بن لادن استقبل مبعوث صدام حسين فارتبط غزو العراق بهجمات 11 سبتمبر

زعيم «القاعدة» اتهم «البعث» بـ«الكفر» رداً على وساطة «الإخوان» السوريين بينهما

TT

بن لادن استقبل مبعوث صدام حسين فارتبط غزو العراق بهجمات 11 سبتمبر

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)
فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

ما أخطر مهمة يمكن أن يقوم بها إنسان؟ إنها لقاء يعقده مبعوث رجل صعب اسمه صدام حسين مع رجل صعب مقيم في السودان اسمه أسامة بن لادن، وأن تعرف أجهزة جورج بوش الابن أن اللقاء قد عُقد.

لا مبالغة في القول إن ذلك اللقاء كان الذريعة الأهم التي استخدمتها واشنطن في تبرير غزو العراق مستفيدةً من المناخات التي سادت أميركا بعد الهجمات التي شنتها «القاعدة» بزعامة بن لادن في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على واشنطن ونيويورك.

لم يكن هناك أصلاً أي مبرر كي يؤثر بن لادن على مصير صدام حسين. ينتمي الرجلان إلى قاموسين متباعدين. ثم إن صدام رئيس دولة عريقة في المنطقة وليس زعيم فصيل. وهو ابن حزب علماني، مما جعله يختار طارق عزيز المسيحي وزيراً لخارجية البلاد، الأمر الذي تعذر في أماكن أخرى. ثم إنه ليس من عادة صدام أن يتنازل للانخراط في لعبة لا يكون صاحب القرار فيها.

لكن خطأ القبول بموعد في الخرطوم جعل صدام يدفع ثمن الاتصال بأسامة بن لادن رغم أن اللقاء انتهى إلى فشل. ويقول أحد الذين عملوا في المخابرات العراقية في تلك الفترة إن القوات الأميركية التي غزت العراق استولت على وثيقة أعدَّتها المخابرات وتقول فيها إن المبعوث العراقي نصح بصرف النظر عن فكرة التعاون مع بن لادن، وهو ما حدث.

صدام مجتمعاً بأركان نظامه غداة اتهام جورج بوش له بالتعاون مع «القاعدة» (غيتي)

والواقع أن التسعينات السودانية كانت شديدة الخطورة. ارتكب فيها نظام الرئيس عمر البشير ثلاثة أخطاء كبيرة هي: استضافة زعيم «القاعدة»، واستضافة أشهر مطلوب دولي آنذاك وهو كارلوس الفنزويلي منفِّذ عملية احتجاز وزراء «أوبك»، وتداخل مع الخطأين ارتكاب كبير تمثَّل في ضلوع الرجل الثاني في النظام علي عثمان طه في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا.

لم يتوقف بن لادن طويلاً عند ما حدث في الخرطوم في أغسطس (آب) 1994. ففي ذلك الشهر جاءت وحدة كوماندوز فرنسية واعتقلت كارلوس واقتادته إلى فرنسا حيث يهرم الآن في سجنه. ولم يكن هناك ما يسمح بقيام تعاون بين كارلوس وبن لادن حتى ولو جمعهما العداء للغرب. جاء كارلوس من ينابيع مختلفة. من مناخات الحزب الشيوعي الفنزويلي وأطل على العالم على يد الدكتور وديع حداد، مسؤول «المجال الخارجي» في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». ولا مبالغة في القول إن حداد حوّل كارلوس نجماً ورمزاً قبل أن يفترق الرجلان في بداية 1976. نفَّذ كارلوس بعد ذلك التاريخ هجمات، لكن زمن لمعانه انقضى بعد مغادرته عباءة حداد.

أغلب الظن أن بن لادن لم يشعر بالقلق من احتمال أن يواجه مصير كارلوس. فهو جاء إلى السودان مع ثروته. ثم إن سلوكه الشخصي مختلف عن سلوك كارلوس الذي تستهويه مناخات الليالي الصاخبة حتى في مدينة محافظة. لكن بن لادن لم يتنبه إلى أن نظام عمر البشير وحسن الترابي قد يرضخ أيضاً للضغوط وينصحه ذات لحظة بالمغادرة.

