متلازمةُ الحنين إلى عصر النهضة

عصرنا الحالي محكومٌ بثلاث قوى تقنية صارت المعالم الأساسية لثقافته

متلازمةُ الحنين إلى عصر النهضة
TT

متلازمةُ الحنين إلى عصر النهضة

متلازمةُ الحنين إلى عصر النهضة

لو طلبْنا إلى جمهرة منتخبة من الناس - مختلفة المشارب المهنية والتوجهات الثقافية - توصيفَ إنسان العصر الحالي، فأظنُّ أنهم سيتفقون على وصفه بـ«الإنسان الرقمي».

سيُسهِبُ بعضهم في كيل الخواص المستحسنة لمن غادر عصر الأمية الرقمية وامتلك شيئاً من القدرة التقنية المقبولة والكافية لكي يبحر في لُجّة المحيط الرقمي بكلّ تفاصيله التي تستعصي على إتقان فرد واحد حتى لو جعل عمره كلّه منحة مجانية لهذا التدريب الساعي للإتقان.

يحقُّ لهؤلاء إعلاءُ شأن الانتماء ونيل شرف عضوية الإمبراطورية الرقمية المتغوّلة والباسطة سطوتَها على كلّ مناحي الحياة المعاصرة. لو ساءلْنا هؤلاء: إتقانُ بعض جوانب العالم الرقمي ليس ثقافة، أو لنقُلْ إنه ثقافة منقوصة لأنه معرفة تقنية تقوم على تنميط المعرفة البشرية في نطاق خوارزمي صارم، فسيجيبك بعضهم: لا شأن لي بتعريفات الثقافة وخواصها الإجرائية. ألا ترى معالم السطوة الرقمية شائعة في كلّ مكان؟ لن يفيدك شكسبير أو دانتي أو لايبنز بشيء لو كنت أمياً رقمياً؛ أما لو امتلكت بعض أسرار العالم الرقمي، فحينذاك سيكون شكسبير أو دانتي أو لايبنز أقرب لإكسسوارات ثقافية. أقول هذا على افتراض أنّ هؤلاء المسكونين بسحر العالم الرقمي من الأجيال الشابة سمعوا أو عرفوا شيئاً عن رموز ثقافية وأدبية وفلسفية من أمثال شكسبير ودانتي ولايبنز.

لايبنز

مِثْلُ هذا الكلام أحسبُهُ باعثاً على شجون كبرى؛ لأنه يخلطُ حوابل الأمور بنوابلها حتى لتتيه علينا الرؤية الدقيقة في عصر ملتبس ومشتبك. سأحاول توصيف حالنا الثقافية الحاضرة في متتالية منطقية خطية مُسبّبة كما يفعل المناطقة:

- عصرنا الحالي محكومٌ بثلاث قوى تقنية صارت المعالم الأساسية لثقافته: سطوة تقنية رقمية، تغوّلٌ خوارزمي، استعمار بياناتي. أنت اليوم لستَ سوى بصمة بياناتية مرصودة ومُتابَعة من قبل كبرى الشركات التقنية (خصوصاً الستّ الكبار المعروفة التي تتحكمُ في مفاتيح عوالمنا الرقمية).

- تميل الأجيال الشابة إلى إبداء مرونة دماغية عظمى في التعامل مع المعطيات الرقمية وعالم الأعمال المرتبطة بها (تصميم المواقع الرقمية مثلاً)؛ ولمّا كانت هذه الأعمال هي المفضّلة حالياً فهذا يمثّلُ مصدر دافعية أعظم لخوض تجربة التطوّر والارتقاء الرقمي. من الطبيعي أن تتعاظم مناسيب الدافعية عندما يرتبط العائد المالي مع نمط الثقافة السائدة بدلاً من أن تُطْلَبَ الثقافةُ لذاتها ولمفاعيلها الجمالية والفلسفية الخالصة. أحسبُ أنّ الشاب المعاصر في كلّ العالم يسعى لنيل مكافآت فورية عن أي جهد يبذله، ولم يعُد يرتضي بالعوائد المؤجلة التي كانت المثاقفة القديمة ترتضيها. الثقافة من غير عوائد مالية تبدو موضة متقادمة عند كثيرين.

