فرسان جزيرة فيلكا الكويتية أشباح وأخمينيون

تختلف الآراء في تحديد مصدرهم الأصلي

فارسان من جزيرة فيلكا الكويتية يقابلهما فارسان من ناحية نفر العراقية
فارسان من جزيرة فيلكا الكويتية يقابلهما فارسان من ناحية نفر العراقية
TT

فرسان جزيرة فيلكا الكويتية أشباح وأخمينيون

فارسان من جزيرة فيلكا الكويتية يقابلهما فارسان من ناحية نفر العراقية
فارسان من جزيرة فيلكا الكويتية يقابلهما فارسان من ناحية نفر العراقية

كشفت أعمال التنقيب المستمرة في جزيرة فيلكا الكويتية عن مجموعة كبيرة من المجسّمات المصنوعة من الطين المحروق، تحوي ما يقارب 400 قطعة، وصل القسم الأكبر منها على شكل كسور مجتزأة. تعود هذه المجموعة إلى حقب مختلفة، كما تشهد تعددية أساليبها الفنية، فمنها ما يعود إلى عهد الإمبراطورية الفارسية الأولى التي تُعرف بالأخمينية، ومنها ما يعود إلى الحقبة الهلنستية التي تلتها، وهي الحقبة التي بدأت بعد وفاة الإسكندر الأكبر، وفيها انتشرت الثقافة اليونانية بشكل واسع. تنقسم هذه المجموعة إلى 5 مجموعات تصويرية، أكبرها مجموعة تُعرف بالمجموعة الأنثوية، ومجموعة تُعرف بمجموعة الفرسان.

لا نملك إلى يومنا هذا تصنيفاً جامعاً لهذه المجموعة الكبيرة من المجسمات الصلصالية التي خرجت من 4 مواقع في جنوب غربي الجزيرة التي تبرز في الركن الشمالي الغربي من الخليج العربي، وتبعد 20 كيلومتراً عن سواحل مدينة الكويت. تعود غالبية هذه القطع إلى موقعين من هذه المواقع الأربعة، وهما الموقع الشهير بـ«تل خزنة»، وفيه عُثر على ما يُقارب 280 قطعة خلال أعمال المسح التي قادتها بعثة فرنسية عام 1980، والموقع الشهير بـ«القلعة الهلنستية»، وفيه عُثر على ما يُقارب 150 قطعة خلال أعمال المسح التي أجرتها بعثة دنماركية في الستينات من القرن الماضي. نشرت كل من البعثتين تباعاً تقارير خاصة بمكتشفاتها، وتعمد البعثة الفرنسية الكويتية لآثار فيلكا في زمننا إلى إنجاز تصنيف يشمل كل هذه المجموعة التي دخلت منها ثلاثون قطعة إلى متحف الكويت الوطني، حيث تُعرض بشكل دائم.

تضمّ مجموعة فرسان فيلكا أكثر من أربعين قطعة مصدرها «تل خزنة»، وتنقسم إلى مجموعتين. تحوي المجموعة الأولى مجسمات على شكل أطياف آدمية وحيوانية من دون ملامح، وتُعرف بمجموعة «الفرسان الأشباح». وتحوي المجموعة الثانية أطيافاً مشابهة تتميز بحضور ملامحها وسماتها التصويرية، وتُعرف بمجموعة «الفرسان الفرثيين» نسبة إلى نموذج تصويري عابر للثقافات وللحدود الجغرافية انتشر بشكل واسع في زمن الإمبراطورية الفارسية الفرثية التي تُعرف عالمياً بالبارثية. تختزل هذا النموذج بشكل بديع قطعة محفوظة في متحف الكويت الوطني، عُرضت سنة 2005 في متحف الفنون الجميلة في مدينة ليون الفرنسية ضمن معرض تعريفي خاص بجزيرة فيلكا. يبلغ طول هذه القطعة 10.5 سنتيمتر، وعرضها 8 سنتيمترات، وقد وصلت بشكل غير كامل منها، إذ فقد القسم الأسفل منها، وهو القسم المتمثّل بقوائم الدابة وقدمي الفارس.

