً حثيثة في الساعات التي أعقبت بدء الغزو لتدارك الموقف وإعادة الأمر إلى طاولة المفاوضات، لكنَّ صدام كان ذهب بعيداً.

أدت الأزمة عملياً إلى سقوط الاتفاقية الأمنية والتزاماتها. حين بدأت تتوارد أخبار عن اتصالات تُجريها المعارضة العراقية مع السعودية، كتبت المخابرات إلى الرئيس تقترح إلغاء الاتفاقية الأمنية مع السعودية لكنه رفض. وعندما كررت المخابرات حديثاً عن الاتصالات بين المعارضة العراقية والرياض، طلب صدام تزويده بتقرير شهري عن هذا الموضوع. وفي وقت لاحق استنتج صدام أن السعودية بدأت تدعم فكرة تغيير نظامه فأصدر توجيهاً إلى المخابرات بـ«العمل بكل قوة خصوصاً لتقويض الوجود العسكري الأميركي في السعودية».

سالم الجميلي (الشرق الأوسط)
سالم الجميلي (الشرق الأوسط)

قال الجميلي: «حين يصدر توجيه من هذا النوع من الرئيس شخصياً، فعلى كل الأجهزة الأمنية أن تبحث عن كل الأوراق التي يمكن أن تسهم في تنفيذه. كنت في ذلك الوقت مسؤولاً عن شعبة سوريا في الجهاز، وكانت لدينا علاقات مع جماعة الإخوان المسلمين في سوريا - جناح عدنان عقلة. أرسل عبد الملك شقيق عدنان أن لدى الإخوان علاقات مع بن لادن وأنهم على استعداد لإيصال رسالتنا إليه. استدعيته واستقبلته في أحد فنادق بغداد فأكد استعداده للقيام بهذا الدور. حمّلته رسالة شفوية فحواها أن لدينا الآن هدفاً مشتركاً وهو إخراج القوات الأميركية من المنطقة، وأننا يمكن أن نتعاون في هذا المضمار. أعطيناه نفقات السفر وكانت في حدود 10 آلاف دولار».

وأضاف: «عاد الرجل بعد شهر أو أكثر قليلاً. أبلغنا بأن موقف بن لادن كان متشدداً جداً وأنه كرر مرات عدة أن النظام في العراق كافر وهو الذي تسبب في مجيء القوات الأميركية إلى المنطقة، وأنْ لا مجال لأي لقاء مع ممثليه أو التعاون معه. نحن نتحدث عن السنوات الأولى من التسعينات ولم تكن هناك عمليات لتنظيم (القاعدة) من قماشة 11 سبتمبر. وسمعت يومها من مدير (العمليات الخارجية) في الجهاز فاروق حجازي أن رداً مشابهاً من بن لادن جاء عبر قناة أخرى».

لقاء بن لادن ومسؤول مخابرات صدام

فهم الجميلي لاحقاً أن حجازي زار الخرطوم والتقى بن لادن بعد وساطة قام بها سياسي ورجل دين سوداني هو الدكتور حسن الترابي. ويقول: «أطلع حجازي الرئيس على ما جرى ولم يحدث أي تعاون مع (القاعدة). وهذا ما قصده جورج بوش الابن حين قال إن الرئيس أرسل مبعوثاً إلى بن لادن. أعتقد أنه كان يعرف أنه لم يحصل أي تعاون، لكنه امتنع عن ذكر ذلك لتبرير الغزو».

مصدر آخر رفض الكشف عن اسمه قال إن بن لادن أظهر في لقائه مع حجازي «شيئاً من المرونة بالنسبة إلى موقفه من نظام البعث العراقي». وأضاف أن بن لادن «طالب في حال التعاون أن تكون له معسكرات تقام تماماً خارج سلطة الدولة العراقية، وأن يمتلك حرية تحديد الأهداف والتوقيت». وأشار إلى أن «صدام سأل حجازي عن موقفه فردَّ بأن إدارة جماعة بن لادن لن تكون سهلة، وأن ثمن التعاون معه سيكون بالغ الخطورة. فطلب صدام من حجازي طي الموضوع نهائياً».

