تكريم عائلة بندلي، في مدينتهم طرابلس، التي منها انطلقوا في السبعينات، قد لا تكون مجرد مناسبة عابرة. اكتشف جيل جديد، لم يكن يعرف العائلة الفنية التي كانت ذات يوم من بين الأشهر في العالم العربي، ريبرتوراً بديعاً، طازجاً، معاصراً، كأنه ولد اليوم، ويستحق أن يستعاد.
وفي «ستيريو كواليس»، الذي افتتح قبل أشهر قليلة في المدينة، وضمن مهرجان «رمّان» الموسيقي، في دورته الثالثة، أقيم حفل التكريم، الذي شارك فيه موسيقيون شباب بموهبة عالية، ومغنيات يانعات، يؤدين كأنهن محترفات، وجمهور من كل الأعمار، بينهم من جاء يسترجع ماضيه، وبعض آخر أتى يكتشف ما فاته. وفي الصالة بين الحضور كان أفراد من عائلة بندلي، التي تشتت شملها، وتوقفت عن الغناء نهاية ثمانينات القرن الماضي، بينهم دورا نجمة الفريق، والصوت الذي أدى أجمل الأغنيات وأشهرها، مثل «وردة حمرا مثلي سمرا» التي كانت باكورة الأعمال، و«عنا جار»، و«نتالي».
البدء كان مع «عيلتنا عيلة»، ثم «ألو ألو تليفون، حبينا عالتليفون»، «منحكي منحكي ليل نهار»، وكرّت سبحة الأغنيات التي تعكس صورة الحياة، البسيطة، البريئة، في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، بتعابيرها الطريفة، ومحكيتها البليغة، مع موسيقى مجددة، حيوية، نابضة، تتماشى وذوق الشباب الذين جاءوا للاستمتاع والاكتشاف. تالا محمود، أدت كما لو أنها عايشت أسرة بندلي، مع أنها لا بد كانت لم تولد بعد، يوم اعتزلوا الغناء كعائلة، وزميلتها السورية أسما عرايشي صدحت بصوت رنان. لم يشعر الحضور بغربة عن الأصوات البندلية التي اعتادها، فالأداء الجميل يجعلك مأخوذاً بالتجديد، غير مشدود إلى ما ألفته. أما دورا بندلي التي كانت ذات يوم هي من تؤدي على المسرح، ها هي تجلس مع الحضور، ملامحها تتبدل بين الابتسام والتأمل، فيما لا تتوقف عن ترديد الأغنيات مع المؤديات اللواتي انضمت إليهن غناءً الموسيقية أمل بالمنى.
أدار الفرقة الموسيقي سماح بالمنى عزفاً وتنسيقاً، واختياراً للأغنيات كما شارك في الغناء. «أحببت أن يكون الموسيقيون خليطاً من محترفين ومبتدئين مهرة، وكذلك بالنسبة للغناء، الأساس هو جمالية الصوت والتمكن من الأداء».
يقول بالمنى إن فكرة استعادة ريبرتوار عائلة البندلي، تراوده من سنوات، وجاءت الفرصة لتنفذها في طرابلس. «لكن هذا لا يعني أن الأمر قد انتهى هنا. فإرث عائلة البندلي، يستحق أن يتم إحياؤه من جديد في بيروت وأماكن أخرى، وهو ما نسعى إليه».
صور عائلة بندلي في خلفية المسرح أعادت التذكير ببعض الحفلات، وأنّ من هم على المسرح، حاولوا حتى بالملابس أن يعيدونا إلى زمن كانت الفرقة فيه تجوب المسارح دون استراحة.
كل أغنية قدّمت، لا بد ارتبطت في ذهن كثير من الحضور بجزء من الماضي «رح أحكيلكن قصة صغيورة»، «شرينا برينا، حبيناك سطلطينا» و«عنّا جار» عامية طريفة، وكلمات مليئة بالتوريات والغمزات. لم تدّخر الفرقة الموسيقية جهداً، لتبرز جمالية الألحان البندلية، التي سبقت عصرها في الخلط بين الشرقي والجاز، ولعل أغنية «ديو لاف مي» التي وضعها كبير الأخوة ومؤسس الفرقة رينيه، وتتضمن موّالاً باللغة الإنجليزية، هي من أظرف ما يمكن أن تسمعه مزجاً وأداءً.