يتألف المجسم من كتلة طينية واحدة تخلو من أي فراغ، ويمثّل فارساً يمتطي دابة من الفصيلة الخيلية. يخلو بدن الدابة من أي تفاصيل تشريحية، ويتميّز رأسها بعينين كبيرتين تحضران كما جرت العادة على شكل حبيبتين ناتئتين، كما يتميّز بأنف طويل وبعُرف كثيف يعلو قمة الهامة على شكل قلنسوة بيضاوية. كذلك، يخلو جسد الفارس من أي مفاصل، ويحل على شكل مساحة بيضاوية طويلة، يعلوها رأس حُدّدت معالم وجهه بدقّة بالغة. العينان لوزيّتان واسعتان، يحدّ كلاً منهما هدبان ناتئان. يعلو هاتين العينين حاجبان عريضان منفصلان، تستقر بينهما قمة الأنف البارز. شفتا الفم ظاهرتان بشكل طفيف، مع شق واضح يرسم المسافة بينهما. الجبين عريض وأملس، والذقن قصير، وتحدّه لحية ترتسم كعقد يحيط بطرفي الوجنتين. يعلو هذا الرأس ما يشبه العمامة، وهي في الواقع قبعة تقليدية تُسمّى «كرباسية» وتتميّز بحنية في طرفها، تُشكّل خوذة الفارس الجالس على دابته بثبات تام يخلو من أي حركة.

تتكرّر هذه السمات على وجوه عدة وصلت بشكل منفصل ومستقل، أجملها فنيّاً قطعة محفوظة كذلك في متحف الكويت الوطني، يبلغ طولها 4.5 سنتيمتر، وعرضها 3.5 سنتيمتر. تحتلّ العينان اللوزيتان وسط الوجه، وتتميزان باتساعهما قياساً إلى أعضاء الوجه الأخرى. وسط هاتين العينين الهائلتين، يبدو الأنف الناتئ صغيراً ومنمنماً. تبرز الشفة السفلى من الفم الذي يرسم هنا ابتسامة خفية. يعتمر هذا الفارس القبعة التقليدية، وهي هنا «كرباسية» مروّسة، تعلوها حنية يرتدّ طرفها في اتجاه الجهة اليسرى. تماثل هذا الوجه وجوه صغيرة من فيلكا، منها وجه من الحجم نفسه فقد القسم الأسفل من ذقنه، ووجه مشابه عثرت عليه بعثة إيطالية، ووجه فقد قبّعته.

تعود القطع التي عُثر عليها في فيلكا إلى الفترة الممتدة من القرن الخامس إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وتشكّل امتداداً لنتاج بلاد ما بين النهرين في وجه خاص

تتبنّى هذه القطع نموذجاً تصويرياً انتشر كما أشرنا في زمن الدولة البارثية التي أسّسها أرساكيس الأول في بارثيا، شمال شرقي إيران، في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد. دخلت هذه الدولة عند نشوئها في صراع مع الدولة السلوقية الهلنستية، وانتزعت منها بلاد ما بين النهرين، وامتدت في أوجها من الروافد الشمالية للفرات إلى شرق إيران، قبل أن تضعف وتندثر في الربع الأول من القرن الثالث للميلاد. انتشرت صورة الفارس النموذجية في تلك الحقبة، بعدما تشكلت في عصر الإمبراطورية البابلية الحديثة، وتكوّنت في عصر الإمبراطورية السلوقية، كما تشهد القطع الأثرية التي تعود إلى هاتين الحقبتين، ومنها قطع عثرت عليها بعثة المعهد الشرقي التابع لجامعة شيكاغو أثناء عمليات المسح التي قامت بها في مدينة نيبور الأثرية التي تُعرف اليوم بنفر، وتقع في منطقة الفرات الأوسط، وتتبع قضاء عقك في محافظة القادسية.

