قصة الأربعين يوماً وجامعة الملك سعود وعمارة المسجد الحرام

التوسعة السعودية الثالثة بدأها الملك عبد الله واستكملها الملك سلمان

TT

قصة الأربعين يوماً وجامعة الملك سعود وعمارة المسجد الحرام

الملك سلمان بن عبد العزيز لدى اطلاعه على مشروع التوسعة نهاية مايو 2015 (واس)
الملك سلمان بن عبد العزيز لدى اطلاعه على مشروع التوسعة نهاية مايو 2015 (واس)

استمراراً للجهود التي يبذلها ملوك المملكة العربية السعودية في خدمة بيت الله الحرام وعمارته والعناية به، جاءت التوسعة السعودية الثالثة أكبرَ توسعة وعمارة للمسجد الحرام في تاريخه. وعلى مدى العصور الإسلامية المختلفة كانت التوسعات في المسجد الحرام تضاعف من الطاقة الاستيعابية للمصلين، مع تزايد أعدادهم، ويبقى صحن المطاف كما هو بطاقته المحدودة يحتل المساحة نفسها، ويزدحم بالطائفين الذين يزداد عددهم كل عام، وتتزايد الحاجة لتوسعته، وكذلك المسعى.

من هنا صدر أمر الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 1426ه – 2005م بدراسة توسعة المسعى لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الحجاج والمعتمرين، وتباينت أراء الفقهاء حول جواز التوسعة شرعياً من عدمه، وكتب الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء بحثاً فقهياً مؤصلاً عنونه: «توسعة المسعى عزيمة لا رخصة: دراسة فقهية، تاريخية، بيئية، جيولوجية»، وأصدره مطبوعاً عام 1429ه - 2008م، وهو في أساسه بحث مقدم لمجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية أثناء مناقشتها موضوع توسعة المسعى عام 1427ه - 2006م.

وتم تنفيذ مشروع توسعة المسعى من 4 طوابق وبعرض 40 متراً ولتصل طاقته الاستيعابية إلى 120 ألف ساعٍ في الساعة.

كما جاءت فكرة «مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف»، والعناصر المرتبطة به، وذلك لتسهيل الطواف واستيعاب الأعداد المتزايدة من المسلمين، وليضاعف الطاقة الاستيعابية للمطاف لتصل إلى أكثر من 105 آلاف طائف في الساعة، وكذلك توسعة مبنى الحرم من الجهة الشمالية لاستيعاب أكبر عدد من المصلين، وتم إعادة ترتيب أعمدة الأروقة التاريخية القديمة والتوسعة السعودية الأولى، وذلك بتخفيض عدد الأعمدة في الدور الأرضي والبدروم والدور الأول، إضافة إلى توسعة المنطقة المحاذية للمسعى في دور السطح، وبذلك يتم حل مشكلة الاختناق التي كان يواجهها الطائفون في تلك المنطقة.

كما يتضمن المشروع إعادة تأهيل المنطقة بين التوسعتين السعودية الأولى والثانية مع التوسعة الثالثة، مع إنشاء جسور للربط بينها مع مناسيب الدور الأول والسطح، وقد روعي في المشروع الاختلاف في مناسيب الحرم وصحن المطاف، وذلك بتخفيض منسوب الأروقة التاريخية ليصبح بمنسوب صحن المطاف، وتحقيق الارتباط المباشر لبدروم التوسعة السعودية الثانية، وكذلك المسعى، ليصبح بكامل عرض المبنى الجديد ليحقق الارتباط والاتصال البصري بالكعبة المشرفة، ولتعويض انخفاض الطاقة الاستيعابية للمطاف من 48 ألفاً إلى 22 ألفاً في الساعة، وبسبب أعمال الإزالة والإنشاء تم استحداث جسر المطاف المؤقت بمستوياته المتكررة ليكون من جملة الحلول المبتكرة لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف أثناء مراحل تنفيذ مشروع توسعة صحن المطاف.