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)
فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

نهاية المعنيين بذلك الموعد الخطر معروفة. التفَّ حبل الإعدام حول عنق صدام حسين. وأعدمت السلطات العراقية فاروق حجازي الذي لجأ إلى سوريا بعد سقوط نظام صدام لكنه أُرغم على التوجه إلى الحدود السورية - العراقية، حيث اعتُقل. وطاردت القوات الأميركية أسامة بن لادن حتى تمكنت منه وقتلته في باكستان.

تقع المدن أحياناً في إغراء التهور وتكلِّف نفسها على يد مغامرين ما يفوق طاقتها ثم ترتطم بالواقع وبالعالم. دفعت الخرطوم ثمن استقبال المطلوبين وعوقبت قبل أن تحاول خفض الأضرار وتغيير اتجاه البوصلة. هناك من يقول إن خرطوم البشير حلمت أن تكون عاصمة أعداء الغرب، وإن الترابي حلم بأن يكون مرجع حركات الإسلام السياسي في تكرار لتجربة الخميني. كلّف الرجلان السودان ما يفوق طاقته.


مقالات ذات صلة

وزير الدفاع الأميركي يخسر محاولة لإلغاء اتفاقات الإقرار بالذنب في هجمات 11 سبتمبر

الولايات المتحدة​ هجمات 11 سبتمبر عام 2001 (غيتي)

وزير الدفاع الأميركي يخسر محاولة لإلغاء اتفاقات الإقرار بالذنب في هجمات 11 سبتمبر

أسفرت الهجمات التي شنَّها تنظيم «القاعدة» الإرهابي عن مقتل نحو 3 آلاف شخص في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وساعدت في تحفيز الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق...

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
خاص عام 2026 أطلقت السعودية «رؤية 2030» بحزمة استثمارات ضخمة في قطاعات مختلفة (أ.ب)

خاص الخليج في ربع قرن... حدائق وسط حرائق

دول الخليج وسط توترات متصاعدة ماضية في تأكيد قدرتها على التكيّف من خلال مبادرات دبلوماسية فعّالة، ساعية إلى ترسيخ الاستقرار في منطقة تواجه تحديات.

د. إبراهيم العثيمين
الولايات المتحدة​ هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز- أرشيفية)

أميركا: كيني خطّط لهجوم على غرار 11 سبتمبر تدرّب كطيّار في فيتنام

قال مُدَّعٍ عام اتحادي أمام هيئة محلفين في نيويورك، إن رجلاً كينياً خطط لهجوم على مبنى أميركي، على غرار هجمات 11 سبتمبرـ كان يتدرب كطيار تجاري في الفلبين.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن (رويترز) play-circle 00:52

لماذا اعتمر بايدن قبعة ترمب الانتخابية في ذكرى 11 سبتمبر؟

اعتمر الرئيس الأميركي جو بايدن، الأربعاء، لفترة وجيزة قبعة الحملة الانتخابية للرئيس السابق دونالد ترمب في حدث لإحياء الذكرى الثالثة والعشرين لهجمات 11 سبتمبر.

«الشرق الأوسط» (لندن)
خاص معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي) play-circle 02:16

خاص ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

اليوم وفي الذكرى الـ23 لهجمات 11 سبتمبر لا يزال «معتقل غوانتنامو» مفتوحاً رغم كل الوعود والتعهدات بإغلاقه لطي صفحة لطخت سمعة أميركا في العالم.

رنا أبتر (واشنطن)

حين قابلت سجّاني... الطفل «الداعشي» الصغير

Sorry, the video player failed to load.(Error Code: 101102)
TT
20

حين قابلت سجّاني... الطفل «الداعشي» الصغير

أطفال من مخيم «الهول» في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا 12 نوفمبر 2020 (غيتي)
أطفال من مخيم «الهول» في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا 12 نوفمبر 2020 (غيتي)

لم يكن خالد يعلم أن مقابلته هذه ستعيد فتح باب من الماضي.

عندما بدأ يتحدث، كانت نبرة صوته مألوفة بطريقة غريبة، لكنني لم أستطع أن أحدد السبب على الفور. بدا خالد (اسم مستعار) متردداً في البداية، وكأنه يخشى أن يقول أكثر مما ينبغي، ثم انساب الحديث بحرية أكبر، حتى وصلت المقابلة إلى نقطة جعلت قلبي يخفق بقوة.