بن لادن «مستثمراً»

ما قصة بن لادن مع السودان؟ سألت صديقاً مطلعاً أن يروي، فقال: «جاء أسامة بن لادن إلى السودان مرتين. كانت الأولى على ما أذكر في نهاية أغسطس (آب) 1988. كان السودان قد تعرض في تلك الفترة لسيول وفيضانات خلَّفت ضحايا وأضراراً واسعة في بلد معروف الإمكانات. كنت في زيارة شخصية رفيعة حين دخل شابان هما أسامة بن لادن وأخوه الأصغر».

صورة نادرة للبشير وبن لادن في سنوات السودان

يتذكر الرجل أن أسامة «قدم نفسه بوصفه صاحب شركة إنشاءات وتحدث بلغة هادئة. تطرق إلى ما أحدثته السيول معبِّراً عن تعاطفه مع البلد. شدد على أهمية أن تكون في بلاد واسعة كالسودان شبكة طرق جيدة نظراً لما لذلك من فوائد اقتصادية وتنموية، ولأن هذه الشبكة تسهل عمليات الإغاثة في حال حصول كوارث طبيعية. وأعرب في اللقاء عن استعداد المؤسسة التي يديرها للمساهمة في شق الطرق وفي بعض عمليات الإغاثة. تحدث الرجل بصورة طبيعية ولم يكن اسمه آنذاك معروفاً إلا في سياق المشاركة في الجهاد الأفغاني ضد السوفيات».

ويضيف الراوي: «بعد تحرير الكويت على يد تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة غادر بن لادن السعودية إلى السودان في 1991، وأعتقد أن ملفه صار هذه المرة في عهدة الأمن. اصطحب بن لادن معه إحدى زوجاته وأقام في محلة الرياض في الخرطوم في فيلا يملكها مغترب سوداني كان يعيش في السعودية اسمه عثمان سلمان. وكان سلمان مديراً لمصنع الشفاء الذي قصفته القوات الأميركية في 1998 في عهد الرئيس بيل كلينتون».

«الأفغان العرب» في السودان

طلب بن لادن من الجهات التي تتولى العلاقة معه السماح له باستقدام أفراد من مجموعته. في محلة سوبا الحلة التي تبعد 25 كيلومتراً عن الخرطوم. اشترى مزرعة كمزارع الباقير التي تبعد 60 كيلومتراً عن العاصمة والتي كانت تحتوي على عدد من العنابر. في محلة الرياض كان مع بن لادن سوري أصبح إماماً للمسجد القريب الذي كان بن لادن قليلاً ما يظهر فيه، وقد اعتُقل السوري المشار إليه لاحقاً في ألمانيا. في محلة سوبا الحلة لاحظ سكان أن شباناً بملامح غير أفريقية يركضون صباحاً في ما يشبه التدريبات وتبين لاحقاً أن هؤلاء من «الأفغان العرب».

منزل بن لادن في السودان (أرشيفية - الشرق الأوسط)

كانت لدى بن لادن شركة اسمها «وادي العقيق» تولت بناء مطار في بورتسودان وشق أكثر من طريق، بينها طريق الخرطوم-العيلفون. وعلاوة على ذلك كان بن لادن مولعاً بتربية الخيول التي كانت أيضاً محط اهتمام عدد من أبناء كبار الشخصيات البارزة، وبينهم عصام نجل الدكتور حسن الترابي.

كان سلوك أسامة بن لادن أقرب إلى الانطواء. لم يكن يظهر في مناسبات عامة. لكنَّ وجود «الأفغان العرب» بدأ يثير بعض الإشكالات. كان هناك مثلاً إسلامي ليبي اسمه محمد عبد الله الخليفي يدخل مع جماعة «أنصار السنة» في جدالات حادة. في فبراير (شباط) 1994، ذهب الخليفي إلى مسجد الشيخ أبو زيد في الخرطوم وسحب رشاشه وقتل 20 شخصاً من «أنصار السنة». توجه بعدها مع رفاق له إلى منزل بن لادن وتبادل إطلاق النار مع حراس المنزل. بعد اعتقاله تبين أنه كان ينوي أيضاً اغتيال بن لادن والدكتور الترابي.