حجر الأساس

وفي يوم السبت 20 رمضان 1432هـ الموافق 20 أغسطس (آب) 2011م، وضع الملك عبد الله بن عبد العزيز حجر الأساس لأكبر توسعة في تاريخ المسجد الحرام، لا من حيث الحجم والتكلفة فحسب؛ بل ومن حيث التطوير الشامل للنواحي العمرانية والهندسية والتقنية والصحية والأمنية والاستدامة. وشملت «توسعة الملك عبد الله» مكونات رئيسة متعددة ضمت: توسعة المبنى الرئيس للمسجد الحرام، توسعة المسعى، توسعة المطاف، توسعة الساحات الخارجية، وزيادة عدد الجسور، زيادة عدد المساطب، إنشاء مجمع مباني الخدمات المركزية ونفق الخدمات، إنشاء المباني الأمنية، إنشاء مستشفى مركزي، تنفيذ عدد من أنفاق المشاة، إنشاء محطات النقل والجسور المؤدية إلى الحرم، تنفيذ الطريق الدائري الأول المحيط بمنطقة المسجد الحرام، إضافة إلى أعمال البنية التحتية، وتشمل محطات الكهرباء وخزانات المياه ودورات المياه والممرات والمرافق المساندة الأخرى.

من جانب آخر، فقد حوى المشروع أفضل الأنظمة المتطورة التي رُوعي فيها أدق معايير الاستدامة، من خلال توفير استهلاك الطاقة والموارد الطبيعية، كأنظمة الصوت، والإضاءة، والتكييف، وإنذار ومكافحة الحريق، وكاميرات المراقبة، وغيرها من الأنظمة التقنية. علاوة على أنظمة النظافة كنظام شفط الغبار المركزي، كما حوى مبنى الحرم مجموعة كبيرة من مشارب مياه زمزم المبردة. وتُعد محطة تبريد الحرم المكي الشريف أكبر محطة تبريد مركزي في العالم، إذ تحتوي على 16 جهاز تبريد، تبلغ قوة كل جهاز 5 آلاف طن. كما أنشئت 5 محطات توليد للتيار الكهربائي، وتم ربطها آلياً لضمان استمرار التغذية الكهربائية للمسجد الحرام. ولتسهيل عبور المشاة من المناطق المختلفة للوصول إلى مشروع التوسعة الثالثة، تم عمل منظومة لأنفاق المشاة تتوافر فيها أفضل أنظمة التهوية ومنع التلوث والإضاءة، إضافة لدورات المياه والخدمات الأخرى.

الملك عبد الله بن عبد العزيز لدى وضعه حجر أساس التوسعة السعودية الثالثة عام 2011 (واس)

كما تم في عهد الملك عبد الله افتتاح مشروع وقف الملك عبد العزيز للحرمين الشريفين عام 1428ه – 2007م، ويتكون المشروع من 7 أبراج تحوي مجمعات سكنية وفندقية وأسواقاً تجارية ومصليات، إضافة إلى الخدمات والمرافق الأخرى، ويعود ريعه على مصالح وخدمة المسجد الحرام.

وتعلو الوقف ساعة مكة المكرمة التي انطلق منها «توقيت مكة العالمي» عام 1432ه -2011م.

في عام 1431ه – 2010م جرى تدشين مشروع الملك عبد الله لسقيا زمزم بطاقة إنتاجية تصل إلى 200 ألف عبوة يومياً. ومن الإضافات البارزة لهذه التوسعة التي روعيت فيها أعلى معايير السلامة والحلول الذكية للتشغيل والصيانة وإدارة الحشود، زيادة أدوار الحرم المكي لتصبح أربعة أدوار بالتوازي مع مستويات المسعى كذلك.