تعود القطع التي عُثر عليها في فيلكا إلى الفترة الممتدة من القرن الخامس إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وتشكّل امتداداً لنتاج بلاد ما بين النهرين في وجه خاص، كما تشهد خصائصها الأسلوبية الفنيّة. يشبه فارس فيلكا في تكوينه فارساً من نفر يعود إلى الحقبة الإمبراطورية البابلية الحديثة، نقع على صورة له في تقرير نشره المعهد الشرقي التابع لجامعة شيكاغو في 1967. كذلك، يشبه رأس فارس فيلكا المستقلّ في ملامحه رأساً من نفر يعود إلى مطلع الحقبة الأخمينية، نقع على صورة له في تقرير نشره هذا المعهد في 1975.

تختلف الآراء في تحديد مصدر فرسان فيلكا الأصلي، إذ يرى البعض أنها دخلت الجزيرة من الخارج، ويرى البعض الآخر أنها نتاج محلّي يستلهم التقاليد الفنية التي اعتمدتها سائر قوات الإمبراطورية الأخمينية.


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رئيس هيئة الأدب والنشر لـ«الشرق الأوسط»: المملكة تتحول لمركز جذب مهني للناشرين والمؤلفين

معارض الكتاب في السعودية شهدت طفرة نوعية مع تنوع المعروض (الشرق الأوسط)
معارض الكتاب في السعودية شهدت طفرة نوعية مع تنوع المعروض (الشرق الأوسط)
TT

رئيس هيئة الأدب والنشر لـ«الشرق الأوسط»: المملكة تتحول لمركز جذب مهني للناشرين والمؤلفين

معارض الكتاب في السعودية شهدت طفرة نوعية مع تنوع المعروض (الشرق الأوسط)
معارض الكتاب في السعودية شهدت طفرة نوعية مع تنوع المعروض (الشرق الأوسط)

تقود هيئة الأدب والنشر والترجمة حراكاً للخروج بالقطاع إلى مساحات أكبر وأشمل تتجاور فيها سلاسل الإمداد مع جماليات النص، والحقوق مع أثر الترجمة، والاستثمار مع حضور القارئ.

وتعتمد استراتيجية الهيئة على التطوير والتحفيز والتنظيم للقطاعات الثلاثة، وفقاً للدكتور عبد اللطيف الواصل، الذي أكد أن الهيئة استحدثت مؤشرات أداء لقياس ما الذي تغير فعلياً في بنية القطاع وسلوكه تبعاً لتأسيس الهيئة، موضحاً أن الرهان الأساسي كان على الانتقال من التدخلات المؤقتة إلى بناء منظومة مستدامة؛ لذلك صُممت البرامج والمبادرات لتعمل على مستويات متعددة «الفرد، والمؤسسة، والسوق، والبيئة التنظيمية».

وفي حوار مع «الشرق الأوسط»، قال الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة إن الهيئة تعتمد على مجموعة من المؤشرات الكمية والنوعية لقياس الأثر، منها حجم السوق في القطاعات الثلاثة وأعداد الوظائف المستحدثة، وتحليل استدامة المشاريع المدعومة، وتتبع استبيانات رضا المستفيدين وتحولهم إلى نماذج عمل مستقلة قادرة على التوسع. إضافة إلى متابعة معدلات المشاركة في المعارض المحلية والدولية، ونمو عدد دور النشر الفاعلة، وحجم العناوين الصادرة والمترجمة، مؤكداً أنه على الرغم من أهمية المؤشرات فإنها لا تكفي وحدها.

الندوات الأدبية والحضور المتنوع من الداخل والخارج لمعارض الكتاب عزز مكانة السعودية في النشر والترجمة (الشرق الأوسط)

تحول تدريجي

وتابع الواصل أن الهيئة تتبع الأثر النوعي، مثل تحسن جودة النص ونضج الممارسة المهنية ومدى نمو وعي المترجم والناشر بحقوقه ومساراته، موضحاً أن الرصد كشف عن تحول تدريجي في الذهنية، «من طلب الدعم إلى بناء نموذج عمل، ومن الإنتاج الفردي إلى التفكير المؤسسي، ومن النشر المحلي إلى التفكير في الحقوق والترجمة والتوزيع العالمي، ونعتقد أن هذا التحول هو المقياس الحقيقي لنجاح طويل المدى».