- ثمّة إشكالية تنشأ مع الأجيال ما قبل الشابة، وتتعاظم مقادير هذه الإشكالية كلّما تقادمت أعمارُ الناس. يكمنُ جوهرُ هذه الإشكالية في «الهجنة الثقافية (Cultural Hybridity)» التي عاشوها واختبروها بين الأنماط الثقافية ما قبل الرقمية ونظيراتها الرقمية. لا يعوز هؤلاء (أو دعونا لا نعمّم. لِنَقُلْ في أقلّ تقدير بعضاً من هؤلاء هجناء الثقافة) العزيمةُ والاصطبارُ على مكابدة متطلبات الهجنة الثقافية. كثيرون منهم أتقنوا وسائل العالم الرقمي وأدواته وطوّعوها، وأفادوا فائدة كبرى برهنت أحياناً أنها كانت أفضل من حيث النتائج ممّا انتهى إليه بعض الشباب من متغوّلي القدرة على الأداءات الرقمية والتفاعلات الخوارزمية والانغماس حتى قيعان البيانات السحيقة. لم يعُدْ مناسباً أن يخدعنا أحدٌ بالقول القاطع إنّ الدماغ الشاب أكثر مرونة وقدرة على التعامل مع مستلزمات السيولة الرقمية من أدمغة الأكبر سنّاً. براهين تجريبية كثيرة أثبتت أنّ الشغف الروحي والانجذاب العقلي والتدريب العزوم على فاعلية معرفية هي فواعل تتقدّمُ أحياناً على سطوة المرونة الدماغية لدى الشباب. دعونا لا ننسى أنّ المرونة الدماغية لدى الشباب ليست أعْطية مجانية. كلّ خصيصة لا يتعهّدُها المرء بالرعاية والتدريب ستذوي وتنطفئ.

- كثيراً ما يحصلُ أن ترى طفلاً أو يافعاً يلاعب جهازه الجوال أو عصا التحكّم في لعبته الإلكترونية بسرعة فائقة فنتوهّمُ فيه معرفةً. الأداء شيء والمعرفة شيء آخر، وقبل هذا وذاك الثقافة شيء ثالث مختلف ومتمايز تماماً. قد يتفوّق طفل في السادسة من عمره من حيث سرعة أدائه على أستاذ في قسم هندسة الكومبيوتر في معهد «MIT» قضى كلّ عمره المهني في تصميم الألعاب الإلكترونية. هذا ليس مثالاً غريباً، وكثيرة هي الأمثلة المناظرة له. المثير في الأمر أنّ كلاً من الطفل وبروفسور «MIT» قد لا يعرفان «كلكامش»!!!. قد يصلح «كلكامش» مثالاً لقياس الفوارق الثقافية بين الناس مثلما يصلح برنامج «Office» معياراً لقياس الأمية الرقمية بينهم.

- يميل المرء ذو النزوع الفلسفي غالب الأحيان لتخليق فلسفة توفيقية بين القديم والجديد؛ بين متطلّبات الحاضر ونزوعات الماضي (النوستالجية)؛ لكنّ الأمر لا ينجح دوماً، وقد يبدو أحياناً كأنّه مزاوجة قسرية فاشلة قد تقود إلى الإحباط والاكتئاب.