وبلغت المساحة الإجمالية للمسجد الحرام وساحاته بعد التوسعة السعودية الثالثة 750.000 متر مربع، بإجمالي مسطحات بناء تتجاوز 1400.000 متر مربع، وتستوعب أكثر من 2.500.000 مصلٍّ، مع استيعاب 105 آلاف طائف حول الكعبة و120 ألف ساعٍ بين الصفا والمروة في الساعة الواحدة، متمتعين بمنظومة متكاملة من عناصر الحركة الرأسية، من خلال مئات السلالم المتحركة والثابتة والمصاعد المتطورة الموجودة في المسجد الحرام. أما عن التكاليف الإجمالية لهذه التوسعة، فتقدر بـ300 مليار ريال (80 مليار دولار).

كواليس التوسعة الثالثة

هناك جوانب توثيقية متعلقة بتوسعة وعمارة الحرمين الشريفين لم تأخذ حقها من التدوين والنشر، منها قصة تصميم التوسعة السعودية الثالثة للحرم المكي مما يؤكد على الرؤية الممتدة لقادة المملكة العربية السعودية في خدمة الحرمين الشريفين، كما يتبين منها حجم الاستثمار في الإنسان السعودي، الذي هو أعظم الاستثمارات في تقديري.

بدأت قصتنا عندما لم تتم الموافقة على التصميم الأولي الذي قدم لمشروع التوسعة، والذي لم يراع التطورات المعرفية والتقدم في التقنيات والأفكار المعمارية، ولا الاحتياجات الإنسانية لمختلف زوار الحرم الشريف، ولا حتى التصور المستقبلي للحرم نفسه ولمحيطه، فصدر التوجيه السامي بتكليف وزارة التعليم العالي حينذاك بتشكيل فريق فني من أعضاء هيئات التدريس في مختلف التخصصات ذات العلاقة، خصوصاً من كليات العمارة والتخطيط والهندسة في الجامعات السعودية.

وتولى الفريق: إعداد المعايير الهندسية، والاعتبارات التصميمية، والخطط المستقبلية، والشروط المرجعية للتصميم. ووجهت الدعوة إلى عدد من المكاتب والشركات الاستشارية العالمية والمحلية، إضافة إلى كليات العمارة في الجامعات السعودية، لتقديم عروضهم شاملة: الأفكار التصميمية، والرسومات المعمارية، والمجسمات، والأفلام الحركية التي توضح أهم مميزات المشروع من الداخل والخارج. وقدمت المكاتب الاستشارية أفكارها أمام الملك عبد الله وبحضور أعضاء اللجنة الرئيسة المشكلة من المقام السامي، خلال معرض خاص أقيم في مدينة جدة لهذا الغرض. أما الجانب الأكثر إثارة فهو «التصميم الأساس» الذي تم تطويره واستكمال تفاصيله ومن ثم تنفيذه.

هذا التصميم تم إعداده من قبل فريق من أعضاء هيئة التدريس والمعيدين والطلاب من كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود، وتم إنجاز المشروع خلال مدة لم تتجاوز أربعين يوماً، مواصلين العمل ليلاً ونهاراً في أحد استوديوهات الكلية الذي تم تجهيزه لاستكمال أعمال المشروع من الفكرة التصميمية، والرسومات التكميلية، وما يتبعها من تحليل للوضع الراهن ودراسات للجوانب الوظيفية والبيئية وإدارة الحشود والحركة، إضافة إلى إعداد الوثيقة التصميمة شاملة الرسومات والصور، وإنتاج الفيلم التعريفي ومجسمات المشروع.

ووفقاً للدكتور عبد العزيز المقرن عميد كلية العمارة والتخطيط ورئيس الفريق، تم تقديم العرض مع أربعة عشر عرضًا آخر قدمتها المكاتب الاستشارية العالمية والمحلية والكليات الأخرى. وصدر الأمر السامي باختيار التصميم المقترح من قبل كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود ليكون «التصميم الأساس»، على أن يتم تطويره بما يستجيب للرؤى التطويرية والتشغيلية والتصميمية.

