قصة الأربعين يوماً وجامعة الملك سعود وعمارة المسجد الحرام

التوسعة السعودية الثالثة بدأها الملك عبد الله واستكملها الملك سلمان

TT

قصة الأربعين يوماً وجامعة الملك سعود وعمارة المسجد الحرام

الملك سلمان بن عبد العزيز لدى اطلاعه على مشروع التوسعة نهاية مايو 2015 (واس)
الملك سلمان بن عبد العزيز لدى اطلاعه على مشروع التوسعة نهاية مايو 2015 (واس)

استمراراً للجهود التي يبذلها ملوك المملكة العربية السعودية في خدمة بيت الله الحرام وعمارته والعناية به، جاءت التوسعة السعودية الثالثة أكبرَ توسعة وعمارة للمسجد الحرام في تاريخه. وعلى مدى العصور الإسلامية المختلفة كانت التوسعات في المسجد الحرام تضاعف من الطاقة الاستيعابية للمصلين، مع تزايد أعدادهم، ويبقى صحن المطاف كما هو بطاقته المحدودة يحتل المساحة نفسها، ويزدحم بالطائفين الذين يزداد عددهم كل عام، وتتزايد الحاجة لتوسعته، وكذلك المسعى.

من هنا صدر أمر الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 1426ه – 2005م بدراسة توسعة المسعى لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الحجاج والمعتمرين، وتباينت أراء الفقهاء حول جواز التوسعة شرعياً من عدمه، وكتب الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء بحثاً فقهياً مؤصلاً عنونه: «توسعة المسعى عزيمة لا رخصة: دراسة فقهية، تاريخية، بيئية، جيولوجية»، وأصدره مطبوعاً عام 1429ه - 2008م، وهو في أساسه بحث مقدم لمجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية أثناء مناقشتها موضوع توسعة المسعى عام 1427ه - 2006م.

وتم تنفيذ مشروع توسعة المسعى من 4 طوابق وبعرض 40 متراً ولتصل طاقته الاستيعابية إلى 120 ألف ساعٍ في الساعة.

كما جاءت فكرة «مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف»، والعناصر المرتبطة به، وذلك لتسهيل الطواف واستيعاب الأعداد المتزايدة من المسلمين، وليضاعف الطاقة الاستيعابية للمطاف لتصل إلى أكثر من 105 آلاف طائف في الساعة، وكذلك توسعة مبنى الحرم من الجهة الشمالية لاستيعاب أكبر عدد من المصلين، وتم إعادة ترتيب أعمدة الأروقة التاريخية القديمة والتوسعة السعودية الأولى، وذلك بتخفيض عدد الأعمدة في الدور الأرضي والبدروم والدور الأول، إضافة إلى توسعة المنطقة المحاذية للمسعى في دور السطح، وبذلك يتم حل مشكلة الاختناق التي كان يواجهها الطائفون في تلك المنطقة.

كما يتضمن المشروع إعادة تأهيل المنطقة بين التوسعتين السعودية الأولى والثانية مع التوسعة الثالثة، مع إنشاء جسور للربط بينها مع مناسيب الدور الأول والسطح، وقد روعي في المشروع الاختلاف في مناسيب الحرم وصحن المطاف، وذلك بتخفيض منسوب الأروقة التاريخية ليصبح بمنسوب صحن المطاف، وتحقيق الارتباط المباشر لبدروم التوسعة السعودية الثانية، وكذلك المسعى، ليصبح بكامل عرض المبنى الجديد ليحقق الارتباط والاتصال البصري بالكعبة المشرفة، ولتعويض انخفاض الطاقة الاستيعابية للمطاف من 48 ألفاً إلى 22 ألفاً في الساعة، وبسبب أعمال الإزالة والإنشاء تم استحداث جسر المطاف المؤقت بمستوياته المتكررة ليكون من جملة الحلول المبتكرة لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف أثناء مراحل تنفيذ مشروع توسعة صحن المطاف.