«كنت في الثالثة عشرة عندما أصبحت سجاناً. لم يكن لدينا خيار. كانوا يعطوننا أوامر، وإذا رفضنا، نتعرض للعقاب. كنت أفتح الأبواب، أقدم الطعام، وأراقب السجناء. بعضهم كان يبكي، بعضهم كان يصرخ، وبعضهم كان صامتاً طوال الوقت. كنا نعاملهم كأعداء، حتى لو لم نفهم لماذا كانوا هناك».

عند هذه الجملة، شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. سجن الميادين. عام 2015. طفل في الثالثة عشرة مكلف بمراقبتي أنا وبقية السجناء. بدأت أتذكر تلك الفترة القاتمة من حياتي، عندما تم اعتقالي في سوريا لأنني رفضت العمل صيدلانياً مع تنظيم «داعش» الذي كان مسيطراً على المنطقة. شهدت تلك الفترة محاولات التنظيم الحثيثة لضمان الولاء الكامل، خاصة من أصحاب الاختصاصات الطبية. من لم يعلن ولاءه، كان مصيره الاضطهاد، الملاحقة، وأحياناً الاعتقال.

كنت واحداً ممن وقعوا في هذا المصير. لم يأتِ اعتقالي من العدم. في إحدى الليالي، طرقوا باب منزلي بعنف. لم يكن السبب معلناً في البداية، لكنني علمت لاحقاً أن جاري، وهو أحد عناصر التنظيم، وشى بي. ادّعى أنني أخالف الشريعة لأنني كنت أستمع إلى الأغاني. كانت تلك التهمة كافية ليقتادوني إلى السجن، وهناك التقيت بسجاني الصغير.

السجّان الصغير

اليوم وفيما أجري هذه المقابلة من ضمن 17 شهادة جمعتها حول «أشبال الخلافة» توالت الأسئلة في ذهني، فكبحت اندفاعها. لم أكن أريد أن أسأل مباشرة، لكن الفضول بدأ ينهشني.

طرحت أسئلة ملتوية، حاولت من خلالها أن أتأكد من شكوكي دون أن أثير انتباه خالد وقد بلغ منتصف العشرينات. ولكن عندما بدأ يصف السجن، وممراته، ووجبات الطعام القليلة التي كانت تُقدم للسجناء، والطريقة التي كان يُؤمر بها بفتح الأبواب وإغلاقها، قطعت الشك باليقين. لقد كان هذا الصبي سجاني. صراع داخلي انتابني، ولم أعرف كيف أتصرف. جزء مني أراد أن يواجه خالد بالحقيقة، أن يخبره أنني كنت هناك، وأنه كان أحد أولئك السجانين الذين وقف أمامهم صامتاً وهو يحمل المفاتيح. لكن جزءاً آخر مني رفض الفكرة.

كيف سأخبره بذلك؟ ماذا سيفيده أن يعرف؟ اليوم أدرك أن خالد لم يكن سوى طفل، مجرد أداة في يد قوة أكبر منه بكثير. أي غضب قد أشعر به، أي كراهية أو استياء، لا يمكن توجيهها إليه. لكن رغم كل هذه التبريرات، لم أستطع تجاهل الشعور المتناقض الذي اجتاحني. أنظر إلى خالد، وأحاول منطقياً أن أراه بمعزل عن ماضيه، لكنني عاطفياً لم أستطع الفصل بين الاثنين.

«هل كنتَ قاسياً على السجناء؟» سألته. تنهد وأطرق رأسه، كأنه يحمل ثقلاً لا يمكن احتماله: «أحياناً كنت أحاول أن أكون لطيفاً فأعطي بعضهم طعاماً أكثر، أو أترك الباب مفتوحاً لبضع ثوانٍ إضافية. لكن في أحيان أخرى... كنت قاسياً. كنت خائفاً أيضاً. فإذا تهاونت، كانوا سيضعونني في السجن معهم». كلماته ضربتني بقوة.

لم أعرف إذا كان خالد يتذكرني، أو أنني مجرد سجين من عشرات مروا عليه، لكنني أعرف الآن أنه كان هو أيضاً يعيش صراعاً داخلياً ربما لم يحسمه بعد.

