كيف تسعى إسرائيل لتحويل الحرب إلى «روتين»؟

بهدف تخفيف الضغط من المجتمع الدولي

جنود إسرائيليون خلال العملية البرية داخل قطاع غزة (أ.ف.ب)
جنود إسرائيليون خلال العملية البرية داخل قطاع غزة (أ.ف.ب)
TT

كيف تسعى إسرائيل لتحويل الحرب إلى «روتين»؟

جنود إسرائيليون خلال العملية البرية داخل قطاع غزة (أ.ف.ب)
جنود إسرائيليون خلال العملية البرية داخل قطاع غزة (أ.ف.ب)

إذا اعتبرنا أن «البداوة هي مرحلة همجيّة في مرحلة ما قبل الحضارة»، كما قال ابن خلدون، فهي حتماً مرحلة الحركيّة والمناورة في تنقّل البدويّ بحثاً عن قوته وأمنه.

وإذا اعتبرنا، وكما قال ابن خلدون، أيضاً، أن الحضارة تتشكّل في المدينة، فهل تشكُّل الحضارة مرتبط مباشرة بعامل الثبات في المكان؟ وهل يتقاطع ذلك مع ما ذهب إليه المفكّر الجغرافيّ الألماني فريدريك راتزل، والذي يُعدّ أبا الجغرافيا السياسيّة الحديثة مع ابن خلدون، حين قال إن «الفكر والإبداع والتطوّر يأتي فقط من المدينة، لأنها مصهر الأفكار المتناقضة»؟

في مكان آخر، يقول المفكّر الفرنسي جاك أتالي، إن الإنسان بطبيعته كائن «بدويّ» (Nomad)، يتنقّل من مكان إلى آخر. وهو كان قد أصدر كتاباً في هذا الموضوع (L’Homme Nomade)، وهو أي الإنسان لم يكن إلا مؤقتاً حضريّاً. لكن وبسبب الثورة التكنولوجيّة والعولمة، ها هو الإنسان يعود إلى طبيعته البدويّة. فهل تتبدّل طبيعة الإنسان دائماً بين الثبات والحركة؟... وهل الثبات والحركة هما نتاج سعي الإنسان إلى الموارد التي تؤمّن ديمومته؟ أم هي السعي الدائم للسيطرة وبناء المجد؟

الثبات والحركة

الثبات والحركة هما باختصار نظرية المناورة مقابل نظرية الدفاع والاستنزاف. هما الدبابة التي تناور وتعتمد على القوة النارية لخرق دفاعات العدو، وذلك مقابل السلاح المُضاد للدروع، الذي يُمثّل الثبات والدفاع.

وفي هذه المعادلة، يظهر مفهوم «السلاح النجم» (Weapon Star)، إن كان في الهجوم، أو حتى في الدفاع، والتاريخ مليء بأمثلة كثيرة، منها:

• في غزو فرنسا عام 1940، اعتمدت ألمانيا على عقيدة الحرب الخاطفة (Blitzkrieg). شكّل مثلث الأسلحة والمؤلف من الدبابة والطائرة واللاسلكي، السلاح النجم آنذاك. سقطت فرنسا في أقلّ من 6 أسابيع.

• في حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، رسمت مصر استراتيجيّة «القنفذ» (Hedgehog) لعبور قناة السويس. ارتكزت هذه الاستراتيجيّة على تقدّم المشاة والمدرّعات إلى عمق سيناء، لكن تحت حماية صواريخ سام (Strela) المضادة للطائرات، كما بحماية الصواريخ ساغر (Sagger) المُضادة للدبابات. في هذه الحرب، كان الصاروخ سام إلى جانب الساغر نجمي الحرب.

• في حرب إسرائيل على غزّة، دُمّرت آلاف الآليات والمدّرعات الإسرائيليّة وهذا باعتراف الجيش الإسرائيليّ. شكّلت قذيفة الياسين 105 المُضادة للدروع نجم هذه الحرب. وقد يمكن إضافة بُعد الأنفاق أيضاً.

لا يمكن لسلاح نجم أن يبرز من تلقاء نفسه. إذ لا بد من وضعه ضمن منظومة قتال تتناسب مع أرض المعركة وخصائصها الطبيعيّة منها أو المُعدّلة عبر التدخلّ البشريّ، كتغيير الهندسة الجغرافيّة والطوبوغرافيّة.

