المكان: استوديوهات الإذاعة اللبنانية في بيروت
الزمان: أحد أيام عام 1949
الشخصيات: عاصي الرحباني، حليم الرومي، نهاد حداد
المشهد: حليم يعرّف عاصي على نهاد
بدأت الأيام تمرّ رتيبة متشابهة على عاصي الرحباني. يوزّعها ما بين الخدمة في الشرطة، والتأليف الموسيقي وعزف الكمان في الإذاعة. إلى أن أتى ذلك اليوم الذي اكتمل فيه القدَر الرحباني العظيم.
لم يعلم الموسيقار حليم الرومي أنه، وفي تلك اللحظة من سنة 1949، كان يقدّم لعاصي هديّة العمر. صبيّة في الـ16 تُدعى نهاد حداد تؤدّي الأناشيد ضمن «فرقة فليفل» في الإذاعة اللبنانية. «أنصحك بها للغناء المنفرد»، يقول حليم لعاصي الذي سارع إلى تبنّي ذاك الصوت الفريد.
سمّاها الرومي «فيروز»، أما عاصي فسمّاها الملكة. قدّم لها مفاتيح القلعة الرحبانيّة، فصارت هي الزاد الذي يتضاعف به الخير والإبداع والحلم. ومنذ الأغنية الأولى «حبّذا يا غروب»، لم يغرب صوت فيروز يوماً عن أيام اللبنانيين والعرب.
سكب الأخوان رحباني عبقريّتهما في صوت فيروز المطواع، وهي كانت كثيرة الاجتهاد باعتراف عاصي. تقول في أحد أحاديثها النادرة إنّ «عاصي كان سريع العطاء و(هي) سريعة التلقّي». تذكر بداياتٍ صعبة تعرّضت خلالها أعمالهم للهجوم: «لم نكن محبوبين لكن الوضع لم يَطُل. لم نهتم كثيراً بما يقال رغم قسوته... مشينا وكمّلنا الطريق».
أتت أغنية «عتاب» لتشكّل أولى محطات التحوّل في رحلة الأخوين وفيروز. أحبّها المستمعون كما أحبوا البرامج الإذاعية التي انكبّ عاصي ومنصور على إنتاجها، والشخصيات التي اخترعاها مثل «سبع ومخّول».
«لمّا بلّشنا عاصي وأنا، كنا اثنين عم نتهدّى ببعض حتى نوقف بوجه الشمس والأعاصير الاجتماعية والفكرية»، يقول منصور الرحباني الذي فتح وشقيقه، الصدر والفكر والآذان واسعة أمام «شبابيك الحضارة» وكل الموجات والأنماط الموسيقية.
مضت السنوات الأولى على نغمات «يا غزيّل»، و«مشق الزعرورة»، و«بَعدَنا»... وصوت فيروز الذي يكبر ويتّسع ويحلو أغنية تلو الأغنية.
«وجد الأخوان في فيروز مُلهِمَتَهما»، يقول أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط». ما زال رغم مرور السنوات، ينظر بدهشة إلى ما حقّقه الثلاثي الرحباني: «أفرح أنّ هؤلاء الثلاثة التقوا وصنعوا تلك الأسطورة».
سيّدة «غير شكل» دخلت البيت الرحباني
في فيروز، وجد عاصي رفيقة الدرب فتزوّجا سنة 1955، صارت رسمياً ابنة البيت الرحباني واحتضنتها أم عاصي بطيبة وبَصيرة. تتذكّر إلهام الرحباني، قول والدتها: «هذه المرأة (غير شكل). هي موهبة عظيمة وسيّدة عاملة. على جميع مَن في البيت التعامل معها بهدوء وعدم إزعاجها».
وتضيف إلهام في حديثها لـ«الشرق الأوسط» أنّ «فيروز كانت وما زالت أمراً مُنزَلاً بالنسبة إلينا. قدّرنا ظروفها وظروف أخوَينا التي فرضها العمل».
لدى سؤالها عمّا إذا تسبب وهجُ فيروز بغيرة فتيات العائلة، تجيب إلهام الرحباني: «لقد أغرقَنا عاصي ومنصور بعاطفتهما فلم نشعر يوماً بأننا مغيّبات. غنّينا ورقصنا على مسرحهما وساعدناهما قدر الإمكان، لكن في النهاية نحن واقعيّات؛ هما وفيروز أصحاب الموهبة ولسنا نحن».
أنجب عاصي وفيروز أغنياتٍ كثيرة وأربعة أولاد: زياد، وهَلي، وليال، وريما. وبين الأمومة والمجد، مشت فيروز درباً لم تكن مقمرة ولا مطرّزة بالورد دائماً، فالعمل مع عاصي كان صعباً. تقول في وثائقي «كانت حكاية» من إخراج ابنتها ريما الرحباني، إنّ «عاصي كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً وصعب الإرضاء في العمل... كانت لديه سُلطة رهيبة والكل يخافه». ورغم سطوته تلك، كان مذهولاً بصوت فيروز وهي مذهولة «بصوَره ومطارحه. دخلت إليها وما استطاعت الخروج منها. صارت هي عالمها».