شاب يعانق مسنًا بعد حصوله على موافقة لمغادرة «الهول» السوري (إ.ف.ب)
شاب يعانق مسنًا بعد حصوله على موافقة لمغادرة «الهول» السوري (إ.ف.ب)

فوضى ومساومات

على رغم المصادفة الغريبة إلا أن قصة خالد ليست فريدة من نوعها. هي واحدة من 17 شهادة حية تم جمعها على مدار الأشهر الستة الماضية تقاطعت فيها تجارب الماضي المؤلمة بتحديات الحاضر والمستقبل، نركز فيها على مسار شخصيتين نرصد عبرهما مآلات التنظيم في سوريا اليوم؛ خالد، السجان الذي يحاول التعايش مع ماضيه وسامي (اسم مستعار) الفتى الذي عاش تجربة مواجهة الضحية في أضعف لحظاتها. تتقاطع هاتان الشهادتان مع شهادات أخرى تكشف عن أثر العنف الممنهج والتجنيد القسري على مستقبل هؤلاء الأطفال وتوثق تجربة جيل كامل سُرقت طفولته، لكنها أيضاً تطرح أسئلة ملحة حول هزيمة التنظيم فعلياً أو احتمالات نهوضه من جديد.

فبعد التغيرات الكبيرة التي شهدتها سوريا، على أثر سقوط نظام بشار الأسد واستلام «هيئة تحرير الشام» عبر الإدارة الجديدة زمام المرحلة، يواجه هؤلاء الشباب تحديات جديدة في ظل بيئة مضطربة تزداد تعقيداً، إذ تثير الفوضى الأمنية والفراغ الناجمين عن إعادة توزيع السيطرة بين الفصائل المختلفة مخاوف من عودة نشاط التنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم «داعش»، في وقت لا تزال «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي تسيطر على شمال شرقي سوريا، تمسك بملف بالغ الحساسية، هو معتقلي التنظيم من رجال ونساء وأطفال لديها.

ويعد هذا الملف ورقة مساومة سياسية تستخدمها «قسد» للضغط على القوى الدولية والإقليمية لضمان استمرار الدعم العسكري والسياسي لها. ومع غياب حلول واضحة أو خطط فعالة للتعامل مع هذه الفئة، يظل الخطر قائماً من استغلالهم مستقبلاً لتحقيق مكاسب سياسية أو لتعزيز نفوذ عسكري في المنطقة، خصوصاً مع احتمالات تفكيك معتقل «الهول» وخروج أعداد إضافية منهم إلى المجهول.

«داعش» يهدد سوريا الجديدة

مع إصدار التنظيم بياناً حديثاً يهاجم فيه الحكومة السورية الجديدة ويتوعدها إذا «حادت عن طريق الصواب»، تتزايد المخاوف من أن هذه التهديدات ليست مجرد تصريحات دعائية، بل جزء من استراتيجية أوسع لإعادة فرض نفسه على المشهد السوري.

ولا تزال جيوب تنظيم «داعش» نشطة في البادية السورية والعراقية، حيث تنفذ خلاياه عمليات اغتيال وتفجيرات متفرقة، إلا أن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في هذه العمليات المحدودة، بل في قدرة التنظيم على الاستفادة من الثغرات المتزايدة لإعادة ترتيب صفوفه.

ولعل الأكثر إثارة للقلق هو أن بعض القوى المحلية، سواء من فلول النظام السوري السابق أو حتى قوات سوريا الديمقراطية، قد تجد في استمرار التهديد الداعشي أداة يمكن استخدامها لزعزعة الاستقرار الهش وللحصول على دعم إضافي، سواء من التحالف الدولي أو من الجهات الفاعلة في المشهد السياسي السوري حيث قد يُسمح للتنظيم بتنفيذ عمليات معينة، أو يتم التغاضي عن تحركاته، أو يتم تكليف أفراد منه بمهام في سياق صراعات النفوذ والضغوط السياسية المتبادلة.