«تكتيكات» غزة

في الحروب اللاتماثليّة (Asymmetric)، يعتمد الأضعف المعادلة التاليّة: يُحضّر ساحة المعركة، وبشكل يسمح له باستعمال كلّ ما يملك. وذلك مقابل منع العدو من استعمال كلّ ما يملك. فالقوّة واستعمالها أمر نسبيّ.

فهل يمكن لإسرائيل أن تستعمل كل ترسانتها، ضمناً النوويّة في قطاع غزّة؟ بالطبع كلا، خصوصاً أن الحرب تفرض مبدأ توازن الأهداف مع قيمة الأهداف.

حاولت «حماس» القتال في المرحلة الأولى عبر تكتيك الدفاع المرن في الأماكن الخالية؛ كان الهدف هو تأخير العدو، واستنزافه قدر الإمكان بالعديد والعتاد، في هذه المرحلة كانت الحرب حركيّة بين الاثنين. تحوّل الدفاع المرن إلى قتال المدن في المناطق الآهلة.

كانت الحركيّة بطيئة حين تقدّم الجيش الإسرائيليّ، مقابل الثبات قدر الإمكان من مقاتلي «حماس». وتمثلت الحركيّة الكبرى لـ«حماس» في الاستعمال المكثّف للأنفاق، والتي أمنت الانسيابيّة لما تحت الأرض (المقاتلين، والقيادات وضمناً لنقل الرهائن من مكان إلى آخر).

في هذا الإطار، يقول الخبير الأميركيّ في حروب الأنفاق جون سبينسر، إن «حماس» تستعمل الأنفاق لهدف مزدوج؛ الأولّ عسكريّ بحت، أما الثاني فهو البُعد السياسيّ. بكلام آخر، تُطيل الأنفاق مدّة الحرب، كما تُراكم الخسائر على الجيش الإسرائيليّ، الأمر الذي يدفع القيادة السياسية في إسرائيل إلى تعديل أهداف الحرب ككلّ.

جنود إسرائيليون داخل أحد الأنفاق في قطاع غزة 17 ديسمبر (أ.ف.ب)

الواقع الميداني

يحاول الجيش الإسرائيليّ نقل كل قطاع غزّة إلى المرحلة الثالثة، التي تعتمد على الانسحاب العسكريّ من المدن إلى محيطها، ومن ثمّ العودة إلى أيّ منطقة تعود إليها «حماس»، وذلك بعد تجميع وتحليل المعلومات التكتيكيّة عنها. والهدف دائماً ضرب قوات «حماس»، ومنعها من إعادة التنظيم.

لكن يبقى أمام الجيش الإسرائيلي أمران مهمّان هما: الانتهاء من خان يونس، والتخطيط لمرحلة رفح، ويضاف إليهما الوصول إلى قيادات «حماس» للقضاء عليها، وتحرير الرهائن والأسرى. يسعى الجيش الإسرائيليّ حالياً إلى روتنة الحرب (أي جعلها مسألة روتينية).

أي الانتقال من القتال مرتفع الحدّة إلى القتال منخفض الحدّة، بهدف تخفيف الضغط على الحكومة الإسرائيلية خصوصاً من المجتمع الدولي، وفي سبيل ذلك يعتمد المقاربة التكتيكيّة التالية:

• تقطيع القطاع إلى أقسام عدّة، ومن هنا شقّه طريق شرق - غرب بوسط القطاع تمرّ على الحدود الجنوبيّة لمدينة غزّة. وعلى هذه الطريق، سيقيم الجيش الإسرائيلي نقاطاً عسكريّة عدّة من أهدافها الكثيرة منع الغزاويين من العودة إلى شمال القطاع.

• يسحب الجيش الإسرائيلي كثيراً من قواه إلى المنطقة العازلة على حدود القطاع مع إسرائيل وبعمق كيلومتر واحد بهدف تقليل وجوده في مناطق معادية له؛ الأمر الذي يُقلّل من بنك الأهداف لدى مقاتلي «حماس». لكن عند الحاجة يعود بسرعة معتمداً الحركية والمناورة لضرب الأهداف المستجدّة.

• الإكثار من استعمال القصف الجويّ للتعويض عن الوجود العسكريّ، وعند الضرورة، تأليف قوّة من أسلحة متعدّدة للقيام بعملية خاصة، كما جرى مؤخّراً في مدينة حمد شمال مدينة خان يونس. ففي هذه العملية، استعمل الجيش الإسرائيلي لواءين لتطويق مدينة حمد، كما استعمل أفضل وحداته الخاصة للدخول إلى المدينة لضرب وأسر مقاتلي «حماس»، بوصفهم كنزاً من المعلومات التكتيكيّة، خصوصاً حول الأنفاق التي يحاول حلّ لغزها.