زار الراوي بن لادن وسأله إن كان يعرف هؤلاء فقال إنه كان يتعرف عليهم في مرحلة الجهاد ضد السوفيات في أفغانستان. وأضاف بابتسامة أن هؤلاء كانوا مولعين بمسألة التكفير. يُكفِّرون الحاكم ثم الجماعة ويُكفِّرون حتى أنفسهم.

كان أسامة بن لادن مستقراً في السودان. تردد لاحقاً وعلى لسان مسؤولين بارزين بينهم الترابي أن جهاز الأمن السوداني عرض ذات يوم على الجانب الأميركي تسليمه بن لادن لكنه رفض بسبب عدم وجود أسباب لمحاكمته في الولايات المتحدة. لكنَّ زلزالاً مفاجئاً سيغير المشهد السوداني لجهة علاقته بـ«الأفغان العرب».

محاولة اغتيال مبارك

في 26 يونيو (حزيران) 1995، نجا الرئيس حسني مبارك من محاولة اغتيال استهدفته في أديس أبابا خلال مشاركته في القمة الأفريقية. أثار الحادث ردود فعل عربية وإسلامية ودولية خصوصاً بعدما ألمح مبارك نفسه إلى احتمال علاقة «الجبهة الإسلامية» التي يتزعمها الترابي بالحادث.

سيارة المسلحين الذين حاولوا اغتيال مبارك في أديس أبابا (أ.ف.ب)

وقع فشل المحاولة كالصاعقة على النظام السوداني بعدما لاحت في الأفق بوادر عقوبات دولية عليه. الرجل الذي أُصيب بالذعر هو الرجل الثاني في النظام، أي نائب الرئيس، علي عثمان طه، وهو كان «الرجل القوي» في عهد البشير. كان الرجل ضالعاً في المحاولة مع كبار المسؤولين في جهاز الأمن. وقد أوكل التنفيذ إلى «الجماعة الإسلامية» المصرية بزعامة مصطفى حمزة الذي نجح في الفرار من السودان بعد الهجوم الذي أدى إلى مقتل خمسة من المهاجمين.

خروج بن لادن

لم يكن أمام النظام غير السعي إلى محاولة خفض الأضرار والأخطار. أقال البشير كبار مسؤولي جهاز الأمن وتقرر تسفير «الأفغان العرب». وذات يوم جاء البشير ونائبه إلى مكتب الترابي وأبلغاه بأن ترتيبات مغادرة أسامة بن لادن قد أُنجزت. وزار الرجلان بن لادن في مقر إقامته، ثم تولت طائرة عسكرية نقله إلى أفغانستان.

البشير ونائبه أمام القضاء بعد إطاحتهما (أ.ف.ب)

احتضنت حركة «طالبان» زعيم «القاعدة» ووفَّرت له الملجأ الآمن. لم يكن الملا عمر يتوقع أن يكون هذا الزائر سبباً في سقوط نظامه. في أواخر التسعينات كان السؤال عن بن لادن طبيعياً حين يلتقي صحافي مسؤولاً سودانياً. سألت الرئيس عمر البشير فأجاب: «جاء بن لادن إلى السودان في أعقاب الحرب الأفغانية من مدخل الاستثمار في مجال الطرق والمطارات والزراعة، وهي مجالات ظل يعمل فيها وتعمل فيها شركات تابعة لأسرته منذ أمد طويل، وليس له أتباع أو شبكات تنبت بهذا المعنى في السودان سوى مجموعة قليلة من مساعديه ظلت دائماً حوله. ظل هؤلاء بعيدين عن الإعلام وأجهزته على أي مستوى، بل لم يشاركوا حتى في مناسبات ونشاط المجتمع العادي. لكنَّ أميركا جعلت منه بعبعاً ترى صورته في كل مكان وحتى بعد أن خرج من السودان وهي تعلم جيداً أنه يعيش في شبه عزلة في بلد بعيد، لكنَّ هواجسها تغلب معلوماتها».

كلام البشير لا يُلغي أنه التقى الرجل مرات عدة في أثناء وجوده في الخرطوم ويصعب الاعتقاد أن الرئيس كان غير مطلع على علاقة حلقة في جهاز الأمن السوداني ببن لادن و«مزارعه».