سيارة شرطة تابعة للحكومة السورية الجديدة تعبر شارع بجوار مسجد الساحة في تدمر بوسط سوريا في 7 فبراير 2025 (أ.ف.ب)
سيارة شرطة تابعة للحكومة السورية الجديدة تعبر شارع بجوار مسجد الساحة في تدمر بوسط سوريا في 7 فبراير 2025 (أ.ف.ب)

ويمتلك التنظيم من جهته دافعًا قويًا للانتقام من هزائمه السابقة، خصوصاً أن قياداته تدرك أن خسارة الأرض لا تعني بالضرورة نهاية الآيديولوجيا. ولذلك، يسعى التنظيم إلى إعادة بناء نفسه عبر استغلال عدة عوامل، من بينها المظالم المحلية، والانقسامات العشائرية، والتدهور الاقتصادي، وحالة الإحباط واليأس التي يعيشها الكثير من مقاتليه السابقين، بمن فيهم أولئك الذين تم تجنيدهم أطفالاً تحت راية «أشبال الخلافة».

هؤلاء، الذين نشأوا في بيئة الحرب والعنف، يواجهون اليوم واقعاً قاسياً: مجتمعاتهم الأصلية ترفضهم، والفرص الاقتصادية تكاد تكون منعدمة، بينما تلاحقهم وصمة الماضي أينما ذهبوا. ومع غياب برامج إعادة تأهيل فعالة، يظل خطر عودتهم إلى التنظيم قائماً، خاصة في ظل استمرار محاولات «داعش» استقطابهم، إما عبر الإغراءات المالية، أو عبر استغلال شعورهم بالعزلة وانعدام المستقبل.

فهل يشكل هؤلاء الشباب، الذين كبروا بين فوهات البنادق، قنابل موقوتة تهدد استقرار سوريا؟

أو أنهم ضحايا ظروف قاسية، تعلّموا منها وينتظرون إعادة دمجهم في المجتمع ليكونوا جزءاً من الحل بدلاً من المشكلة؟

كابوس الماضي الثقيل

«أستيقظ كل ليلة على صراخي. أرى وجوههم في أحلامي. أطفال مثلي، اختفوا واحداً تلو الآخر. بعضهم قتل في المعارك، وبعضهم حاول الهرب فأُعدم. كنت أتظاهر بالنوم حتى لا أسمع بكاءهم في الليل». يقول سامي الذي يبلغ اليوم 24 عاماً عن رحلته المؤلمة ضمن «أشبال الخلافة» في سوريا، وهو بعمر لم يتجاوز الخامسة عشرة، رحلة لم تنتهِ بسقوط التنظيم، بل تحولت إلى كابوس مستمر يطارده في نومه ويقظته على حد سواء ويعيش معركة يومية مع نفسه دون أن يدري إن كان سينجو أم لا.

وعلى رغم أن كلا من خالد وسامي خرجا من كنف التنظيم، لكن حياتهما لا تزال تحمل آثار الماضي.

يعيش خالد في إحدى قرى إدلب، يعمل في محطة وقود، بالكاد يستطيع تأمين قوت يومه. وبعدما اضطر للعيش مع خاله والزواج من ابنته، وجد نفسه في دوامة فقر لا مخرج منها. فهو لم يكمل تعليمه ولم يكتسب صنعة تعينه.

أما سامي، فيعيش في ريف دير الزور الشرقي الخاضع لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، حيث يحاول إعادة بناء حياته في ظل تحديات اقتصادية وملاحقات أمنية مستمرة.

سوق «الهول» في الحسكة شمال شرقي سوريا 30 يناير 2025 (أ.ب)
سوق «الهول» في الحسكة شمال شرقي سوريا 30 يناير 2025 (أ.ب)

كثيرون ممن خرجوا من تجربة «أشبال الخلافة» توزعوا في أماكن مختلفة، تتفاوت فيها ظروفهم المعيشية بين الصعوبة والاستقرار. سامي القادم من حماة اضطر لتغيير اسمه والسكن في ريف دير الزور الشرقي خوفاً من الانتقام والوصمة الاجتماعية. بعضهم يعيش في شمال شرقي وشمال غربي سوريا، يواجهون البطالة وانعدام الاستقرار، بينما اضطر آخرون إلى تغيير أماكن سكنهم بسبب الخوف من محيطهم الاجتماعي.