حجر الأساس

وفي يوم السبت 20 رمضان 1432هـ الموافق 20 أغسطس (آب) 2011م، وضع الملك عبد الله بن عبد العزيز حجر الأساس لأكبر توسعة في تاريخ المسجد الحرام، لا من حيث الحجم والتكلفة فحسب؛ بل ومن حيث التطوير الشامل للنواحي العمرانية والهندسية والتقنية والصحية والأمنية والاستدامة. وشملت «توسعة الملك عبد الله» مكونات رئيسة متعددة ضمت: توسعة المبنى الرئيس للمسجد الحرام، توسعة المسعى، توسعة المطاف، توسعة الساحات الخارجية، وزيادة عدد الجسور، زيادة عدد المساطب، إنشاء مجمع مباني الخدمات المركزية ونفق الخدمات، إنشاء المباني الأمنية، إنشاء مستشفى مركزي، تنفيذ عدد من أنفاق المشاة، إنشاء محطات النقل والجسور المؤدية إلى الحرم، تنفيذ الطريق الدائري الأول المحيط بمنطقة المسجد الحرام، إضافة إلى أعمال البنية التحتية، وتشمل محطات الكهرباء وخزانات المياه ودورات المياه والممرات والمرافق المساندة الأخرى.

من جانب آخر، فقد حوى المشروع أفضل الأنظمة المتطورة التي رُوعي فيها أدق معايير الاستدامة، من خلال توفير استهلاك الطاقة والموارد الطبيعية، كأنظمة الصوت، والإضاءة، والتكييف، وإنذار ومكافحة الحريق، وكاميرات المراقبة، وغيرها من الأنظمة التقنية. علاوة على أنظمة النظافة كنظام شفط الغبار المركزي، كما حوى مبنى الحرم مجموعة كبيرة من مشارب مياه زمزم المبردة. وتُعد محطة تبريد الحرم المكي الشريف أكبر محطة تبريد مركزي في العالم، إذ تحتوي على 16 جهاز تبريد، تبلغ قوة كل جهاز 5 آلاف طن. كما أنشئت 5 محطات توليد للتيار الكهربائي، وتم ربطها آلياً لضمان استمرار التغذية الكهربائية للمسجد الحرام. ولتسهيل عبور المشاة من المناطق المختلفة للوصول إلى مشروع التوسعة الثالثة، تم عمل منظومة لأنفاق المشاة تتوافر فيها أفضل أنظمة التهوية ومنع التلوث والإضاءة، إضافة لدورات المياه والخدمات الأخرى.

الملك عبد الله بن عبد العزيز لدى وضعه حجر أساس التوسعة السعودية الثالثة عام 2011 (واس)

كما تم في عهد الملك عبد الله افتتاح مشروع وقف الملك عبد العزيز للحرمين الشريفين عام 1428ه – 2007م، ويتكون المشروع من 7 أبراج تحوي مجمعات سكنية وفندقية وأسواقاً تجارية ومصليات، إضافة إلى الخدمات والمرافق الأخرى، ويعود ريعه على مصالح وخدمة المسجد الحرام.

وتعلو الوقف ساعة مكة المكرمة التي انطلق منها «توقيت مكة العالمي» عام 1432ه -2011م.

في عام 1431ه – 2010م جرى تدشين مشروع الملك عبد الله لسقيا زمزم بطاقة إنتاجية تصل إلى 200 ألف عبوة يومياً. ومن الإضافات البارزة لهذه التوسعة التي روعيت فيها أعلى معايير السلامة والحلول الذكية للتشغيل والصيانة وإدارة الحشود، زيادة أدوار الحرم المكي لتصبح أربعة أدوار بالتوازي مع مستويات المسعى كذلك.

