مصطلح «السياسات الثقافية» انتعش مع الثورات ويرصد التحولات

دراسات لمؤسسة «المورد» هدفها الكشف عن أصوات جديدة

طلاب ماجستير السياسات الثقافية الذين تم تدريبهم في هيلدسهايم في ألمانيا
طلاب ماجستير السياسات الثقافية الذين تم تدريبهم في هيلدسهايم في ألمانيا
TT
20

مصطلح «السياسات الثقافية» انتعش مع الثورات ويرصد التحولات

طلاب ماجستير السياسات الثقافية الذين تم تدريبهم في هيلدسهايم في ألمانيا
طلاب ماجستير السياسات الثقافية الذين تم تدريبهم في هيلدسهايم في ألمانيا

«السياسات الثقافية» مصطلح لا يزال قليل الاستعمال في المنطقة العربية. وهو إذ تمت ترجمته عن اللغات الأجنبية، وموّلت مراكز غربية الأبحاث المتعلقة به، ها هو يجد طريقه للاستخدام، في دراسات تتناول الحركة الثقافية العربية بمختلف جوانبها، لفهمها أولاً، وللمساعدة في رسم خطوطها واستراتيجياتها المستقبلية.

«المصطلح استخدم خصوصاً بعد الربيع العربي، وبخاصة بعد الثورتين التونسية والمصرية». إذ أجريت العديد من الدراسات التي ترصد التحولات وما رافقها من أشكال للتعبير، والثغرات التي تعاني منها المجتمعات العربية. وكذلك نشرت موضوعات عن السياسات الثقافية في كل من ليبيا ولبنان والجزائر ومصر وغيرها.

منذ ما يقارب العامين أصدرت مؤسسة «المورد الثقافي» دراسة في 150 صفحة غاية في الأهمية بالمشاركة مع «المعهد الألماني للدراسات الشرقية» في بيروت، حملت عنوان «نظرة حول السياسات الثقافية في لبنان»، حرّرتها كل من الباحثَتين والناشطَتين الثقافيَتين حنان الحاج علي وناديا فون مالتسان، وضمت ثلاثة بحوث ومقدمة تعريفية، واستغرق العمل عليها أربع سنوات.

خلصت الدراسة إلى أن بيروت رغم كل ما حلّ بها من كوارث متلاحقة «لا تزال، المختبر الفعلي الذي ينتج الحياة الفنية والثقافية في الشرق الأوسط، والجسرَ الذي يعدُّه عددٌ كبير من الفنانين والمُثقفين المكانَ الذي يتبناهم. وهي مركز تلاقٍ تتقاطعُ فيه الإنتاجات الفنية». غير أن المشكلة هي أن «الحياة الثقافية في لبنان، تخضع لفوضوية عارمة». وزارة الثقافة لم تكن موجودة قبل عام 1993، ووضعها التنظيمي، لا يزال يحتاج إلى الكثير من العمل، وهو يتطور ببطء. لذلك؛ فإن التمويلات الأجنبية وما تدفعه المؤسسات الخاصة، مع المبادرة الفردية، هي عصب الحيوية والديناميكية الثقافية في العاصمة اللبنانية. وكون هذه الأنشطة مرتبطة بالمبادرات الخاصة؛ فاستمراريتها ليست أكيدة، وهي مرهونة، بقرارات الممولين، التي قد تتوقف في أي لحظة..

وجاءت الدراسات تحت أربعة محاور رئيسية، هي: الحقوق الأساسية والتنوع الثقافي، أسئلة في التمويل الثقافي، التشريعات الثقافية ومحاولات التغيير، إضافة إلى محور حول جائحة كورونا وتجربة الرقمنة.