لم يعُدْ مناسباً أن يخدعنا أحدٌ بالقول القاطع إنّ الدماغ الشاب أكثر مرونة وقدرة على التعامل مع مستلزمات السيولة الرقمية من أدمغة الأكبر سنّاً

يحصلُ أحياناً أن ينتاب المرءَ من ذوي الهجنة الثقافية الضجرُ من التقنيات الرقمية، والسطوة الخوارزمية والبياناتية المتغوّلة؛ فيسوقه خياله النوستالجي إلى عصور سابقة خلت من هذه السيولة الرقمية المتفشّية. قد يبلغ هذا التوق النوستالجي أحياناً حدّ «الاكتئاب الأبستمولوجي» المتمظهر في شكل «متلازمة (Syndrome)». لا أخفي أحياناً أنني أصابُ بهذا الاكتئاب الذي لم يجد طريقه بعدُ إلى الأدبيات المعتمدة في «علم النفس السريري (Psychiatry)»، خصوصاً في الدليل التشخيصي الأميركي المسمّى «DSM». أعترفُ بأنني أستخدمُ «متلازمة التوق لإنسان عصر النهضة» بوصفها ابتكاراً شخصياً من غير أن تكون شائعة أو مشخّصة أو مستخدمة في المصادر الطبية.

لماذا التوق النوستالجي لإنسان عصر النهضة بالتحديد؟ لأنه العصر الذي شهد فورة غير مسبوقة من عقلياتٍ عبقرية لمعت في غير حقل معرفي (دافنشي، وغاليليو، وأنجيلو، لايبنز...) فضلاً عن تعزيز النزعة الإنسانية المتعالية على كلّ انحيازات دينية أو لاهوتية مقفلة. يبدو عصرنا بكلّ تقنياته المتقدّمة ظلّاً باهتاً لعصر النهضة؛ إذن لن يكون الأمر غريباً عندما يتوق أحدنا لذلك العصر حتى لو بلغ توقه تخوم الاضطراب النفسي.

معروفٌ في الأدبيات الطبية أنّ كلّ متلازمة تعني طائفة من الأعراض لو تحقق بعضها (وليس كلها) فقد يصحُّ التشخيص بهذه المتلازمة. أظنُّ من خبرتي الشخصية أنّ بعضاً من أعراض «متلازمة التوق لإنسان عصر النهضة» هي التالية:

- نفور شامل من السيولة الرقمية بين حين وآخر.

- محاولة الابتعاد عن الأجهزة الرقمية بين حين وآخر (لن تنجح محاولات الابتعاد الكامل لفترات طويلة لأسباب مسوّغة).

- النفور من فرط التخصّص (Hyperspecialization) المعرفي و/ أو المهني.

- الانغماس المفاجئ في قراءات مطوّلة تنتمي لأساطين عصر النهضة.

- الشعور بالضيق من التفاصيل التقنية حتى لو كانت تفاصيل صغيرة لا تعدو تحميل تطبيق جديد لا يستلزم أكثر من دقيقة أو دقيقتين.

- مقاطعة القراءة الإلكترونية، والاقتصار على قراءات ورقية حتى لو كان الأمر أكثر تكلفة ولا يمتلك مسوّغاته الكافية.

- الشعور بالفتور الذهني، وتهافت الرغبة، وخفوت الدافعية لدى التعامل مع كلّ منتج رقمي.

كيف السبيل إلى التعامل مع هذا الاكتئاب الأبستمولوجي؟ أولاً: لا داعي للهلع. جرّبْ أن تقرأ قوائم الكتب المنشورة حديثاً، فستجد أعداداً ليست بالقليلة منها تحمل عناوين نوستالجية (أو من مشتقات النوستالجيا) إلى عصور مضت. لن يعني الأمر اختلالاً كبيراً لو نما داخل أحدنا توقٌ حنيني لسنوات الثمانينات أو السبعينات أو الستينات من القرن الماضي، وليست مثلبة ثقافية أو نكوصاً معرفياً أو رجعية مفاهيمية لو تملّكنا توقٌ إلى مثال «إنسان عصر النهضة الأوروبية» الذي كتب المنظّر الثقافي ماثيو آرنولد مُسْهِباً في توصيفه، والحال ذاتها تصحُّ لو دفعَنا عقلُنا بحثاً عن نمط العقلانية الرفيعة في كتابات أبي حيان التوحيدي والجاحظ ونظرائهما من أعاظم الناثرين العرب.