وبلغت المساحة الإجمالية للمسجد الحرام وساحاته بعد التوسعة السعودية الثالثة 750.000 متر مربع، بإجمالي مسطحات بناء تتجاوز 1400.000 متر مربع، وتستوعب أكثر من 2.500.000 مصلٍّ، مع استيعاب 105 آلاف طائف حول الكعبة و120 ألف ساعٍ بين الصفا والمروة في الساعة الواحدة، متمتعين بمنظومة متكاملة من عناصر الحركة الرأسية، من خلال مئات السلالم المتحركة والثابتة والمصاعد المتطورة الموجودة في المسجد الحرام. أما عن التكاليف الإجمالية لهذه التوسعة، فتقدر بـ300 مليار ريال (80 مليار دولار).

كواليس التوسعة الثالثة

هناك جوانب توثيقية متعلقة بتوسعة وعمارة الحرمين الشريفين لم تأخذ حقها من التدوين والنشر، منها قصة تصميم التوسعة السعودية الثالثة للحرم المكي مما يؤكد على الرؤية الممتدة لقادة المملكة العربية السعودية في خدمة الحرمين الشريفين، كما يتبين منها حجم الاستثمار في الإنسان السعودي، الذي هو أعظم الاستثمارات في تقديري.

بدأت قصتنا عندما لم تتم الموافقة على التصميم الأولي الذي قدم لمشروع التوسعة، والذي لم يراع التطورات المعرفية والتقدم في التقنيات والأفكار المعمارية، ولا الاحتياجات الإنسانية لمختلف زوار الحرم الشريف، ولا حتى التصور المستقبلي للحرم نفسه ولمحيطه، فصدر التوجيه السامي بتكليف وزارة التعليم العالي حينذاك بتشكيل فريق فني من أعضاء هيئات التدريس في مختلف التخصصات ذات العلاقة، خصوصاً من كليات العمارة والتخطيط والهندسة في الجامعات السعودية.

وتولى الفريق: إعداد المعايير الهندسية، والاعتبارات التصميمية، والخطط المستقبلية، والشروط المرجعية للتصميم. ووجهت الدعوة إلى عدد من المكاتب والشركات الاستشارية العالمية والمحلية، إضافة إلى كليات العمارة في الجامعات السعودية، لتقديم عروضهم شاملة: الأفكار التصميمية، والرسومات المعمارية، والمجسمات، والأفلام الحركية التي توضح أهم مميزات المشروع من الداخل والخارج. وقدمت المكاتب الاستشارية أفكارها أمام الملك عبد الله وبحضور أعضاء اللجنة الرئيسة المشكلة من المقام السامي، خلال معرض خاص أقيم في مدينة جدة لهذا الغرض. أما الجانب الأكثر إثارة فهو «التصميم الأساس» الذي تم تطويره واستكمال تفاصيله ومن ثم تنفيذه.

هذا التصميم تم إعداده من قبل فريق من أعضاء هيئة التدريس والمعيدين والطلاب من كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود، وتم إنجاز المشروع خلال مدة لم تتجاوز أربعين يوماً، مواصلين العمل ليلاً ونهاراً في أحد استوديوهات الكلية الذي تم تجهيزه لاستكمال أعمال المشروع من الفكرة التصميمية، والرسومات التكميلية، وما يتبعها من تحليل للوضع الراهن ودراسات للجوانب الوظيفية والبيئية وإدارة الحشود والحركة، إضافة إلى إعداد الوثيقة التصميمة شاملة الرسومات والصور، وإنتاج الفيلم التعريفي ومجسمات المشروع.

ووفقاً للدكتور عبد العزيز المقرن عميد كلية العمارة والتخطيط ورئيس الفريق، تم تقديم العرض مع أربعة عشر عرضًا آخر قدمتها المكاتب الاستشارية العالمية والمحلية والكليات الأخرى. وصدر الأمر السامي باختيار التصميم المقترح من قبل كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود ليكون «التصميم الأساس»، على أن يتم تطويره بما يستجيب للرؤى التطويرية والتشغيلية والتصميمية.