مسألة التنوع الثقافي

وكانت ورشة مفتوحة على مدى سنتين، عملت فيها الباحثة الرئيسية حبيبة العلوي بالتنسيق مع فريق المورد الثقافي، بحيث تم العمل مع 5 باحثين شاركوا في الورشة، إضافة إلى باحث متخرج من برنامج ماجستير السياسات الثقافية والإدارة الثقافية لكتابة مقالات متخصصة في المحاور المتفق عليها بمساعدة من مجموعة من المستشارين والخبراء في السياسات الثقافية الذين تعاونوا في قراءة وتقييم مجمل الدراسات. وتقول أريج أبو حرب، مديرة مشروع في المورد: إن الهدف الرئيسي هو إشراك بحاثة شباب أو مبتدئين، بمعونة خبراء في موضوع السياسات الثقافية، لتوسيع عدد المهتمين والباحثين في المجال.

في مسألة التنوع الثقافي تناقش دراسات المنشور الجديد واحدة من أحرج المسائل في المنطقة العربية المتأججة بالصراعات والخلافات السياسية ذات الخلفيات الطائفية والقبلية والدينية؛ مما احتاج إلى جرأة كبيرة عند الباحثين، كما في موضوع «تضييق هيئة الأوقاف بالحكومة المؤقتة على تجمع تاناروت للإبداع الليبي». وكذلك، هناك موضوع عن «بلدة القدس القديمة: موروث ثقافي في مدينة مقسمة» كتبه فراس فرح. نلحظ أن الممارسات التي تطبقها سلطة الاحتلال الإسرائيلية تتعدى الإقصاء. فهي، في رأي فرح، محاربة للثقافة الفلسطينية. وأي نشاط لا يتماشى مع الآيديولوجية الإسرائيلية يتم وقفه. فمثلاً «تم إغلاق مسرح الميدان في مدينة حيفا بسبب مسرحية عن الأسرى، واعتقلت الشاعرة دارين طاطور في مسرح السرايا بمدينة يافا بسبب قصيدة، وهدم تمثال الحوت للفنان الفلسطيني وليد قشاش في عكا، وتم اعتقال خالد الغول، مدير الأنشطة والمشاريع الفنية سابقاً في مؤسسة يبوس الثقافية في القدس بتهمة تنظيم أنشطة فنية من دون تراخيص داخل البلدة، ناهيك عن مراقبة المحتوى الثقافي للأنشطة المقدمة في العديد من المؤسسات الثقافية، خصوصاً في المدارس».

المنشور الجديد يتطرق إلى مواضيع قليلاً ما بحثت، مثل «السكان السود في المنطقة المغاربية» كجزء من التنوع الثقافي، والتعامل مع الاختلاف. وتقول الدراسة: إنه «مع انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، أصبح الجيل الجديد من المغاربة السود مرئياً أكثر، وصار يعبّر دون حرج أو عقد عن قضايا تهمه مثل العنصرية، أو التمييز. لكن في بعض المجالات الفنية، لا يزال من الصعب على الفنانين السود المغاربة رفع أصواتهم».

ثغرات الحياة الثقافية

نظراً لأن الدراسات في هذا المنشور هي عن أكثر من بلد عربي، وتطال مجالات عدة، لذا من الصعب التوصل إلى خلاصات عامة.

لكن أريج أبو حرب، من مؤسسة «المورد الثقافي» ترى أن المنطقة العربية قد تتشابه في حاجاتها إلى سد الثغرات التي تعاني منها الحياة الثقافية. «باستثناء منطقة الخليج جميع الدول العربية، تعيش أزمة تمويل حادة للقطاع الثقافي، وتلجأ المؤسسات وكذلك الأفراد عند تمويل مشاريعهم إلى منظمات دولية، خاصة وأن التمويل العربي غائب أيضاً. والدول العربية بشكل عام، تعاني في المجال الثقافي من أزمة تشريع، والقوانين فيها غير واضحة بما يكفي لحماية الفنانين والأدباء ونتاجاتهم، أو حتى لدرء الأذى والحاجة عنهم في فترة الشيخوخة، بسبب غياب الضمانات». وبالتالي، فالمهن الإبداعية، على أهميتها الكبيرة جداً، ليس ثمة ما يشجع على احترافها لأنها تنتهي بصاحبها إلى نتائج غير مأمونة، تماماً بسبب غياب النصوص التشريعية التي تنظمها.