كلّ عصر تسود فيه تقنية محدّدة ستكون له منعكساته السلوكية والذهنية على الكائن البشري: ستخفت فيه مهارات محدّدة لمصلحة تعزيز مهارات مستجدّة، وستذوي ذائقة فلسفية لمصلحة ذائقة فلسفية جديدة مطبوعة بتوقيع التقنية المستجدّة. يبدو لي أنّ جذر «الاكتئاب الأبستمولوجي» عند بعض البشر يكمن في حجم القطيعة المعرفية بين «المهارات التقنية والذائقة الفلسفية» السائدة في كلّ عصر. المعادلة واضحة: كلّما تعاظمت القطيعة المعرفية زادت احتمالية الاضطراب الذهني والاكتئاب الأبستمولوجي، ونمت بواعث التوق النوستالجي إلى ثقافة عصر سابق قريب أو بعيد.

يبدو لي من طبيعة التأسيسات الثقافية المستجدّة في عصرنا هذا أنّ توقنا الحالي إلى مثال «إنسان عصر النهضة» سيكون أيسر في التحقق بكثير من توق الإنسان إلى حالنا نحنُ، التي نشكو منها، بعد عشر سنوات أو عشرين سنة!

القطائع المعرفية والثقافية تمضي بوتيرة أسرع بكثير ممّا نحسب أو نتخيل.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي
TT

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي

لفت الكاتب اللبناني محمد طرزي الأنظار إليه بقوة مؤخراً؛ حيث فازت روايته «ميكروفون كاتم صوت» بجائزتي «كتارا» القطرية و«نجيب محفوظ للرواية العربية» التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة، وذلك في مدة وجيزة لا تتجاوز 3 أشهر قبل نهاية العام الحالي. ما يضفي على هذه الرواية دلالة خاصة في مسيرته، وطموحه لكتابة نص له طابع اجتماعي ينهل من الواقع الاجتماعي في لبنان، ويرصد المتغيرات المجتمعية من منظور إنساني.

أقام طرزي بعدد من دول شرق أفريقيا، وأعاد اكتشافها روائياً، مستلهماً التاريخ العربي في تلك الأماكن، في ثلاثية بعنوان «الحلم الأفريقي»، ومنها «عروس القمر» و«جزر القرنفل» التي تتناول تاريخ زنجبار خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان.

هنا... حوار معه حول روايته الفائزة وهموم الكتابة.

* تبدو المتناقضات كما لو كانت تشكل جوهر روايتك الأخيرة «ميكروفون كاتم صوت»، بداية من العنوان حتى النهاية. إلى أي حد تتفق مع هذا الرأي؟

- هي رواية المتناقضات بالفعل. العنوان نفسه يجسد التضاد والمفارقات التي لا تلبث أن تظهر مع الصفحات الأولى للكتاب؛ حيث يبرز شاب اسمه «سلطان»، يقيم في بيت متواضع مُطل على المقبرة، يسترزق من زوار القبور، ويطمح أن يصير أديباً. صديقه «حسن» ليس بعيداً عن تلك المفارقات، فهو يهرِّب المسروقات، يتورَّط في قضايا أخلاقية ملتبسة، وفي لحظات أخرى نجده نبيلاً عبثيّاً. أما «عفاف»، فتمتلك ملهى ليليّاً، تستقبل فيه بائعات الهوى، هي أيضاً فنانة تشكيلية، حتى وإن بدت لوحاتها تافهة.

* استلهمت الرواية من مقولة لنجيب محفوظ، كيف ذلك؟

- قرأتُ مقالة في إحدى الصحف، يتحدَّث فيها الكاتب عن الوطن، واستوقفني اقتباس لنجيب محفوظ: «وطن المرء ليس مكان ولادته؛ لكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب». ظل هذا الاقتباس يلاحقني حتى سمعتُ –مصادفة- شابّاً عشرينيّاً، يردِّد، في أحد المقاهي، عبر هاتفه، أنَّ كلَّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل. في اليوم التالي أنهى الشابُّ حياته لأسباب لم يتبيَّنها أحد. ربطتُ الاقتباس بالعبارة التي قالها الشابُّ بصوت متهدِّج، فإذ بفكرة الرواية تتشكَّل في مخيلتي.