المقرن وطلابه

يتذكر الدكتور المقرن بكل اعتزاز وفخر تفاصيل تلك القصة التي عمل عليها مع زملائه وطلابه أعضاء الفريق الذين كان عددهم 24 عضواً، وجرت تفاصيلها بين عامي 1429 و1430 هـ - 2008 و2009م. ويقول: بعد ذلك تلقت الجامعة تكليفاً بالبدء في تطوير التصميم، وتم تشكيل فريق من الجامعة برئاستي، ومجموعة من الخبراء المكلفين في وزارة التعليم العالي من جامعات المملكة، وعملنا سويّاً مع مكتب دار الهندسة التابع لـ«شركة بن لادن» لعدة أشهر على تطوير التصميم الذي مر بثلاث مراحل:

  • المحافظة على الفكرة الأساسية التي فازت بالمسابقة.
  • تطوير تفاصيل التصميم، الذي لم يتغير كثيراً، من قبل فريق جامعة الملك سعود مع فريق وزارة التعليم العالي.
  • تسليم التصميم المطور لمقاول المشروع (شركة بن لادن)، لعمل الرسومات التنفيذية، والنظم الهندسية اللازمة، مع بعض التعديلات من قبل الاستشاريين التابعين لـ«شركة بن لادن» دون تغيير أو تحوير للفكرة الأساسية للمشروع، وتم تنفيذ المشروع وفق ذلك.

إنها قصة تدعو للفخر، أن تتفوق كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود على عدد من أكبر المكاتب والشركات الاستشارية العالمية في مجال العمارة والتصميم.

وهذا يدل على القدرات الكامنة في كثير من زوايا كليات جامعاتنا، والكفايات الوطنية السعودية التي تثبت يوماً بعد يوم تفوقها وريادتها في عديد من المجالات، وأنها ليست أعظم استثمارات الدولة السعودية فحسب؛ بل وأهم موارد هذه البلاد وأكثرها قيمة. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا كثيرون لا يعرفون عن الإنجازات المعرفية لجامعاتنا السعودية، أم أن السبب يعود إلى الجامعات نفسها؟

لكن المؤمل أن نرى في المستقبل القريب، خصوصاً بعد تحويل جامعة الملك سعود إلى «مؤسسة أكاديمية مستقلة غير هادفة للربح»، ومملوكة للهيئة الملكية لمدينة الرياض، خطوات نحو المستهدف الطموح لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لأن تصبح الجامعة أحد أفضل عشر جامعات في العالم.

عهد سلمان

وفور تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، مقاليد الحكم في 3 ربيع الثاني 1436ه – 23 يناير (كانون الثاني) 2015م، أكد مواصلة العمل بواجبات ومسؤوليات خدمة الحرمين الشريفين، التي تشرف بها ملوك البلاد السابقون، وتوفير الأمن والراحة والطمأنينة لضيوف الرحمن.

الملك سلمان بن عبد العزيز لدى اطلاعه على مشروع التوسعة نهاية مايو 2015 (واس)

وتأكيداً لحرصه على كل ما من شأنه أداء قاصدي المسجد الحرام مناسكهم بكل يسر وراحة، تفقد الملك سلمان يوم السبت 12 شعبان 1436ه – 30 مايو (أيار) 2015م مراحل مشروع التوسعة السعودية الثالثة للحرم المكي، ووجه بتسخير كل الإمكانات والمتطلبات التي يحتاج إليها المسجد الحرام ومشروع التوسعة. وفي يوم 24 رمضان 1436ه - 11 يوليو (تموز) 2015م دشَّن خادم الحرمين الشريفين خمسة مشاريع رئيسة ضمن المشروع الشامل للتوسعة، الذي تشرف على تنفيذه وزارة المالية، وهي: مشروع مبنى التوسعة الرئيس، مشروع الساحات، مشروع أنفاق المشاة، مشروع محطة الخدمات المركزية للحرم، ومشروع الطريق الدائري الأول.