وكان من الطبيعي أن أسأل الترابي نفسه، فقال: «نعم، قام بيني وبينه حوار محدود، فهو كان يبني في السودان طرقاً ومطارات وهو من أسرة تعمل في هذا المجال. لم يكن رجلاً يدخل في الساحات الفكرية والصحافية، ولم يُكتب عنه في الصحافة ولم يُرَ يوماً فيها. تحدثت معه عن أفغانستان وعن أننا كنا نخشى أن يترك الروس وراءهم بعد خروجهم منها أناساً ثوريين تمرَّسوا في تخريب (الباطل والاستبداد الأجنبي) ولكنهم لم يتمرنوا على أي شيء آخر فيحدث لهم ما حدث للثورة الفرنسية وكل الثورات الأخرى. قلت له إنني كنت أتحدث مع الإخوة في أفغانستان قبل سقوط كابل وكيف يجب أن يُحضِّروا لما بعد تحرير البلاد. وحدَّثته أن كابل سقطت قبل أن يتهيأوا لذلك ولم يكن لديهم بعد استعداد لإقامة مجتمع مسلم على مثالهم».

حسن الترابي (أ.ف.ب)

ورداً على سؤال عن الجهات التي طالبت بخروج بن لادن من السودان، قال الترابي: «جاء خروجه بطلب من البريطانيين نيابةً عن الأميركيين. المملكة العربية السعودية لم توجه ضغطاً مباشراً على السودان وهي لطيفة أصلاً. هو شعر بأن وجوده يُحرج العلاقات بين السودان والسعودية، والبَلدان تربطهما علاقات وثيقة جداً. العلاقات طيبة جداً ومن السودانيين نحو نصف مليون مواطن يعملون في السعودية ولم يطردوا واحداً منهم، وبن لادن لم يكن يريد أن يُحرج هذه العلاقات».

أفغانستان والمرحلة الأخطر

عاد أسامة بن لادن إلى أفغانستان لتبدأ المرحلة الأخطر في تجربته. بعد شهور من عودته سيطرت حركة «طالبان» على أفغانستان وعدّته ضيفاً عليها. بعد عامين فقط دوت تفجيرات في سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، ووجهت واشنطن أصابع الاتهام إلى زعيم «القاعدة» المتحصن في أفغانستان، وتكرر الأمر نفسه بعد الهجوم الذي استهدف المدمرة «كول» الراسية في ميناء عدن. أصدر بن لادن في تلك الفترة بيانات توحي بأنه أطلق الحرب على الولايات المتحدة، لكن لم يتوقع أحد أن ينقل الحرب إلى أراضيها، وهو ما حدث في 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

حين حاول الرئيس جورج بوش الابن تبرير قراره بغزو العراق، أورد جملة اتهامات ضد نظام صدام تشمل أسلحة الدمار الشامل والقمع والمقابر الجماعية وانتهاك القرارات الدولية. لكنَّ التهمة التي استوقفت كثيرين كانت كلام بوش عن تعاون نظام صدام مع «القاعدة». لم تقدم الإدارة الأميركية دليلاً على تعاون من هذا النوع وظل الحديث عن علاقة بين نظام صدام و«القاعدة» مجرد تهمة لم يتقدم مَن يثبتها أو يقدم الدليل عليها.

قصة محاولات التواصل

أسوةً بصحافيين كثيرين أثار موضوع الاتصال بين صدام وبن لادن فضولي، فرُحتُ أسأل عنه. لم أعثر على جواب لدى معارضي صدام ولا لدى بعض الذين عملوا معه آنذاك. وكان لا بد من محاولة الوصول إلى «الصندوق الأسود» الحقيقي، أي إلى ذاكرة المخابرات العراقية في تلك الفترة. وافق رئيس شعبة أميركا في المخابرات، سالم الجميلي، على التحدث، وشاءت الصدفة أن يكون وراء المحاولة الأولى للاتصال بزعيم «القاعدة».