المقرن وطلابه

يتذكر الدكتور المقرن بكل اعتزاز وفخر تفاصيل تلك القصة التي عمل عليها مع زملائه وطلابه أعضاء الفريق الذين كان عددهم 24 عضواً، وجرت تفاصيلها بين عامي 1429 و1430 هـ - 2008 و2009م. ويقول: بعد ذلك تلقت الجامعة تكليفاً بالبدء في تطوير التصميم، وتم تشكيل فريق من الجامعة برئاستي، ومجموعة من الخبراء المكلفين في وزارة التعليم العالي من جامعات المملكة، وعملنا سويّاً مع مكتب دار الهندسة التابع لـ«شركة بن لادن» لعدة أشهر على تطوير التصميم الذي مر بثلاث مراحل:

  • المحافظة على الفكرة الأساسية التي فازت بالمسابقة.
  • تطوير تفاصيل التصميم، الذي لم يتغير كثيراً، من قبل فريق جامعة الملك سعود مع فريق وزارة التعليم العالي.
  • تسليم التصميم المطور لمقاول المشروع (شركة بن لادن)، لعمل الرسومات التنفيذية، والنظم الهندسية اللازمة، مع بعض التعديلات من قبل الاستشاريين التابعين لـ«شركة بن لادن» دون تغيير أو تحوير للفكرة الأساسية للمشروع، وتم تنفيذ المشروع وفق ذلك.

إنها قصة تدعو للفخر، أن تتفوق كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود على عدد من أكبر المكاتب والشركات الاستشارية العالمية في مجال العمارة والتصميم.

وهذا يدل على القدرات الكامنة في كثير من زوايا كليات جامعاتنا، والكفايات الوطنية السعودية التي تثبت يوماً بعد يوم تفوقها وريادتها في عديد من المجالات، وأنها ليست أعظم استثمارات الدولة السعودية فحسب؛ بل وأهم موارد هذه البلاد وأكثرها قيمة. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا كثيرون لا يعرفون عن الإنجازات المعرفية لجامعاتنا السعودية، أم أن السبب يعود إلى الجامعات نفسها؟

لكن المؤمل أن نرى في المستقبل القريب، خصوصاً بعد تحويل جامعة الملك سعود إلى «مؤسسة أكاديمية مستقلة غير هادفة للربح»، ومملوكة للهيئة الملكية لمدينة الرياض، خطوات نحو المستهدف الطموح لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لأن تصبح الجامعة أحد أفضل عشر جامعات في العالم.

عهد سلمان

وفور تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، مقاليد الحكم في 3 ربيع الثاني 1436ه – 23 يناير (كانون الثاني) 2015م، أكد مواصلة العمل بواجبات ومسؤوليات خدمة الحرمين الشريفين، التي تشرف بها ملوك البلاد السابقون، وتوفير الأمن والراحة والطمأنينة لضيوف الرحمن.

الملك سلمان بن عبد العزيز لدى اطلاعه على مشروع التوسعة نهاية مايو 2015 (واس)

وتأكيداً لحرصه على كل ما من شأنه أداء قاصدي المسجد الحرام مناسكهم بكل يسر وراحة، تفقد الملك سلمان يوم السبت 12 شعبان 1436ه – 30 مايو (أيار) 2015م مراحل مشروع التوسعة السعودية الثالثة للحرم المكي، ووجه بتسخير كل الإمكانات والمتطلبات التي يحتاج إليها المسجد الحرام ومشروع التوسعة. وفي يوم 24 رمضان 1436ه - 11 يوليو (تموز) 2015م دشَّن خادم الحرمين الشريفين خمسة مشاريع رئيسة ضمن المشروع الشامل للتوسعة، الذي تشرف على تنفيذه وزارة المالية، وهي: مشروع مبنى التوسعة الرئيس، مشروع الساحات، مشروع أنفاق المشاة، مشروع محطة الخدمات المركزية للحرم، ومشروع الطريق الدائري الأول.