هناك أيضاً نقص حاد في البنى التحتية الثقافية، سواء في ما يتعلق بالمسارح ودور العرض والمتاحف، وحتى البنى التحتية الثقافية في المدارس فقيرة وغير كافية، بحسب ما تشرح لنا أبو حرب. ويضاف إلى كل ذلك ضعف في نوع آخر من البنى التحتية هي التكنولوجيات الحديثة، مثل الإنترنت وشبكات دفع الأموال بالطرق الإلكترونية، مما يصعب التواصل والتبادل.

نقص الخبرات المحلية

وتستثني أريج خلال كلامها دول الخليج التي بدأت بوضع خطط وسياسات ثقافية، لكن «هذه الخطوات على أهميتها الكبرى، وما يمكن أن تأتي به من نتائج جيدة، يصعب الحكم عليها من الآن؛ لأنها لا تزال ناشئة، والخطط بالنسبة لنا كباحثين غير واضحة، غير أننا نلحظ أن ثمة نقصاً في الخبرات المحلية».

لكن هذا ليس كل شيء، «فقد تبين خلال أزمة الوباء، ومع ازدياد حالة اللاستقرار خاصة بسبب تفشي الفقر، والحروب والفوضى في العديد من البلدان العربية، ان قبضة الحكومات أصبحت أكثر شدة على المواطنين، وأن الرقابة ازدادت ولم تنقص، وأن مراقبة الناس أصبحت سائدة»، تقول أبو حرب.

تتناول الدراسات في المنشور الجديد مواضيع متفرقة، منها إشكاليات تمويل القطاع الثقافي في ليبيا، والمتاحف اللبنانية وأزمة التمويل. حرية الإبداع في التشريع المصري، السينما الجزائرية بين النص القانوني والتطبيق، التقنيون أبرز الضحايا. تطور صناعة الرسوم المتحركة في المنطقة العربية: الجزائر والسعودية مثالاً، كما نقرأ، صصكم من البيت للبيت تنقل المسرح الارتجالي إلى الفضاء الرقمي.

تقول إحدى الدراسات في المنشور: إن المنطقـة العربيـة شهدت تغيرات سياسـية وأزمـات عديـدة منـذ 2011 أثرت بعمق على القطاع الثقافي وآليات تمويله وعلى عكـس معظـم الـدول العربيـة اتخـذت دول الخليـج مسـاراً مختلفاً لدرجة أصبحت توسم جراء التطوير والاستثمار في القطاع الفني بـ«الاستثناء العربي».

موضوع «السياسات الثقافية»، لا يزال البحث فيه في أوله، ويتم تأهيل المزيد من الباحثين المبتدئين، كي يثروا هذا الميدان. فقد أطلقت مؤسسة «المورد» سلسلة من الفيديوهات من 9 حلقات، تحمل عنوان «أساسات السياسات» تضعها على موقعها الرسمي، نشرت منها لغاية الآن خمسة. وهي فيديوهات قصيرة تضمّ مقابلاتٍ مصوّرة مع فاعلين ثقافيين وخبراء وباحثين مختصّين في المجال، تهدف إلى التعريف بالسياسات الثقافية، بما في ذلك مفاهيمها، نشأتها، أشكالها ومدارسها المختلفة، وتقديمها لجمهورٍ واسع من الفاعلين الثقافيين والباحثين الّذين يرغبون بتطوير معارفهم في هذا المجال. تتيح هذه السلسلة المعارف النظريّة والخبرات العمليّة للجمهور، مع إضاءات على واقع المنطقة العربيّة وما مرّ فيها من تجارب مختلفة وقيّمة في السياسات الثقافيّة خلال السنوات الماضية، لتكون مصدراً للمعلومة والتجربة ومنطلقاً للنقاش.