لم يعرف الأخوان الراحة يوماً. بين الأغاني، والبرامج الإذاعية، والمسرحيات، والمهرجانات، والأسفار، والأفلام، لم يجِدا موعداً لإجازة أو استجمام. كانا دائمَي العمل والقلق. حتى طاولة الطعام في منزل الوالدة حوّلاها إلى خشبة يصبّان فوقها أفكارهما ونغماتهما. «كانت أم عاصي قديرة. فتحت البيت لهما ولأصدقائهما من أدباء وموسيقيين»، تخبر إلهام الرحباني «الشرق الأوسط».
لاحقاً، انتقلت «الشلّة الرحبانيّة» مع عاصي ومنصور إلى شارع بدارو في بيروت، حيث مكتبهما الذي شهد على ولادة أهم الأعمال، وعلى نقاشاتٍ فكرية وفنية كانت تبدأ صباحاً ولا تنتهي قبل هبوط الليل.
يقف أسامة الرحباني مذهولاً أمام إنتاج عمّه ووالده الغزير مع فيروز: «عندما أحاول إحصاء كل أعمالهما وفيروز، والسرعة التي كانوا ينجزون بها، أصاب بالدهشة. كانا ينزلان إلى المكتب عند الـ8 صباحاً ولا يعودان قبل الـ8.30 مساءً، هذا إن لم يكن لديهما تسجيل في الاستديو ليلاً». وبين الفكرة والنغمة، وبين نصٍ مسرحي وقصيدة غنائية، موعدٌ يومي مع الغداء، فيتحوّل المكتب إلى «مطعم الأخوين» وحول المائدة رفاق «الشلّة»: سعيد عقل، وجورج شحادة، وعبد الله الأخطل، ورفيق خوري، وجورج سكاف، وجورج إبراهيم الخوري، وغيرهم من أهل الأدب والفن والإعلام.
الرحابنة على موعدٍ مع الزمن الجميل
بين الـ1957 والـ1972، بدا الزمان الهانئ في لبنان متأهّباً لاحتضان الرحابنة وكانت الأرض خصبة لصناعة الفن. «كان المناخ في بداياتنا ملائماً لبروز ظاهرة الرحابنة وفيروز... الجوّ العام في حالة تعطّش للثقافة والأبواب الإنتاجيّة مفتوحة»، على حدّ قول منصور الرحباني.
يتذكّر الفنان جوزيف عازار في حوار مع «الشرق الأوسط» تلك المرحلة، مستحضراً شخصياتٍ ألبسَه إياها عاصي ومنصور: «في (جسر القمر) ضمن مهرجانات بعلبك، كنت صالح ابن مختار القاطع، ثم قدمت شخصية (هَولو) في (الليل والقنديل)»، أما الدور الذي ما زال يسكن الذاكرة الشعبية فهو راجح في فيلم «بياع الخواتم».
بتواضعٍ لا يحترفه سوى الكبار، يقول عازار: «دخل عاصي ومنصور التاريخ من الباب الواسع، ونحن دخلنا معهما من «الطاقة». كان لي شرف الانتماء إلى تلك المدرسة العظيمة، لا بل الجامعة التي تعلّمنا فيها النظام وشهدنا على العبقريّة». وعازار لم يعاصر الجيل الرحباني الأول وفيروز فحسب، بل كل النجوم الرحبانيين، كوديع الصافي، وصباح، ونصري شمس الدين، وأنطوان كرباج، وفيلمون وهبي، وإيلي شويري، وهدى، وجوزيف ناصيف، ووليم حسواني، وملحم بركات، وجورجيت صايغ...
بريشة من أجنحة البلابل والحساسين، رسمَ الرحابنة وطناً جبالُه من غيمٍ أزرق لا تطالُها أيادي الأعداء. زرعوا في مخيّلة اللبنانيين كروماً من اللؤلؤ وحقولاً تنبت فيها المحبّة. ليست تلك الصورة سوى انعكاسٍ لولَعِهم بلبنان. قال عاصي في حديث إذاعي مرّة: «ربينا في قرية بين الكروم والزارعين. تربطنا صِلات بالناس الطيّبين وببيوتهم. بلدنا جزء منّا وأرضه أمّنا الحقيقية».
امتدّت الحالة الرحبانيّة تلك إلى البلاد المجاورة، فغنّوا الأوطان العربية وشعوبها التي تبنّتهم وفتحت لهم مسارحها والقلوب. أما ذاك الوطن الرحباني «الزغيّر ووسع الدني»، فرفض الرحابنة أن يُلاموا على اختراعه. «حلمنا بوطن. وطننا حق وعدالة وخير وجمال. وطننا واقعي ويمكن أن يتحقق عندما يأتي ناس جيّدون إلى الحكم». حتى آخر أيامه، ظلّ منصور الرحباني يردّد تلك الفكرة.
من عز عطائه، سرق المرض عاصي عام 1972. ومن عز توهّجه، سرقت الحرب لبنان (1975). كما لو أنّ الحزن ضرب موعداً مزدوجاً مع البيتَين اللبناني والرحبانيّ. عاد عاصي من غيبوبته الموقّتة ليشاهد اللبنانَ الرحباني الأخضر يحترق وقمره يغيب خلف التلال.