في تركيا وإقليم كردستان، يعمل الناجون في مهن شاقة، مثل البناء ومعامل النسيج أو التنظيف، لساعات طويلة وفي ظروف قاسية.

وبدأ بعض هؤلاء الشباب بتلقي الدعم النفسي، والبعض القليل وجد طريقه في العمل أو الدراسة، محاولين ترك الماضي وراءهم خصوصاً إذا ما حظوا بدعم أسرهم.

لكن التحدي الأكبر يبقى في نظرة المجتمع لهم كقنبلة موقوتة، لا كأطفال سرقت طفولتهم، ويستحقون فرصة حياة.

يقول سامي: «عندما يعرف الناس قصتي، أرى الخوف في أعينهم. لا يريدون الاقتراب مني، رغم أنني لم أختر تلك الحياة».

أما خالد، فيجد صعوبة حتى في الحديث عن ماضيه: «كيف يمكنني أن أشرح؟ كيف أقول إنني لم أكن أملك خياراً؟».

ورغم اختلاف مصائرهم، فإن القاسم المشترك بينهم جميعاً هو صعوبة التخلص من الظلال الثقيلة للماضي وهم يتأرجحون بين كونهم ضحايا أو جلادين أو تهديدات أمنية محتملة.

أن تأخذ سبية أو تشهد إعداماً

يتذكر سامي حين جُنّد وهو طفل، يوماً محدداً غيّر مجرى حياته بالكامل. يوم لم تفارقه تفاصيله حتى بعد سنوات من هروبه، ويقول:

«كنت في الخامسة عشرة عندما طلبوا مني الذهاب إلى غرفة وأخذ سبية. لم أفهم تماماً ما يريدون مني فعله. كنت أشعر بالخوف والارتباك، ولكن لم يكن مسموحاً لي بأن أسأل. عندما دخلت، رأيت فتاة صغيرة تبكي. كانت طفلة، أصغر مني بسنة أو سنتين. نظرنا إلى بعضنا، وبدأنا بالبكاء معاً. لم أستطع تحمل الموقف وشعرت بأنني أختنق. تلك الليلة لم أنم، كنت أرى وجهها في كل مكان. كنت أتساءل: هل ما زالت هناك؟ هل أنقذها أحد؟».

ما زال سامي يعيش في تلك الليلة، وكأن الزمن توقف عندها. كلما تذكرها، تتجدد مشاعره كما لو أنه ما زال ذلك الصبي الخائف الذي لم يفهم العالم.

أما خالد، فكان أصغر من سامي عندما جُند، ويتذكر أول عملية إعدام شهدها، ولا تزال تفاصيلها محفورة في ذاكرته كأنها حدثت أمس:

«كنت في الخامس الابتدائي. كان أمامنا رجل مقيد على ركبتيه، وعيناه معصوبتان. القائد أمر أحد الفتيان بالتقدم. لم يرفض، لم يتردد. وكأنه آلة مبرمجة. رفع السكين وقطع رأس الرجل. لم أتحرك. لم أستطع حتى أن أرمش».

بعد سنوات، ما زال خالد يعاني من آثار بعد الصدمة التي أحدثتها تلك اللحظة، مشاهد الدماء، الصوت الخافت الأخير للضحية، النظرات المذعورة، كلها مطبوعة في ذاكرته. لم يكن وحده في ذلك، فقد أظهرت الشهادات التي جمعناها أن معظم «الأشبال» الذين شهدوا عمليات الإعدام الأولى كانوا يعانون من حالة من الصدمة العاطفية الصامتة، حيث كان يُطلب منهم عدم إظهار أي تأثر، بل وتشجيعهم على الإعجاب بالمشهد بعدّه «تنفيذاً لحكم الله».

يقول ناصر، أحد الناجين من هذه التجربة: «كنا مجموعة من الأطفال، لا نعرف ماذا يحدث حقاً. في البداية، كنت أظن أن كل شيء مجرد تمثيل، حتى أدركت أن الدماء حقيقية. كنت أحاول ألا أنظر، لكن القادة كانوا يجبروننا على المشاهدة. يقولون: هذا مصير المرتدين، وهذا سيكون مصيركم إذا خالفتم الأوامر».