قبل الغزو العراقي للكويت كانت العلاقات بين العراق والسعودية طبيعية وإيجابية. وقَّع البلدان اتفاقية أمنية تحظر التدخل في الشؤون الداخلية وتوقف نشاطات الأجهزة الاستخباراتية على أرض الدولة الأخرى إلا في حدود النشاط العادي للسفارات. وكان صدام حسين يتحدث بإيجابية عن السعودية ووقوفها إلى جانب العراق في الأيام الصعبة وكان يشيد بالملك فهد بن عبد العزيز واحترامه الروابط بين البلدين وعدم امتناعه عن تقديم أي دعم ممكن إبان الحرب العراقية - الإيرانية. وروى أحد الذين عملوا في قصر الرئاسة العراقي أن الملك فهد بذل جهوداً حثيثة في الساعات التي أعقبت بدء الغزو لتدارك الموقف وإعادة الأمر إلى طاولة المفاوضات، لكنَّ صدام كان ذهب بعيداً.

أدت الأزمة عملياً إلى سقوط الاتفاقية الأمنية والتزاماتها. حين بدأت تتوارد أخبار عن اتصالات تُجريها المعارضة العراقية مع السعودية، كتبت المخابرات إلى الرئيس تقترح إلغاء الاتفاقية الأمنية مع السعودية لكنه رفض. وعندما كررت المخابرات حديثاً عن الاتصالات بين المعارضة العراقية والرياض، طلب صدام تزويده بتقرير شهري عن هذا الموضوع. وفي وقت لاحق استنتج صدام أن السعودية بدأت تدعم فكرة تغيير نظامه فأصدر توجيهاً إلى المخابرات بـ«العمل بكل قوة خصوصاً لتقويض الوجود العسكري الأميركي في السعودية».

سالم الجميلي (الشرق الأوسط)

قال الجميلي: «حين يصدر توجيه من هذا النوع من الرئيس شخصياً، فعلى كل الأجهزة الأمنية أن تبحث عن كل الأوراق التي يمكن أن تسهم في تنفيذه. كنت في ذلك الوقت مسؤولاً عن شعبة سوريا في الجهاز، وكانت لدينا علاقات مع جماعة الإخوان المسلمين في سوريا - جناح عدنان عقلة. أرسل عبد الملك شقيق عدنان أن لدى الإخوان علاقات مع بن لادن وأنهم على استعداد لإيصال رسالتنا إليه. استدعيته واستقبلته في أحد فنادق بغداد فأكد استعداده للقيام بهذا الدور. حمّلته رسالة شفوية فحواها أن لدينا الآن هدفاً مشتركاً وهو إخراج القوات الأميركية من المنطقة، وأننا يمكن أن نتعاون في هذا المضمار. أعطيناه نفقات السفر وكانت في حدود 10 آلاف دولار».

وأضاف: «عاد الرجل بعد شهر أو أكثر قليلاً. أبلغنا بأن موقف بن لادن كان متشدداً جداً وأنه كرر مرات عدة أن النظام في العراق كافر وهو الذي تسبب في مجيء القوات الأميركية إلى المنطقة، وأنْ لا مجال لأي لقاء مع ممثليه أو التعاون معه. نحن نتحدث عن السنوات الأولى من التسعينات ولم تكن هناك عمليات لتنظيم (القاعدة) من قماشة 11 سبتمبر. وسمعت يومها من مدير (العمليات الخارجية) في الجهاز فاروق حجازي أن رداً مشابهاً من بن لادن جاء عبر قناة أخرى».

لقاء بن لادن ومسؤول مخابرات صدام

فهم الجميلي لاحقاً أن حجازي زار الخرطوم والتقى بن لادن بعد وساطة قام بها سياسي ورجل دين سوداني هو الدكتور حسن الترابي. ويقول: «أطلع حجازي الرئيس على ما جرى ولم يحدث أي تعاون مع (القاعدة). وهذا ما قصده جورج بوش الابن حين قال إن الرئيس أرسل مبعوثاً إلى بن لادن. أعتقد أنه كان يعرف أنه لم يحصل أي تعاون، لكنه امتنع عن ذكر ذلك لتبرير الغزو».