إن الناظر إلى الجهود المستمرة في خدمة وعمارة وتوسعة المسجد الحرام والمسجد النبوي والمشاعر المقدسة والمشروعات الكبرى التي تخدم هذه المقدسات، يلمس العناية الكبيرة والحرص المستمر من خادم الحرمين الشريفين وولي عهده على بذل كل جهد وعناية لخدمة الحرمين الشريفين وحجاج وعمار بيت الله الحرام وزوار مسجد نبيه صلى الله عليه وسلم.

وجاء إطلاق برنامج خدمة ضيوف الرحمن أحد البرامج الرئيسة ضمن رؤية المملكة العربية السعودية 2030، الذي يهدف إلى إحداث نقلة نوعية جديدة في خدمة ضيوف الرحمن، وتوفير الخدمات التي تعينهم على أداء المناسك بكل يسر وسهولة، من خلال تحقيق 3 أهداف استراتيجية تتمثل في: تيسير استضافة المزيد من المعتمرين وتسهيل الوصول إلى الحرمين الشريفين، وتقديم خدمات ذات جودة للحاج والمعتمر، وإثراء تجربتهم الدينية والثقافية.

كما صدر في 17 رمضان 1439ه - 1 يونيو (حزيران) 2018م أمر ملكي بإنشاء الهيئة الملكية لمكة المكرمة والمشاعر المقدسة، ويرأس مجلس إدارتها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد. والهيئة ذات شخصية اعتبارية، مستقلة إدارياً ومالياً، ترتبط تنظيمياً بمجلس الوزراء، وتتمتع بسلطة عليا على كل الأعمال والخدمات والمشروعات ضمن النطاق الجغرافي لمدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، وتهدف إلى الارتقاء بالأعمال والخدمات المقدمة، لتحقيق الازدهار والتنمية المستدامة بما يتناسب مع مكانة مكة المكرمة وقدسيتها.

ولعله من المهم في نهاية هذا السرد التاريخي لجهود قادة المملكة العربية السعودية في توسعة وعمارة المسجد الحرام الإشارة إلى بعض الجوانب النوعية المرتبطة بمشروعات توسعة الحرم المكي وتحدياتها، خصوصاً وأن تنفيذ هذه المشروعات مستمر طوال العام وأثناء المواسم التي تشهد كثافة بشرية عالية، وإذا تناولنا ما يرتبط بإدارة الحشود فقط، ندرك الكفاءة التشغيلية العالية والخطط الدقيقة لتمكين قاصدي المسجد الحرام من تأدية المناسك والعبادة في بيئة آمنة وبكل انسيابية وسلامة رغم الظروف المحيطة والمقننة في حدود زمانية ومكانية، حيث سخرت المملكة العربية السعودية إمكاناتها وأثبتت بعد توفيق الله قدراتها في إدارة الحشود، وكان آخر قصص النجاح في هذا المجال تنظيم حركة دخول وخروج أكثر من 30 مليون معتمر ومصلٍ للمسجد الحرام خلال شهر رمضان 1444ه - 2023م.

«كورونا»... وشجاعة المواجهة

ومما سيسجله التاريخ لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، القرار الشجاع الذي اتخذته حكومة المملكة العربية السعودية تفادياً لانتشار وباء «كورونا»، بتعليق العمرة والزيارة وإغلاق صحن المطاف والروضة الشريفة، وإغلاق الحرمين الشريفين في غير أوقات الصلوات، مع استمرار رفع الأذان وإقامة الصلاة داخل المسجد الحرام والمسجد النبوي ضمن إجراءات محددة حفاظاً على سلامة قاصدي الحرمين الشريفين، وذلك ضمن الإجراءات الاحترازية لمنع انتشار فيروس كورونا.