كان الهدف واضحاً: تحويل الأطفال إلى آلات قتل، ونزع إنسانيتهم تدريجياً عنهم وتحويلهم إلى أدوات في ماكينة الموت الجماعي.

بعد سنوات من الفرار من التنظيم، لا يزال سامي يستيقظ كل ليلة على صراخه. يقول إنه يرى الفتاة الصغيرة في أحلامه باستمرار: «أحياناً أراها تصرخ، أحياناً تكون صامتة، لكن نظرتها تطاردني. لا أستطيع الهروب منها، كما لم تستطع هي الهروب مني حينها».

أما خالد، فمشكلته مختلفة، لكنها متجذرة في صدمته ذاتها. يقول بصوت منخفض وكأنه يخشى أن يسمعه أحد: «كلما رأيت سكيناً، أشعر برعشة. لا أستطيع حتى تقطيع الخبز دون أن تعود لي الصور. حتى حين أشاهد فيلماً عادياً فيه مشهد عنف، أشعر أنني أختنق».

تظهر شهادات أخرى أن العديد من «الأشبال السابقين» يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة بدرجات متفاوتة. يقول ياسر، أحد الناجين: «أحلم دائماً بأنني أركض في ممر طويل لا نهاية له، وفي نهايته أرى وجوه القتلى تنظر إليّ. لا أستطيع الهروب، لا أستطيع حتى الصراخ».

جيل من الأطفال يولد في مخيم غالبية سكانه من أسر «داعش» (الشرق الأوسط)
جيل من الأطفال يولد في مخيم غالبية سكانه من أسر «داعش» (الشرق الأوسط)

رسالة تجنيد من مجهول

على الرغم من انهيار دولة «الخلافة»، لم يتوقف تنظيم «داعش» عن محاولاته لاستعادة نفوذه عبر حواضنه السابقة نفسها. لكن الأساليب تغيّرت، وأصبحت أكثر تعقيداً ولا مركزية، ما يجعل من الصعب تتبعها أو القضاء عليها تماماً. فمع ظاهرة التكليف بمهام محددة خارج الإطار التنظيمي أو قيادة مركزية، أصبح هناك عمل مستقل، ودون تنسيق مباشر أحياناً، لدرجة أن بعض الأفراد المستهدفين قد يتلقون أكثر من عرض للتجنيد من جهات مختلفة تابعة للتنظيم، دون أن يعرفوا أيها أكثر ارتباطاً بهيكل القيادة السابق.

يقول خالد: «وقعت في الأسر وبعد فترة من خروجي، جاءني شخص لا أعرفه، بدا ودوداً جداً. لم يقل لي مباشرة إنه من التنظيم، لكنه كان يلمّح دائماً إلى أن الماضي لم ينتهِ، وأن هناك فرصة للعودة إلى العائلة. وبدا أنه يعرف تفاصيل عن حياتي، وعن سجني، وحتى عن الأشياء التي لم أخبر بها أحداً. فمن أين حصل على هذه المعلومات؟».

مثل خالد، تلقى سامي أيضاً عروضاً غير مباشرة، لكنها كانت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يستخدم التنظيم حسابات مزيفة على «تلغرام» و«واتساب» لاستدراج الشباب. ويقول: «ذات يوم، وصلتني رسالة من مجهول عبر تلغرام. قال لي إنه يعرف ما مررت به، وإن هناك طريقة لأجد مكاني في الحياة من جديد. بدأ بالحديث عن الظلم، وكيف أننا مجرد أدوات تم استغلالها ثم رُميت جانباً. كان بارعاً جداً في اختيار كلماته، كأنه طبيب نفسي يعرف كيف يصل إلى نقاط ضعفي».

وبالإضافة إلى الأساليب التقليدية للتجنيد، يستغل التنظيم التكنولوجيا الحديثة، وألعاب الفيديو التي تروج للأفكار الجهادية والمنتديات المغلقة. في بعض الأحيان، يتم إرسال روابط مشفرة تحتوي على رسائل دعائية، أو فرص تعليمية ومنح دراسية تبدو عادية، لكنها في الواقع وسيلة استدراج إلى مناطق النفوذ.