إن الناظر إلى الجهود المستمرة في خدمة وعمارة وتوسعة المسجد الحرام والمسجد النبوي والمشاعر المقدسة والمشروعات الكبرى التي تخدم هذه المقدسات، يلمس العناية الكبيرة والحرص المستمر من خادم الحرمين الشريفين وولي عهده على بذل كل جهد وعناية لخدمة الحرمين الشريفين وحجاج وعمار بيت الله الحرام وزوار مسجد نبيه صلى الله عليه وسلم.

وجاء إطلاق برنامج خدمة ضيوف الرحمن أحد البرامج الرئيسة ضمن رؤية المملكة العربية السعودية 2030، الذي يهدف إلى إحداث نقلة نوعية جديدة في خدمة ضيوف الرحمن، وتوفير الخدمات التي تعينهم على أداء المناسك بكل يسر وسهولة، من خلال تحقيق 3 أهداف استراتيجية تتمثل في: تيسير استضافة المزيد من المعتمرين وتسهيل الوصول إلى الحرمين الشريفين، وتقديم خدمات ذات جودة للحاج والمعتمر، وإثراء تجربتهم الدينية والثقافية.

كما صدر في 17 رمضان 1439ه - 1 يونيو (حزيران) 2018م أمر ملكي بإنشاء الهيئة الملكية لمكة المكرمة والمشاعر المقدسة، ويرأس مجلس إدارتها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد. والهيئة ذات شخصية اعتبارية، مستقلة إدارياً ومالياً، ترتبط تنظيمياً بمجلس الوزراء، وتتمتع بسلطة عليا على كل الأعمال والخدمات والمشروعات ضمن النطاق الجغرافي لمدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، وتهدف إلى الارتقاء بالأعمال والخدمات المقدمة، لتحقيق الازدهار والتنمية المستدامة بما يتناسب مع مكانة مكة المكرمة وقدسيتها.

ولعله من المهم في نهاية هذا السرد التاريخي لجهود قادة المملكة العربية السعودية في توسعة وعمارة المسجد الحرام الإشارة إلى بعض الجوانب النوعية المرتبطة بمشروعات توسعة الحرم المكي وتحدياتها، خصوصاً وأن تنفيذ هذه المشروعات مستمر طوال العام وأثناء المواسم التي تشهد كثافة بشرية عالية، وإذا تناولنا ما يرتبط بإدارة الحشود فقط، ندرك الكفاءة التشغيلية العالية والخطط الدقيقة لتمكين قاصدي المسجد الحرام من تأدية المناسك والعبادة في بيئة آمنة وبكل انسيابية وسلامة رغم الظروف المحيطة والمقننة في حدود زمانية ومكانية، حيث سخرت المملكة العربية السعودية إمكاناتها وأثبتت بعد توفيق الله قدراتها في إدارة الحشود، وكان آخر قصص النجاح في هذا المجال تنظيم حركة دخول وخروج أكثر من 30 مليون معتمر ومصلٍ للمسجد الحرام خلال شهر رمضان 1444ه - 2023م.

«كورونا»... وشجاعة المواجهة

ومما سيسجله التاريخ لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، القرار الشجاع الذي اتخذته حكومة المملكة العربية السعودية تفادياً لانتشار وباء «كورونا»، بتعليق العمرة والزيارة وإغلاق صحن المطاف والروضة الشريفة، وإغلاق الحرمين الشريفين في غير أوقات الصلوات، مع استمرار رفع الأذان وإقامة الصلاة داخل المسجد الحرام والمسجد النبوي ضمن إجراءات محددة حفاظاً على سلامة قاصدي الحرمين الشريفين، وذلك ضمن الإجراءات الاحترازية لمنع انتشار فيروس كورونا.