خلصت الدراسة إلى أن بيروت رغم كل ما حلّ بها من كوارث متلاحقة «لا تزال المختبر الفعلي الذي ينتج الحياة الفنية والثقافية في الشرق الأوسط»


مقالات ذات صلة

«جوازك إلى العالم» في جدة... جولة فريدة بين ثقافات متعددة

يوميات الشرق عكست الفعالية في نسختها الأولى بمدينة الخبر عمق التواصل الإنساني بين الشعوب (واس)

«جوازك إلى العالم» في جدة... جولة فريدة بين ثقافات متعددة

تنطلق في جدة، الأربعاء، فعالية «جوازك إلى العالم» التي تأخذ الزوار في جولة فريدة بين ثقافات متعددة عبر عروض تفاعلية وفعاليات فنية ورقصات تقليدية ونكهات أصيلة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
يوميات الشرق يهدف التطبيق لتحويل المنطقة إلى مركز حضري متكامل يعكس روح المنطقة التاريخية (واس)

تطبيق رقمي تفاعلي لتعريف الزوار بإرث «جدة التاريخية»

أطلقت وزارة الثقافة السعودية تطبيقاً رقمياً خاصاً بمنطقة «جدة التاريخية»، لتقديم خدمات تفاعلية مبتكرة تُثري تجربة الزوار، وتُعرِّف بإرثها الثقافي.

«الشرق الأوسط» (جدة)
يوميات الشرق وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان مستقبلاً نظيرته اليونانية لينا مندوني في جدة (واس)

السعودية واليونان ترسخان تبادلهما الثقافي

ترأس وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، ونظيرته اليونانية لينا مندوني، الاجتماع الأول للجنة الثقافة المنبثقة من «مجلس الشراكة الاستراتيجية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
يوميات الشرق عمل الفنانة السعودية تارا الدغيثر استند إلى أساطير سومرية (الشرق الأوسط)

«مفكرة أبريل»: 3 أيام من الإنصات العميق لما تخفيه الذاكرة وتبوح به الأصوات

لا ترى «مفكرة أبريل» في بينالي الشارقة نقطة وصول، وإنما سبيل يتشعَّب إلى طرق وأساليب تُواصل التشكُّل والتطوُّر حتى بعد انتهاء الفعالية...

فاطمة عبد الله (الشارقة)
يوميات الشرق إعادة الإضاءة على الأعمال التي صنعت الذاكرة الثقافية العربية (صور مايا الحاج)

«عشرون»: في مواجهة الذاكرة المُهدَّدة والفراغ المُعلَّب

يَعبُر «عشرون» من مجرّد برنامج عن ترتيب الأعمال، إلى مشروع في قلب المعركة الثقافية. وهي معركة لا تُخاض بالسلاح، وإنما بالكلمة والذاكرة والاختيار.

فاطمة عبد الله (بيروت)

بين ديناميت نوبل ولآلئ العويس

سلطان العويس
سلطان العويس
TT
20

بين ديناميت نوبل ولآلئ العويس

سلطان العويس
سلطان العويس

حينما يرد اسم أيّ جائزة تكريمية في العلوم والآداب والفنون والاجتماع، دائماً ما يحضر اسم السويدي ألفريد نوبل وجائزته العالمية لـ«السلام»! وقد أوصى قبل وفاته بإنشائها سنة 1890 «تكفيراً» عن صناعة المتفجرات التي ورثها عن أبيه وأسرته، ففي سن الرابعة والعشرين، شرع في العديد من المشروعات التجارية مع عائلته، أبرزها امتلاك شركة «بوفورس»، وهي شركة لإنتاج الحديد والصلب، التي طوّرها لتصبح شركة رئيسية لتصنيع المدافع والأسلحة الأخرى. وكان استخدام اختراعه الديناميت أحد أسباب الدمار البشري في حرب القرم، وغيرها من حروب لاحقة في أوروبا.

كان نوبل قد انتقل مع أسرته، قبل اندلاعها، من استوكهولم إلى سانت بطرسبرغ في روسيا القيصرية، منتصف القرن التاسع عشر، وقد تفوّق في دراسة العلوم، خصوصاً الكيمياء، وإتقان اللغات.