لاعب مؤثر دولياً

وعن مدى التحول الإقليمي والدولي، أشار الواصل إلى أن صناعة النشر السعودية تشهد نقلة نوعية ونمواً لافتاً في المنطقة، مدعومة ببيئة تنظيمية حديثة وحراك ثقافي متسارع، ويظهر ذلك في ارتفاع الحضور السعودي في معارض الكتاب العالمية، وتزايد اتفاقيات الحقوق والترجمة، ودخول ناشرين سعوديين في شراكات خارجية، إضافة إلى الاهتمام الدولي المتنامي بالمحتوى السعودي.

وأكد أن الصناعة السعودية ليست «الوافد الجديد»، لكنها أيضاً لا تدعي أنها وصلت إلى الذروة، «نحن في منطقة وسطى حالياً، نملك طموحاً واضحاً، وحضوراً متنامياً، ووعياً بما ينقصنا».

وأضاف الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة: «إقليمياً، أصبحت المملكة نقطة جذب للناشرين والمؤلفين والمهنيين، ليس فقط بسبب حجم السوق، بل أيضاً بسبب جدية التنظيم، وتطور البنية التحتية، ووضوح الرؤية»، مشدداً على أن معارض الكتاب السعودية باتت منصات مهنية حقيقية، تُعقد فيها الصفقات، وتُبنى الشراكات، وتُختبر فيها الاتجاهات الجديدة.

وعلى المستوى الدولي، بات المحتوى السعودي يُقرأ بوصفه محتوى يحمل سرديات مختلفة، لا بوصفه «تمثيلاً جغرافياً» مع ارتفاع اتفاقيات الحقوق، وتزايد الاهتمام بالأدب السعودي في اللغات الأخرى، ودخول ناشرين سعوديين في شراكات خارجية، كلها مؤشرات على أننا ننتقل من مرحلة التعريف إلى مرحلة التأثير.

حظيت المطابع بدعم كبير ورفع المقابل المالي لزيادة انتشارها (الشرق الأوسط)

نموذج مختلف

ويؤكد الرئيس التنفيذي أن السعودية لا تسعى لمنافسة العواصم التقليدية بنسخ نماذجها، بل تسعى إلى بناء نموذج مختلف، يستفيد من التجارب العالمية دون أن يفقد خصوصيته، مضيفاً: «استراتيجيتنا تقوم على بناء منظومة متكاملة، تبدأ بالتشريع ولا تنتهي بالمنتج، حيث نعمل على تحديث الأنظمة، وتحسين بيئة الأعمال، وتسهيل الإجراءات؛ لأن النشر صناعة قبل أن يكون نشاطاً ثقافياً. بالتوازي مع هذا، نطور سلاسل الإمداد، والخدمات اللوجيستية، والطباعة عند الطلب، والتوزيع الذكي، بما يرفع كفاءة السوق ويقلل المخاطر، كما نولي أهمية كبيرة لربط النشر بالصناعات الإبداعية الأخرى «السينما، والكومكس، والمانجا، والمحتوى الرقمي؛ لأن النص اليوم لا يعيش في كتاب فقط، بل في منظومة سردية أوسع».

وشرح الواصل هذا الحراك بقوله: «نعمل على إعادة تعريف دور معارض الكتاب لتكون منصات مهنية، لا موسمية، تخلق قيمة اقتصادية ومعرفية مستدامة، كما نعمل على المراجعة الدورية للأنظمة واللوائح بهدف تسهيل إجراءات الدخول إلى السوق ورفع التنافسية والجودة في المعروض».

وأضاف أن الهيئة تعمل على تمكين الوكلاء والوكالات الأدبية باعتبارهم عنصراً محورياً في تنظيم الحقوق وتوسيع فرص الترجمة، وربط المحتوى السعودي بالأسواق الإقليمية والعالمية بشكل احترافي، كذلك العمل مع المطابع المحلية على تخفيض تكاليف الطباعة، ورفع كفاءة التشغيل، مستفيدين من الدعم الحكومي الموجه للقطاع الصناعي بشكل عام، الذي شمل اعتماد إلغاء المقابل المالي المقرر على العمالة الوافدة في المنشآت الصناعية المرخصة، الأمر الذي سيسهم في خفض التكاليف التشغيلية، وتعزيز تنافسية المطابع وصناعة النشر داخل المملكة.