* ما علاقتك بأدب نجيب محفوظ عموماً؟

- قرأتُ «محفوظ» في عمر مبكر. اهتممتُ بعدها بالرواية التاريخية، فاطلعتُ على أبرز ما كُتب وتُرجم في التخييل التاريخي، حتى وجدتني أتبنى ذلك النمط الأدبي كاتباً. بعد الانهيار الشامل الذي ألمَّ بلبنان، قررتُ كتابة رواية اجتماعية تتلمَّس حياة اللبنانيين وتقارب بصورة وجدانية ما آلت إليه أمورهم. توجَّستُ من الخطوة؛ لأنني كنت أهم بدخول نمط أدبيٍّ لم أختبره من قبل؛ لكنني ما إن شرعتُ بالكتابة، حتى وجدتني أكتب بأريحية، بتأثير ربما بما قرأته من روايات اجتماعية عظيمة لمحفوظ. فكَّرتُ وقتها أن تلك هي قوة الأدب، تنمو في داخل المرء دون أن يشعر بذلك.

* إلى أي حد يحق للأجيال الجديدة أن تتمرد على محفوظ وتسعى لتجاوزه؟

- لكل جيل اهتماماته وتطلعاته، والأجيال الجديدة لن تصغي لأحد، وستقرر بنفسها من أي معين تنهل، ومن أي نهر تروي عطشها الأدبي والإنساني. أنا شخصيّاً من جيل أولئك الذين تظل مدرسة محفوظ حاضرة في أعمالهم، لما تمثله من نموذج فني فذٍّ، يوغل عميقاً في النفس البشرية برغم الإطار المحلي لرواياته.

* تشكل المقابر -كفضاء درامي- مقبض فكرة أساسية في «ميكروفون كاتم صوت»، ألم تخش هذه الأجواء التي قد ينفر منها بعض القراء؟

- لم أفكر في هواجس القراء من هذه الناحية، فالظروف المحيطة بالرواية هي التي اختارت المقبرة فضاء دراميّاً. وحين قصدتُ أهلَ الشابِّ الذي أنهى حياته، بعد ترديده في المقهى، عبارة أنَّ «كلّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل»، وجدتُ منزله مطلّاً على المقبرة، في زمن يعيش فيه شعبي على حافة الموت، فلم أجد حيّزاً مكانيّاً أفضل، أعبِّر من خلاله عمَّا حل بأولئك الذين لا ينشدون سوى الهروب من وطن غدا أشبه بالمقبرة.

* يرى البعض أن الرواية تقدم وجهاً صادماً غير متوقع للبنان... هل تعمدت ذلك؟

- هي رواية عن المهمَّشين الذين يعانون من النظام اللبناني القائم على تبادل الخدمات، بين الزعيم الطائفي والنخب الاقتصادية التي تدور في فلكه. نسجت تلك النخب علاقات مالية مشبوهة مع زعماء الطوائف، ما فتئت تتسبب في هدر المال العام، وإعاقة تشريع قوانين عصرية. بالرغم من كل ما يحصل، وجه لبنان المشرق موجود؛ لكن تجاهل إرادة الشعب في ظل الزبائنية الحزبية والطائفية، يشوِّه وجه وطني المشرق ويهدِّده بالتلاشي.