ويؤرّخ بعض كُتّاب سيرته أن وفاة شقيقه لودفيغ في باريس، كأنها تسببت خطأً في نشر العديد من الصحف نعياً لألفريد نفسه، فأدانته بعض الصحف الفرنسية لاختراعه الديناميت، فوصفته بـ«تاجر الموت»، مما كان له الأثر في وصمه بتاجر حروب. فهل كان ذلك مدعاة إلى قراره العمل على أن يتحلّى بسمعة حسنة بعد وفاته؟ وهو ما دفعه إلى التبرع بأغلب ثروته بعد وفاته لتأسيس جائزة تحمل اسمه.

بينما سلطان العويس، المولود بعد نوبل بقرابة ربع قرن سنة 1924، وافق أن تحمل جائزته الثقافية اسمه كاملاً، بعد ضغط من أصدقائه ومحبيه. وهو في سيرته، على النقيض من نوبل، حيث وُلد في أسرة تمثّلت فيها قيم الإحسان والتكافل الاجتماعي والتربية والمعرفة والشعر، ممتهنة العمل في البحر بالغوص على اللؤلؤ في أعماق الخليج العربي، حيث بدأ العمل مع والده «الطواش» وهو بين نهاية الصبا ومطالع الشباب، ماخراً البحر إلى «هيرات»، أي مغاصات اللؤلؤ يستلمها بدل أبيه.

وفي العشرين من عمره، ركب البحر بأهواله المرعبة وتقلباته العاصفة إلى الهند، التي كان مهراجاتها يتطلّعون إلى الحصول على لآلئ الخليج العربي ومنتوجات نخيله ومزارعه. وفي الهند تجلّت صدمة سلطان الحضارية، حين كانت محتلة من قبل بريطانيا، منبهراً بمآثرها الحضارية، وتخطيطها العمراني بشوارعها المضاءة ومدارسها الحديثة، متفاعلاً مع حياتها المدنية وحراكها الوطني ولغاتها المختلفة.

في حيدر آباد، انضم سلطان إلى مجتمعها التجاري العربي، ممن كان أفراده يمكثون فيها وقتاً طويلاً لإدارة شؤونهم المعيشية وأعمالهم الاقتصادية. ومحافظةً على هويتهم القومية، أنشأوا فيها مطبعة عربية، صدرت منها كتب وصحف، تأثّر بها الكاتب والسياسي المصري حافظ وهبة، والشاعر السعودي الكويتي خالد الفرج، قبل سلطان العويس، وغيرهم ممن ارتاد الهند وقتذاك.

هذه الصدمة الحضارية كانت إيجابيةً لدى صاحب هذه الجائزة، الذي يصرّ في أحاديثه لمن قابله وكتب سيرته، أن جائزته وُلدت في حيدر آباد، حينما قرر أن ينشئ في مسقط رأسه قرية الحيرة، الواقعة بين الشارقة وعجمان، مدرسة يتلقى فيها أبناؤها وسائل التربية والتعليم. فبدأها بـ20 طالباً، تمكّن من إقناع أهاليهم بالانضمام إلى فصولها الابتدائية، عبر تعهّده بمساعدتهم مالياً ومعيشياً، وهو ينتزع أبناءهم من العمل في البحر وتربية الماشية في البر، إلى أتون مبادرته الجريئة... وهكذا سارت تجربة سلطان العويس في نقل أبناء قريته إلى آفاق التعليم الحديث، بإنشاء مدرسة أخرى في الشارقة بمئات الطلبة، موفّراً لهم اللوازم المدرسية، ومستقدماً إليها المعلمين من المملكة العربية السعودية والبحرين والكويت، والعراق فيما بعد، رغم امتناع نوري السعيد، رئيس وزرائه الخانع لعلاقة بلده مع بريطانيا المستعمرة.

لم يقف طموح العويس عند هذا الحد، بل إنه، مع توسع ثروته في تجارة اللؤلؤ وغيرها من أعمال، راح يبتعث بعض طلاب وطنه إلى جامعات القاهرة وبيروت، مع بناء الجسور، وإقامة معاهد مهنية، ومساعدات لجامعات داخل الإمارات وخارجها في دول خليجية وعربية، يحدوه في ذلك إيمان ديني مستنير، ونَفَس قومي صادق.