مقالات ذات صلة

الأمطار تزيد معاناة الغزيين... وتحرمهم من المصدر الوحيد للكهرباء

المشرق العربي فلسطينيات يستخدمن طريقاً جافاً لنقل المياه إلى خيمتهن بعد هطول أمطار غزيرة بدير البلح وسط قطاع غزة الأحد (أ.ف.ب)

الأمطار تزيد معاناة الغزيين... وتحرمهم من المصدر الوحيد للكهرباء

منذ أن قطعت الحكومة الإسرائيلية الكهرباء عن غزة بفعل حربها المستمرة ضد القطاع منذ نحو 14 شهراً، اعتمد السكان على البديل الوحيد المتوفر، وهو الطاقة الشمسية.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية عناصر من حركتي «حماس» و«الجهاد» يسلمون رهائن إسرائيليين للصليب الأحمر في نوفمبر 2023 (د.ب.أ)

انتقادات من الجيش لنتنياهو: عرقلة الاتفاق مع «حماس» سيقويها

حذر عسكريون إسرائيليون، في تسريبات لوسائل إعلام عبرية، من أن عرقلة نتنياهو لصفقة تبادل أسرى، تؤدي إلى تقوية حركة «حماس»، وتمنع الجيش من إتمام مهماته القتالية.

نظير مجلي (تل أبيب)
المشرق العربي رجل يحمل جثة طفل قُتل في غارة إسرائيلية على مدرسة في مخيم النصيرات للاجئين بغزة (أ.ف.ب)

غزة: 71 قتيلاً جراء القصف الإسرائيلي في يوم واحد

أعلنت وزارة الصحة  الفلسطينية في قطاع غزة، اليوم (الخميس)، ارتفاع حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي إلى 44 ألفاً و56 قتيلاً، إلى جانب 104 آلاف و268 إصابة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت (رويترز)

بن غفير وسموتريتش يتهمان غالانت بالسماح لـ«حماس» بالاستمرار في حكم غزة

انتقد أعضاء اليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية غالانت بعد أن حذر من أنّ تحمل المسؤولية عن توزيع المساعدات الإنسانية في غزة قد يجر إسرائيل للحكم العسكري.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي فلسطينيون يحملون جثمان أحد القتلى جراء القصف الإسرائيلي على النصيرات وسط قطاع غزة (أ.ب)

قصف طال مدرسة وخيمة للنازحين... الجيش الإسرائيلي يقتل 16 فلسطينياً بغزة

قتل الجيش الإسرائيلي اليوم (الأربعاء) 16 فلسطينياً على الأقل في هجمات جوية على مناطق مختلفة بقطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)

ضربات إسرائيلية تستهدف عدة جسور بحمص السورية

صورة التُقطت من الجانب السوري للحدود مع لبنان تُظهر آثار غارة إسرائيلية على معبر جوسية الحدودي مع القصير بمحافظة حمص 25 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)
صورة التُقطت من الجانب السوري للحدود مع لبنان تُظهر آثار غارة إسرائيلية على معبر جوسية الحدودي مع القصير بمحافظة حمص 25 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)
TT

ضربات إسرائيلية تستهدف عدة جسور بحمص السورية

صورة التُقطت من الجانب السوري للحدود مع لبنان تُظهر آثار غارة إسرائيلية على معبر جوسية الحدودي مع القصير بمحافظة حمص 25 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)
صورة التُقطت من الجانب السوري للحدود مع لبنان تُظهر آثار غارة إسرائيلية على معبر جوسية الحدودي مع القصير بمحافظة حمص 25 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

أفادت وسائل إعلام رسمية سورية، اليوم الاثنين، بأن هجوماً إسرائيلياً ألحق أضرارا بعدة جسور في القصير بريف حمص.
وسُمع دوي انفجارات في وقت سابق في بلدة القصير وحولها في محافظة حمص بسوريا، وقالت السلطات إنها تجري تحقيقات.

وكان الجيش الإسرائيلي قد أعلن توجيه ضربات استهدفت ما وصفه «محور نقل الوسائل القتالية» الذي يمر عبر الأراضي السورية إلى «حزب الله» اللبناني، مضيفاً أن العمليات عطلت إمدادات الأسلحة عبر الأراضي السورية.