وحرصت السعودية على إقامة شعائر الحج خلال تلك الأزمة (1441 و1442ه – 2020 و2021م) بشكل آمن، وذلك تحقيقاً لمقاصد الشريعة الإسلامية وبأعداد محددة من الحجاج.

لقد أدرك قادة المملكة العربية السعودية منذ عهد المؤسس وحتى اليوم تلك المسؤولية الكبرى على المملكة بصفتها مهبط الوحي ومهد الرسالة النبوية، وجعلوا خدمة الحرمين أولوية لكل منهم، وكان لكل ملك مساهمته وبصمته التي سيخلدها التاريخ، ولخص ذلك الملك سلمان بقوله: «لقب خادم الحرمين الشريفين شرف كبير، ومسؤولية عظيمة».

ولعل المطلع والمتابع لكل هذه التغييرات النوعية لخدمة بيت الله الحرام ومسجد نبيه صلى الله عليه وسلم وقاصديهما يدرك أننا أمام مرحلة تحول كبرى ترتكز على تطوير منظومة متكاملة لتيسير الإجراءات وتلبية الاحتياجات وتقديم أفضل الخدمات لضيوف الرحمن، وذلكم هو الشرف الكبير والمسؤولية العظيمة.


مقالات ذات صلة

السعودية تعلن بدء التخطيط الزمني لموسم الحج المقبل

الخليج الأمير سعود بن مشعل أكد ضرورة تكثيف التنسيق بين كافة القطاعات لتهيئة كافة السبل لتطوير الخدمات (إمارة منطقة مكة المكرمة)

السعودية تعلن بدء التخطيط الزمني لموسم الحج المقبل

نحو تهيئة كافة السبل لتطوير الخدمات وتسهيل طرق الحصول عليها وتحسين المرافق التي تحتضن هذه الشعيرة العظيمة، أعلنت السعودية عن بدء التخطيط الزمني لحج 1446هـ.

«الشرق الأوسط» (جدة)
شمال افريقيا الحجاج المصريون النظاميون يؤدون مناسك الحج (أرشيفية - وزارة التضامن الاجتماعي)

مصر تلغي تراخيص شركات سياحية «متورطة» في تسفير حجاج «غير نظاميين»

ألغت وزارة السياحة والآثار المصرية تراخيص 36 شركة سياحة، على خلفية تورطها في تسفير حجاج «غير نظاميين» إلى السعودية.

أحمد عدلي (القاهرة)
الخليج 7700 رحلة جوية عبر 6 مطارات نقلت حجاج الخارج إلى السعودية لأداء فريضة الحج (واس)

السعودية تودّع آخر طلائع الحجاج عبر مطار المدينة المنورة

غادر أراضي السعودية، الأحد، آخر فوج من حجاج العام الهجري المنصرم 1445هـ، على «الخطوط السعودية» من مطار الأمير محمد بن عبد العزيز الدولي في المدينة المنورة.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد صورة للطرفين عقب توقيع الاتفاقية (مجموعة السعودية)

«مجموعة السعودية» توقّع صفقة لشراء 100 طائرة كهربائية

وقّعت «مجموعة السعودية» مع شركة «ليليوم» الألمانية، المتخصصة في صناعة «التاكسي الطائر»، صفقة لشراء 100 مركبة طائرة كهربائية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق الثوب الأغلى في العالم بحلته الجديدة يكسو الكعبة المشرفة في المسجد الحرام بمكة المكرمة (هيئة العناية بشؤون الحرمين)

«الكعبة المشرفة» تتزين بالثوب الأنفس في العالم بحلته الجديدة

ارتدت الكعبة المشرفة ثوبها الجديد، الأحد، جرياً على العادة السنوية من كل عام هجري على يد 159 صانعاً وحرفياً سعودياً مدربين ومؤهلين علمياً وعملياً.

إبراهيم القرشي (جدة)

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».