هذا الاهتمام الواعي بقيمة العلم وأثر المعرفة في تطور المجتمعات العربية لم يأتِ عفو الخاطر، وإنما جاء بسبب انتمائه إلى أسرة تعاطى بعض أبنائها الأدب والشعر، حيث كان الكتاب والمجلة والصحيفة تأتيهم - وقتذاك - من القاهرة وبيروت من وراء البحار، مستغرقاً وصولها إليهم شهوراً عدداً.

كما أن هذا العامل الثقافي هو الذي حفّز في سلطان العويس السفر مبكراً إلى بعض دول الشرق العربي... وربما بسبب قراءاته لأدبائهم وتأثره بشعرائهم، أصبح يكتب الشعر بلغة بسيطة، متحرّرة من أثقال الألفاظ البلاغية والصور النمطية في الشعر العمودي، متمحورة قصائده حول الغزل والوصف والحكمة والتغني بالوطن، واعياً كل الوعي بدور رجال المال والأعمال في خدمة المجتمع، والمساهمة في نشر الثقافة، مبادراً إلى بناء برج من أربعة أدوار يضم مكتبة ومسرحاً وصالات معارض للفنون بخدماته الإدارية، داعماً هذا الصرح الثقافي ببرج تجاري من تسعة طوابق، مخصص لاستثمار عوائده المالية في تمويل المشروعات الثقافية والخيرية.

وكأنه، بمبادرته الرائدة في تعليم أبناء قريته، ودعم المشروعات الثقافية والجامعية والتنموية داخل وطنه وخارجه، قد لمس التبخيس المُخِلّ لقيمة الثقافة والمعرفة والإبداع، وعدم تمكينها في العالم العربي، بوصفها العامل المؤثر في نهضة المجتمعات ووعي الشعوب. تقابلها صورة نقيضة في مجتمعات أميركا وأوروبا، كشف عنها تقرير نشرته شركة «ويلث إكس» سنة 2018، عن تتبّع رؤوس الأموال في العالم، في تبرعات الخيّرين من الأثرياء الذين تبلغ ثروة الواحد منهم 30 مليون دولار، إذ منحوا - وقتها - نحو 153 مليار دولار للأعمال الخيرية في العالم. ويؤكد التقرير أن ما قدّمه هؤلاء الأثرياء يعادل إجمالي إنفاق الحكومة الفيدرالية الأميركية على الرعاية الصحية والتعليم والطاقة، بينما لم يتجاوز ما قدّمه أثرياء منطقة الشرق الأوسط، بما فيهم أثرياء العالم العربي، 5 في المائة من إجمالي تبرعات الأثرياء في العالم! مكدّسين ثرواتهم دون جني أي طائل معنوي، أو ربح رمزي، أو احترام اجتماعي يخلّد ذكراهم.

من هنا، تكمن أهمية ما قدّمه عبد العزيز البابطين من دعم للتعليم والثقافة والإبداع الشعري، وكذلك بعض من أثرياء العرب الخيّرين، أمثال رجل الأعمال السعودي عبد المقصود خوجة، والكويتية الدكتورة سعاد الصباح، والفلسطيني عبد المحسن القطان، والفلسطيني الآخر عبد الحميد شومان، عبر مجالسهم، ومطبوعاتهم الثقافية، وجوائزهم العلمية والأدبية.