وفي نهاية الحفل، كانت الحماسة قد بلغت ذروتها. صعدت دورا بندلي إلى المسرح، شكرت الحضور، وتحدثت عن تأثرها، وغنت أغنية واحدة فقط، هي «وردة حمرا» معيدة جمهورها إلى صباه.
انطلقت الفرقة التي ضمت الأخوة بندلي، بكامل عددهم، وكانوا 12 شخصاً، ثلاثة أخوة وتسع أخوات بنات، في السبعينات من القرن الماضي، قبل الحرب الأهلية بقليل. وهم رينيه وروجيه وفادي ودورا وميشلين ونادية ويولا ورندة ونورما وهانيا وسونيا وفاديا. وألفوا ولحنوا وغنوا مئات الأغنيات، ضاع منها الكثير، لكن «بقي أرشيفاً عامراً محفوظاً»، بحسب دورا.
أصبحت أغنياتهم على كل لسان. جابوا الدول العربية بمسرحياتهم وحفلاتهم، لكنهم توقفوا مع انتهاء الحرب الأهلية. مع ذلك، لم ينس أحد من الذين عاصروهم الكلمات والألحان التي كانت أنساً وجمالاً ومتعة.
وحين سألت «الشرق الأوسط» دورا بندلي في نهاية الحفل عن شعورها، وهي تسمع الأغنيات تستعاد بعد انقطاع، لم تخف تأثرها. «لأن تلك الأيام كانت عظيمة وجميلة مع أمي وأبي، كانا عازفين هي على البيانو وهو الكمنجة، كما كان يغني ويؤلف ويلحن، وترجماناً محلقاً يجيد ست لغات. وأخوتي كلهم يعزفون ويؤلفون ويلحنون، ولكل شخصيته وصوته وأسلوبه. اشتهيت أن تعود تلك الأيام».
أما كيف أتتهم فكرة العمل كعائلة، فتروي أن شقيقها روجيه دعا شقيقه رينيه ليأتي من بيروت للاحتفال بعيد الأم. اجتمعت العائلة وأخذ كل يغني ويعزف على آلته. «كان بعض أخوتي لا يزالون أطفالاً، ومع ذلك مهرة في العزف والغناء. أختي كانت تعزف درامز، وتستخدم الملاعق والطناجر. حين رأى رينيه، ما نفعله، قرر أننا يجب أن نعمل معاً».
منذ ظهورها الأول في برنامج تلفزيوني، نالت الفرقة الإعجاب، لتشكل بعدها ظاهرة فنية فريدة. كان الأخ الأكبر رينيه قبل ذلك، قد أسس فرقته «واي نوت» التي تغني بالإنجليزية. أما دورا فتقول: «بدأت قبلهم، غنيت في مهرجان الأرز مع وديع الصافي وعمري 11 سنة، وفي مهرجان طرابلس، وكذلك قدمت أغنية (بردى) في الشام، وكانت تربطنا صداقة قوية مع دريد لحام، فاقترح أن نقدم عملاً في دمشق، فذهبنا بالفعل بمسرحية (حارس البلدية)».
قصة المسرحية مستوحاة من حادثة حقيقية: «كنا كعائلة نعزف ونغني في البيت باستمرار، وهذا أزعج الجيران حتّى أنهم اشتكوا واستدعوا الشرطة. وحين أتى حارس البلدية إلى منزلنا استقبلناه بالترحاب، وعزفنا له وغنينا، فكان إعجابه كبيراً، وقال لنا: تابعوا الغناء للصباح، ولا تأبهوا لأحد. جيرانكم بلا ذوق. فقررنا أن نقدم هذه الحادثة في مسرحية عرضناها في سوريا، واستمر عرضها في بيروت لشهرين، بمشاركة كل الأخوة».
لا تحب عائلة البندلي أن تتحدث عن سبب توقفها عن الغناء. في نهاية الثمانينات، وهم تحت وطأة الحرب هاجروا إلى كندا، ربما لم يكن الأمر إيجابياً. لكن بات معروفاً أن الخلافات عصفت بالأخوة، وقد بات لكل منهم عائلته الخاصة، وانشغالاته وطموحاته. رحل الوالد والوالدة وشقيقتهم يولا، والشقيق رينيه.
ثمة مباهج كثيرة وأحزان في حياة عائلة البندلي التي منحتنا الفرح. تخبرنا دورا: «كان حلمنا أن نقدّم مسرحية نشارك فيها مع أولادنا والجيل الثالث، نختم بها حياتنا الفنية. لكن الظروف لم تسعفنا».