* فازت الرواية بجائزة «كتارا» قبل فوزها بجائزة «نجيب محفوظ» بفترة متقاربة للغاية؛ كيف استقبلت الجدل والانتقادات التي أثارها البعض حول تلك الجزئية؟

- شرَّفتني «كتارا» بضمِّي إلى لائحة الفائزين بها، وكذلك فعلت جائزة «نجيب محفوظ» للأدب. لعلَّ ذلك يحصل للمرة الأولى، ما لفت الانتباه وأثار التساؤلات، ولكنْ حقيقة أن ذلك يمثِّل سابقة، لا يعني أن لا حقَّ للرواية في نيل جائزتين، ما دامت تلك إرادة أعضاء لجنتي التحكيم، وفي سياق عدم مخالفة شروط الترشُّح؛ لأن رواية نجيب محفوظ لا تشترط عدم فوز العمل المقدم إليها بجائزة أخرى. الأهمُّ بالنسبة إليَّ، وسط هذا الجدل، أن الجائزتين العريقتين ساهمتا في منح الرواية صوتاً قويّاً، يتردَّد صداه حالياً لدى كثير من القرّاء.

* كيف ترى جدل الجوائز الأدبية في الثقافة العربية عموماً؟

- أُدرجتْ أعمالي على قوائم الجوائز المختلفة، وفازت بأربعٍ منها، ما ساهم في إيصالها إلى نقَّاد وقرَّاء جدد، بعضهم أصبحوا أصدقاء. بهذا المعنى، خدمت الجوائزُ مشروعي، وأرى أنها تخدم غيري من الكُتَّاب، وتساهم في تعزيز المشهد الثقافي العربي. الجدل وسط الكُتَّاب حول الجوائز مردُّه اعتقاد طبيعي لدى الكاتب أن كتابه جدير بالفوز. أتفهَّم هذا الشعور، فالكتابة عمل معقَّد، تستنزف طاقة الكاتب، ما يشعره أو يوهمه بأنه بصدد نصٍّ استثنائي، ليجيء تقييم اللجان مغايراً لرغبته. في نهاية المطاف، تقييم الأعمال الأدبية يعتمد على ذائقة لجان التحكيم، ما يعقِّد النقاش حول أحقية فوز هذه الرواية أو تلك.

* هل استطاع الأدب اللبناني التعبير عما تعيشه البلاد من تحولات عنيفة اقتصادياً واجتماعياً؛ فضلاً عن اشتعال المواجهة مع إسرائيل؟

- لم يعبِّر الأدب اللبناني بما يكفي عما تعيشه البلاد من تحوُّلات، ربما لأن الحدث لا يزال قائماً. ما يحملني على الظنِّ بأن ثمة أعمالاً في طور الكتابة أو النشر. لاحظتُ أن الأدب اللبناني يدور اليوم في فلك «الديستوبيا»، أو يتمحور حول القيم العالمية المتمثلة بالنسوية. بعض الأعمال أشارت إلى انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) 2020. بالنسبة إلى المواجهة مع إسرائيل، فإن الأعمال الأدبية التي تناولت هذا الصراع القائم منذ أكثر من 75 عاماً، قليلة جدّاً، إذا ما قورنت بروايات الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، وهو أمر مستغرب.

* هل يمكن أن تشهد الثقافة اللبنانية ازدهاراً لما يسمى «أدب الحرب»؟

- ازدهر أدب الحرب الأهلية اللبنانية وسط الأدباء، كما لم يزدهر أي نمط أدبي آخر. استوقفني إصرارهم على التركيز على تلك المرحلة من تاريخنا، برغم كل الحروب والأزمات التي مررنا بها. حرب يوليو (تموز) 2006 -على سبيل المثال- لم تترك بصمة قوية في الأدب اللبناني. لذلك، من الصعوبة التكهُّن حول دور الحرب الأخيرة في المشهد الأدبي.

* ما السر وراء أعمالك المتوالية عن شرق أفريقيا؟ وهل استطعت اقتناص جوهر القارة السمراء من الداخل؟