هؤلاء هم من أصبح يشملهم مصطلح «رأس المال الثقافي»، وقد صكّه بيير بورديو، عالم الاجتماع والمنظّر الثقافي الفرنسي، على أنه «رأسمال رمزي» يحصل عليه الأفراد والنخب الثقافية أو المؤسسات. وهذا الرأسمال الرمزي أو الثقافي هو مجموع القدرات والمواهب المتميّزة للحائزين عليه من الأثرياء، بتفوقهم وحضورهم، إضافة إلى ما يحصلون عليه من مكاسب مادية. وبذلك، يحظون بالمكانة الاجتماعية داخل الحقل الثقافي، وبهذا يحصلون على رأسمال اجتماعي، يتمثل في مدى تأثير الثري المحسن في المجال العام، وهو بهذا يحصل في نهاية المطاف على رأسمال رمزي، من شهادات وأوسمة وألقاب، نظير ما اقتطعه من رأسماله المادي في دعم المشروعات التنموية المختلفة. يقول بيير بورديو في آخر فصل من كتيّبه «الرمز والسلطة» المعنون بـ«الرأسمال الرمزي والطبقات الاجتماعية»: «أن تكون نبيلاً معناه أن تُبذِر، محكومٌ عليك بالرفاه والبذخ، وقد احتدّ الميل إلى التبذير رداً على الارتقاء الاجتماعي للأثرياء الجدد... في قرون مضت، فما الذي يميّز الفارس الأصيل عن حديث النعمة؟ ذلك أن الثاني بخيل، أما الأول فهو نبيل؛ لأنه يصرف كل ما لديه بكامل الانشراح، وإن كان مثقلاً بالديون».

هل لهذا، تبدّى سلطان العويس فارساً شهماً نبيلاً أمام من أحبّها، وهو يقول:

إِلَيْكِ مَالِي فَمَا مَالِي سِوَى وَرَقٍ

لَنْ يُؤَثِّرَ الْمَالُ قَلْباً قَدْ سَكَنْتِيهِ

لِي مِنْ عُيُونِكِ أَمْوَالٌ أُكَدِّسُهَا

وَمِنْ حَدِيثِكِ دُرٌّ لَسْتُ أُحْصِيهِ

بهذه الروحية، انطلقت جائزة سلطان العويس الثقافية عبر اتحاد الكتّاب والأدباء في دولة الإمارات العربية المتحدة سنة 1987 بأمانتها العامة، مستقلةً بمؤسستها الثقافية، كما أوصى نوبل قبل ذلك بقرن من الزمان، بأن يكون النادي السويدي النرويجي منطلقاً لجائزته، مكرّساً الجزء الأكبر من ثروته لقيام جائزة نوبل التي أصبحت عالمياً ملء السمع والبصر... غير أن ما تفوّقت عليه جائزة هذا العربي الخليجي، هذا البدوي البحّار، هو معيارها الأكاديمي الموضوعي في اختيار الفائزين دون «أدلجة» أو انحياز... وهو ما اعتادت عليه جائزة نوبل، التي لم يفز بها أحد من العرب - مثلاً - سوى الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ، الذي كان يستحقها، بغير وصول ضوء موافقة ممن اهتم بأدبه (سان سوميخ اليهودي العراقي)، إثر دعوة محفوظ المبكرة إلى التطبيع الثقافي مع إسرائيل.

هذه الأدلجة السياسية وخلفيتها (الديناميتية) هي التي جعلت بعض من فاز بجائزة نوبل يرفضون استلامها، ومن أبرزهم جورج برنارد شو، الأديب والروائي الآيرلندي، وذلك سنة 1925، محطّاً من قدرها وساخراً من سيرة نوبل، وكذلك الفيلسوف والأديب الفرنسي جان بول سارتر.

وكان فوز السياسي الفيتنامي لي دوك تو، أوائل السبعينات، مناصفة مع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي، محل استياء داخل لجنة اختيار الفائزين بها، ضد منحها عرّاب التفاوض لإخراج واشنطن من مأزق حربها المذلّة في فيتنام، حيث كرت السبحة فيما بعد، لتكريم الإسرائيلي مناحيم بيغن، سفّاح دير ياسين، وغيره من السياسيين الغربيين الذين خدموا المشروعات الاستعمارية.

لذلك، تأتي جائزة سلطان العويس، منذ بدأت سنة 1990 حتى يومنا هذا، وكأنها ردٌّ عربي ساطع و«قوة ناعمة» على مخرجات جائزة نوبل المنحازة، وقد منحت لأبرز المفكرين والأدباء والشعراء العرب، ممن تبنّى قضايا الأمة والإنسانية والحق والعدل والسلام، متمنياً لو أن جائزة العويس فتحت الباب لبعض الكتّاب العالميين ممن نصَر العرب والمسلمين وساند قضاياهم.