الندوات الأدبية والحضور المتنوع من الداخل والخارج لمعارض الكتاب عزز مكانة السعودية في النشر والترجمة (الشرق الأوسط)

الشركات الدولية

وتولي هيئة الأدب والنشر والترجمة أهمية كبيرة للعلاقات الدولية والشركات وفقاً للواصل، الذي أوضح أن الهيئة تسعى إلى بناء علاقات نشر عالمية ووكالات أدبية، بهدف تسويق المحتوى السعودي وترخيصه بلغات متعددة، وفتح قنوات توزيع جديدة تعزز حضوره في الأسواق العالمية.

وشدد على أن «الشراكات الدولية بالنسبة لنا ليست علاقات عامة، بل أدوات استراتيجية نحرص على أن تكون عادلة للمؤلف والناشر والمترجم السعودي، وتحفظ حقوق الملكية الفكرية، وتُراعي الفروق الثقافية، بحيث يكون المحتوى السعودي حاضراً في العالم بسياقه الكامل».

ولا يقتصر دور الهيئة على بناء الشراكات على مستوى الجهات، بل العمل على التمكين الفعلي للعاملين في المنظومة كما يقول الواصل، وذلك من خلال تسهيل ارتباط دور النشر السعودية والجمعيات المهنية بنظرائها دولياً من خلال المشاركة في معارض الكتاب والفعاليات الثقافية الدولية، كذلك دعم شراكات دور النشر مع الوكلاء والوكالات الأدبية، ومع المؤلفين ودور النشر العالمية والمحلية، إلى جانب تمكين الجمعيات المهنية من بناء علاقات مع الاتحادات والجمعيات الدولية، وفتح قنوات تعاون مع مؤلفين يمكن نشر أعمالهم محلياً، ومع مكاتب ترجمة متخصصة تسهم في نقل المحتوى السعودي إلى المتلقي العالمي باحترافية.

الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة عبد اللطيف الواصل

قيادة الترجمة

تنسق هيئة الأدب الجهود في مجال الترجمة من خلال مبادرات مؤسسية ذات بعد إقليمي ودولي، فقد أنشأت الهيئة، وفقاً للواصل، المرصد العربي للترجمة بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) بوصفه منصة تنسيقية ومعرفية تهدف إلى توثيق ورصد حركة الترجمة في العالم العربي.

الاستثمار الأجنبي

في هذا السياق، قال الواصل إن الاستثمار الأجنبي في القطاع خطوة واعدة، خاصة في مجالات الطباعة المتقدمة، والتوزيع، والنشر الرقمي، وتُعد فرص دخول الشركات التقنية الدولية، لا سيما في منصات المحتوى الرقمي، والكتب الإلكترونية، والحلول التقنية الداعمة لصناعة النشر من أهم الفرص التي تعمل الهيئة باستمرار على دعمها.

وأكد أن القطاع اليوم أكثر جاهزية من أي وقت مضى لاستقبال الاستثمار الأجنبي، «لا نبحث عن رأس المال فقط، بل نبحث عن المعرفة، ونقل التقنية، وبناء القدرات المحلية». وشدد على أن دخول الشركات التقنية الدولية إلى السوق السعودية يمثل فرصة لبناء نماذج مشتركة، تُختبر محلياً، ثم تتوسع إقليمياً عبر مساحات نمو حقيقية.

ويتعزز هذا التوجه في ظل البيئة الاستثمارية الداعمة التي تعمل عليها الدولة؛ حيث أسهمت القرارات الحكومية الأخيرة، قائلاً إن ذلك يعزز ثقة المستثمر الأجنبي، ويجعل السوق السعودية أكثر تنافسية لاستقطاب الشركات الدولية الباحثة عن بيئة مستقرة، وواضحة التنظيم، وقابلة للنمو.