وحرصت السعودية على إقامة شعائر الحج خلال تلك الأزمة (1441 و1442ه – 2020 و2021م) بشكل آمن، وذلك تحقيقاً لمقاصد الشريعة الإسلامية وبأعداد محددة من الحجاج.

لقد أدرك قادة المملكة العربية السعودية منذ عهد المؤسس وحتى اليوم تلك المسؤولية الكبرى على المملكة بصفتها مهبط الوحي ومهد الرسالة النبوية، وجعلوا خدمة الحرمين أولوية لكل منهم، وكان لكل ملك مساهمته وبصمته التي سيخلدها التاريخ، ولخص ذلك الملك سلمان بقوله: «لقب خادم الحرمين الشريفين شرف كبير، ومسؤولية عظيمة».

ولعل المطلع والمتابع لكل هذه التغييرات النوعية لخدمة بيت الله الحرام ومسجد نبيه صلى الله عليه وسلم وقاصديهما يدرك أننا أمام مرحلة تحول كبرى ترتكز على تطوير منظومة متكاملة لتيسير الإجراءات وتلبية الاحتياجات وتقديم أفضل الخدمات لضيوف الرحمن، وذلكم هو الشرف الكبير والمسؤولية العظيمة.


مقالات ذات صلة

السعودية تعلن بدء التخطيط الزمني لموسم الحج المقبل

الخليج الأمير سعود بن مشعل أكد ضرورة تكثيف التنسيق بين كافة القطاعات لتهيئة كافة السبل لتطوير الخدمات (إمارة منطقة مكة المكرمة)

السعودية تعلن بدء التخطيط الزمني لموسم الحج المقبل

نحو تهيئة كافة السبل لتطوير الخدمات وتسهيل طرق الحصول عليها وتحسين المرافق التي تحتضن هذه الشعيرة العظيمة، أعلنت السعودية عن بدء التخطيط الزمني لحج 1446هـ.

«الشرق الأوسط» (جدة)
شمال افريقيا الحجاج المصريون النظاميون يؤدون مناسك الحج (أرشيفية - وزارة التضامن الاجتماعي)

مصر تلغي تراخيص شركات سياحية «متورطة» في تسفير حجاج «غير نظاميين»

ألغت وزارة السياحة والآثار المصرية تراخيص 36 شركة سياحة، على خلفية تورطها في تسفير حجاج «غير نظاميين» إلى السعودية.

أحمد عدلي (القاهرة)
الخليج 7700 رحلة جوية عبر 6 مطارات نقلت حجاج الخارج إلى السعودية لأداء فريضة الحج (واس)

السعودية تودّع آخر طلائع الحجاج عبر مطار المدينة المنورة

غادر أراضي السعودية، الأحد، آخر فوج من حجاج العام الهجري المنصرم 1445هـ، على «الخطوط السعودية» من مطار الأمير محمد بن عبد العزيز الدولي في المدينة المنورة.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد صورة للطرفين عقب توقيع الاتفاقية (مجموعة السعودية)

«مجموعة السعودية» توقّع صفقة لشراء 100 طائرة كهربائية

وقّعت «مجموعة السعودية» مع شركة «ليليوم» الألمانية، المتخصصة في صناعة «التاكسي الطائر»، صفقة لشراء 100 مركبة طائرة كهربائية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق الثوب الأغلى في العالم بحلته الجديدة يكسو الكعبة المشرفة في المسجد الحرام بمكة المكرمة (هيئة العناية بشؤون الحرمين)

«الكعبة المشرفة» تتزين بالثوب الأنفس في العالم بحلته الجديدة

ارتدت الكعبة المشرفة ثوبها الجديد، الأحد، جرياً على العادة السنوية من كل عام هجري على يد 159 صانعاً وحرفياً سعودياً مدربين ومؤهلين علمياً وعملياً.

إبراهيم القرشي (جدة)

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.