وبدأ التنظيم في فترة من الفترات الاعتماد على أشخاص لم يكونوا مقاتلين بالضرورة، بل عملوا في مجالات مدنية ولهم قبول بين الناس مثل عمال الإغاثة أو الخدمات اللوجيستية أو غيرها من القطاعات المدنية التي كانت تابعة للتنظيم في فترة سيطرته. ويقول خالد: «أخبرني صديق قديم بأنه يعمل مع شخص ميسور يقوم بتوزيع الأموال والسلال الغذائية والبطانيات للقرى الفقيرة، وقال لي إنه بإمكاني الانضمام والعمل معه. لاحقاً، عرفت أن هذا العمل ليس سوى غطاء، وأن بعض العاملين فيه هم في الحقيقة من أفراد التنظيم السابقين».

سجن الصناعة الذي يضم عناصر «داعش» في شمال شرقي سوريا الخاضع لحراسة «قسد» (رويترز)
سجن الصناعة الذي يضم عناصر «داعش» في شمال شرقي سوريا الخاضع لحراسة «قسد» (رويترز)

المجتمع يرفضنا والحكومة لا تثق بنا

تشكل الظروف الاقتصادية، كما الوصمة الاجتماعية، عاملاً رئيساً في استمرار نجاح التنظيم في تجنيد الشباب. يعيش كثير من هؤلاء الفتية في مناطق تفتقر إلى فرص العمل، ويعانون من التهميش الاجتماعي، ما يجعلهم عرضة للإغراءات المالية التي يقدمها التنظيم.

يقول سامي: «عندما خرجت، لم أجد أي عمل. حاولت أن أبدأ من جديد، لكن الجميع كان ينظر إليّ كتهديد. لم أكن أملك شيئاً، ولا مستقبلاً. في لحظات اليأس، فكرت: ماذا لو عدت؟ على الأقل سأحصل على شيء مقابل المخاطرة. لا أحد يقبل توظيفي هنا، الجميع يراني تهديداً».

أما خالد، فيتحدث عن شعور آخر يلازم معظم الناجين من تجربة «أشبال الخلافة»: العزلة. «المجتمع لا يريدنا، والحكومة لا تثق بنا. نحن عالقون في مكانٍ لا نعرف إلى أين نذهب منه. عندما يأتي شخص ويقول لك: نحن لم ننسَك، نشعر أنك ما زلت واحداً منا، فإنك قد تفكر في الأمر».

أحد الشهود الآخرين قال: «عندما لا تجد طعاماً، وعندما يرفض الجميع توظيفك لأنك كنت يوماً جزءاً من التنظيم، تبدأ في التفكير في الخيارات المتاحة أمامك. بعضنا قوي بما يكفي لرفض العودة، لكن البعض الآخر قد لا يملك القدرة نفسها».

حرب طويلة

من الأمور التي زادت من ارتباك الناجين أن التنظيم يبدو وكأنه يعرف كل تحركاتهم. لم يكن الأمر يقتصر على مجرد رسائل أو محاولات لقاء، بل في بعض الأحيان كانوا يجدون أنفسهم محاطين بأشخاص يعرفون عنهم تفاصيل لم يشاركوها مع أحد.

يقول خالد: «بعد خروجي بفترة، كنت أعيش في مكان بعيد عن أي شيء له علاقة بالتنظيم. لكن فجأة، ظهر شخص في المسجد الذي كنت أصلي فيه. كان يتحدث عن كيف أن بعضنا قد ضلّ الطريق، لكنه يستطيع العودة. عندما اقتربت منه وسألته عن قصده، قال لي شيئاً جعل الدم يتجمد في عروقي: أنت كنت هناك، أنت تعرف ما أعنيه».

قد تكون دولة «الخلافة» قد سقطت، لكن أفكارها لم تختفِ، وأساليبها تتطور دائماً لتتلاءم مع أي واقع جديد. بالنسبة لخالد وسامي وغيرهما من «الناجين»، فإن الصراع لم يكن يوماً مجرد معركة سلاح، بل هو حرب نفسية مستمرة، حيث يحاولون الحفاظ على هويتهم الجديدة، بينما يواجهون أشباح الماضي ومحاولات التنظيم لاستعادتهم، بينما سوريا اليوم مفتوحة على خيارات لا تحصى.