معارض الكتاب في السعودية شهدت طفرة نوعية مع تنوع المعروض (الشرق الأوسط)

تطوير الحلول

وعن هيمنة الشركات التكنولوجية الكبرى عالمياً، أكد الواصل أن الهيئة تعي تماماً حجم التحولات التي تقودها الشركات التقنية الكبرى، «ندرك مخاطر أن تكون الأسواق الثقافية مجرد مستهلكة لهذه التقنيات؛ لذلك تتجه الهيئة إلى أن تكون شريكاً في تطوير الحلول، لا مجرد مستخدم لها، كما ندرس شراكات في مجالات الابتكار والذكاء الاصطناعي الداعم للترجمة والتحرير، مع التأكيد على الجودة، والسياق الثقافي، والأخلاقيات المهنية».

الكتب الصوتية

وتولي الهيئة اهتماماً خاصاً بسوق الكتب الصوتية، ليس فقط بوصفه سوقاً نامية، بل كوسيط ثقافي جديد يعيد تعريف علاقة الجمهور بالنص، وهذا ما دعا الهيئة إلى إطلاق مبادرة «رقمنة الكتب لدور النشر السعودية» لتعمل على توسيع قاعدة القراء بطرق لم تكن ممكنة سابقاً.

معاهدة مراكش

وفي هذا السياق، تقوم الهيئة السعودية للملكية الفكرية بدورها في تفعيل «معاهدة مراكش» بما يحقق تيسير النفاذ إلى المصنفات المنشورة لفائدة ذوي الإعاقة البصرية ضمن إطار يحفظ حقوق المؤلفين والناشرين، وبالتوازي عملت هيئة الأدب والنشر والترجمة بالتعاون مع هيئة رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة على إطلاق «منصة قارئ» كحل تقني عملي يتيح الوصول إلى المحتوى المقروء والمسموع لهذه الفئة، ويعكس تكامل الأدوار بين التنظيم والتنفيذ.

مبادرات مشتركة

تتجه الهيئة إلى تعزيز حضورها القيادي في المعارض الدولية الكبرى، ليس فقط عبر الأجنحة الوطنية، بل من خلال مبادرات مهنية مشتركة، حددها الواصل بـ«برامج تبادل، ومنصات حوار تسهم في ترسيخ صورة المملكة كشريك ثقافي فاعل على الساحة العالمية»، وتساعد على وصول المبدع والمنتج السعودي إلى قاعدة جماهيرية واستهلاكية أوسع، مؤكداً أن وجود المملكة في هذه المعارض هو وجود شريك مبادر، يضيف قيمة، ويقترح أفكاراً، ويشارك في صياغة مستقبل الصناعة، لا الاكتفاء بالتمثيل الرمزي.

نجحت هيئة الأدب في استقطاب شرائح المجتمع المختلفة بتنوع برامجها وفعالياتها في جميع المدن السعودية (الشرق الأوسط)

أدوات الربط

يرى رئيس هيئة الأدب أن ما يربط القارات عبر المملكة منظومة تجمع الإنسان المؤهل، والمعيار المهني، والاقتصاد القوي وحين تجتمع يعبر المحتوى وحده بثقة، موضحاً: «نراهن في استراتيجيتنا القادمة على حزمة من المشاريع النوعية كمنظومة التدريب التخصصي والاعتماد المهني في مجالات الأدب والنشر والترجمة، التي تهدف إلى تأهيل ممارسين سعوديين بمعايير عالية ومعترف بها، بما يجعل الكفاءة المحلية قادرة على العمل بثقة في الأسواق الدولية، فالمحتوى لا يعبر العالم ما لم يُنتج باحتراف، ويُدار بمنطق مهني مستدام».

وتسعى الهيئة لإدارة الحراك الترجمي بوصفها سياسة معرفية، تسد فجوات حقيقية، وتربط العربية بلغات آسيا وأفريقيا وأوروبا بجودة ومعايير موحدة، مع تمكين المترجم السعودي ليكون جزءاً من هذا التدفق لا وسيطاً خارجياً عنه.


رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.