- لم أعرف شيئاً عن تاريخ العرب في شرق أفريقيا، قبل سفري إليها منذ أقل من عقدين. شكَّل اكتشافي الإرث العربي هناك صدمة ثقافية. فعمدتُ إلى التنقُّل بين دول المنطقة التي مثَّلت إمارات عربية لقرون من الزمن. ثم مع انكبابي على قراءة الكتب والدراسات التاريخية ذات الصلة، لاحظتُ أن لا وجود لروايات عربية حول تلك الحقبة، بخلاف الاهتمام الذي أولاه الأدباء العرب للأندلس. عددتُ شرق أفريقيا أندلساً منسيّاً. كان ذلك عام 2012، حين شرعتُ بكتابة «جزر القرنفل»، وهي رواية عن زنجبار، خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان، أعقبتُها بثلاث روايات عن أماكن أفريقية أخرى، نالت نصيبها من الحضور العربي. بهذا المعنى، ليست الغاية من الكتابة عن أفريقيا اقتناص جوهر القارة السمراء، بقدر ما هي مسح الغبار عن الزمن العربي المنسي هناك.

* ألم تخشَ عند كتابتك عن أفريقيا أنك لست مواطناً أفريقياً لا تعرف المجتمعات المحلية جيداً، وبالتالي يمكن أن يفتقد النص العمق المطلوب؟

- بعد عشرين عاماً من الإقامة في أفريقيا، أشعر أنني أفريقي بقدر ما أنا لبناني عربي، ومع ذلك فإنني لم أكتب عن المجتمعات المحلية؛ بل كتبتُ عن تاريخ العرب في تلك المنطقة. بمعنى آخر: لم أبتعد كثيراً عن المجتمعات العربية، وإن كان الإطار المكاني للروايات أفريقيا السمراء.

* هل لديك فلسفة معينة في اختيار عناوين رواياتك؟

- بديهياً يجب أن يعبِّر العنوان عن كُنه الرواية، ولا ألجأ لعنوان لافت لجذب اهتمام القارئ، إلا إذا وجدته يعبِّر أكثر عن روح النصِّ وجوهره. مع الشروع بكتابة أي رواية أضع عنواناً مؤقتاً، على الأقل لحفظ الملف في الكومبيوتر، ولكنْ مع مواصلة السرد، تختار الرواية عنوانها بنفسها، وتفرضه عليَّ. في رواية «ميكروفون كاتم صوت»، لم أختر العنوان حتى الصفحات الأخيرة، حين وجدتْ «عفاف» نفسها محاصرة بالظلام، تخنقها روائح النفايات، بينما المكبرات تزعق بقوة حولها، مانعة إياها من التفكير أو الصراخ. في تلك اللحظة الدرامية، اكتشفنا سرَّ الميكروفونات معاً، وانفعل كلانا لاكتشافنا المتأخر.

* كيف ترى الانتقادات التي يوجهها البعض إلى الرواية التاريخية، من أنها تعكس نوعاً من الاستسهال لدى المؤلف؛ حيث إن معظم عناصر العمل متوفرة، وبالتالي تعد «خياراً آمناً»؟

- لعلَّ العكس هو الأصحُّ. كتابة الرواية التاريخية أصعب من كتابة الرواية الاجتماعية المستقاة من أحداث معاصرة، بحيث تكون شخصياتها تجسيداً لشخصيات حقيقية ومرئية. كما أن الرواية التاريخية تعود إلى حقبة زمنية أخرى، ما يحتِّم على الكاتب البحث عنها والتمحيص فيها، فضلاً عن تكبيله بحقائق تاريخية لا يمكن التملُّص منها. وقد تغدو المهمة أكثر تعقيداً في الرواية التي تتناول شخصيات تاريخية؛ لأن حرية الكاتب تصبح محدودة للغاية في رسم تلك الشخصيات، وتحديد مساراتها.

* كيف ترى علاقتك بالأجيال السابقة في الأدب اللبناني؟ وهل ترفع شعار: أنا أديب بلا أساتذة؟

- قدَّم لبنان أديبات وأدباء كباراً، عرفتُ بعضهم شخصيّاً، ورحل بعضهم قبل أن أحظى بهذه الفرصة. من الأعمال الأدبية البارزة التي تأثرتُ بها روايات جبور الدويهي، وأمين معلوف، وحنان الشيخ... للحق، إن كان لا بدَّ من شعار أرفعه، فإنني أرفع شعاراً معاكساً لما ذكرتِه في سؤالك.