مصدر آخر رفض الكشف عن اسمه قال إن بن لادن أظهر في لقائه مع حجازي «شيئاً من المرونة بالنسبة إلى موقفه من نظام البعث العراقي». وأضاف أن بن لادن «طالب في حال التعاون أن تكون له معسكرات تقام تماماً خارج سلطة الدولة العراقية، وأن يمتلك حرية تحديد الأهداف والتوقيت». وأشار إلى أن «صدام سأل حجازي عن موقفه فردَّ بأن إدارة جماعة بن لادن لن تكون سهلة، وأن ثمن التعاون معه سيكون بالغ الخطورة. فطلب صدام من حجازي طي الموضوع نهائياً».

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

نهاية المعنيين بذلك الموعد الخطر معروفة. التفَّ حبل الإعدام حول عنق صدام حسين. وأعدمت السلطات العراقية فاروق حجازي الذي لجأ إلى سوريا بعد سقوط نظام صدام لكنه أُرغم على التوجه إلى الحدود السورية - العراقية، حيث اعتُقل. وطاردت القوات الأميركية أسامة بن لادن حتى تمكنت منه وقتلته في باكستان.

تقع المدن أحياناً في إغراء التهور وتكلِّف نفسها على يد مغامرين ما يفوق طاقتها ثم ترتطم بالواقع وبالعالم. دفعت الخرطوم ثمن استقبال المطلوبين وعوقبت قبل أن تحاول خفض الأضرار وتغيير اتجاه البوصلة. هناك من يقول إن خرطوم البشير حلمت أن تكون عاصمة أعداء الغرب، وإن الترابي حلم بأن يكون مرجع حركات الإسلام السياسي في تكرار لتجربة الخميني. كلّف الرجلان السودان ما يفوق طاقته.


مقالات ذات صلة

ترمب يحيي الذكرى الـ24 لهجمات 11 سبتمبر من وزارة الحرب

الولايات المتحدة​ الرئيس دونالد ترمب يتحدث خلال حفل بالبنتاغون لإحياء الذكرى الـ24 لهجمات 11 سبتمبر (أ.ب)

ترمب يحيي الذكرى الـ24 لهجمات 11 سبتمبر من وزارة الحرب

شارك الرئيس دونالد ترمب والسيدة الأولى ميلانيا ترمب في مراسم الاحتفال بالذكرى الرابعة والعشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).

هبة القدسي (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب وعقيلته أثناء مشاركتهما في احتفال ذكرى 11 سبتمبر (أ.ب)

ترمب في ذكرى هجمات 11 سبتمبر: نحن نتحدّى الخوف ونَثبُت في وجه النيران

أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الخميس، إلى الأذهان لحظات من أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

«الشرق الأوسط» (نيويورك )
الولايات المتحدة​ كايلي كوريجان تتحدث بالقرب من والدها بريندان كوريجان رئيس كتيبة في إدارة الإطفاء في نيويورك العام الماضي (نيويورك تايمز)

أبناء وأحفاد قتلى هجمات 11 سبتمبر يحيون الذكرى في نيويورك

تشهد ساحة النصب التذكاري والمتحف الوطني لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، في نيويورك، الخميس، تجسيداً حياً للذكرى عبر الأجيال، مع إقامة الحفل الرابع والعشرين

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الولايات المتحدة​ دخان يتصاعد من مركز التجارة العالمي بعد اصطدامه بطائرتين في 11 سبتمبر 2001 بمدينة نيويورك (أرشيفية - متداولة)

بعد 24 عاماً من هجمات سبتمبر... خالد شيخ محمد وآخرون ينتظرون المحاكمة

في الذكرى الـ24 لهجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 التي رسخت ثاني أسوأ هجوم إرهابي على الأراضي الأميركية، فإن نظريات المؤامرة لا تزال مشتعلة.

هبة القدسي (واشنطن)
آسيا وزير داخلية «طالبان» سراج الدين حقاني (على اليمين) يحضر اجتماعاً لمندوبي «طالبان» من جميع أنحاء البلاد بمناسبة الذكرى الرابعة للانسحاب الأميركي وبدء حكم «طالبان» (أ.ب)

«طالبان» تحتفل بذكرى الانسحاب الأميركي من أفغانستان

احتفلت «طالبان» بالذكرى السنوية الرابعة لعودتها إلى السلطة بإلقاء الزهور من طائرات الهليكوبتر فوق كابل بينما أكدت الأمم المتحدة أن النساء يواجهن «أسوأ أزمة».

علي بردى (واشنطن )

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.