بعد 41 عاماً من الغموض والتضارب، وضع «الحرس الثوري» حداً للروايات حول مصير القيادي أحمد متوسليان، أحد الإيرانيين الأربعة الذين اختفوا في بيروت يوليو (تموز) 1982، إذ استخدم قائد «الحرس الثوري» حسين سلامي وصف «الشهيد» خلال لقائه مع أسرة متوسليان السبت، في أول تأكيد على مقتل القيادي، الذي كثيراً ما تحدثت إيران عن أَسْره بيد الإسرائيليين.
ونقلت مواقع «الحرس» عن سلامي قوله إن «متوسليان أول شهيد إيراني في طريق فتح القدس»، وذلك في اعتراف نادر يتعارض مع رواية السلطات الإيرانية ببقاء الإيرانيين الأربعة على قيد الحياة في السجون الإسرائيلية.
وكان متوسليان قائد «فيلق 27»، أحد أبرز الوحدات الميدانية لـ«الحرس الثوري»، الذي خاض معارك شرسة ضد المعارضين الأكراد، قبل أن يكلف بالذهاب إلى بيروت لتدريب قوات «حزب الله» في أثناء الحرب الأهلية. وتشير المعلومات المتوافرة إلى أنه اختطف على حاجز البربارة على الساحل الشمالي للعاصمة اللبنانية، بينما كان يرافق القنصل الإيراني محسن موسوي، في جولة قبل العودة إلى طهران بعد أوامر من المرشد الأول (الخميني).
ويعد سلامي أبرز مسؤول إيراني يحدد مصير متوسليان، رغم أنه لم يقدم أي تفاصيل إضافية، بعد الروايات المتراكمة حول القيادي في «الحرس الثوري» ومرافقيه.
ومن بين المختطفين الأربعة كان مراسل الشؤون العسكرية لوكالة الأنباء الرسمية (إرنا)، كاظم إخوان، وكذلك مسؤول التدريب في «الحرس الثوري» تقي رستكار مقدم، وهو اليد اليمنى لمتوسليان خلال توليه منصب قيادة «الحرس الثوري» بمدينة مريوان الكردية غرب إيران، والذي تصفه إيران بأنه كان موظفاً رفيعاً في السفارة.
لغز كبير ومحور لحملات دبلوماسية
عرفت قضية اختطاف القيادي في «الحرس الثوري» ومرافقيه بقضية «الدبلوماسيين الأربعة»، وتحولت المطالب بالكشف عن مصيرهم إلى محور أنشطة السفارات الإيرانية في الخارج على مدى سنوات.
يذكر تقرير لقوى الأمن الداخلي اللبناني بتاريخ 4 يوليو 1982 أن «مسلحين حزبيين أوقفوا على حاجز البربارة المستشار الأول في سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان السيد محسن الموسوي، الذي كان عائداً من البقاع إلى بيروت، مع ثلاثة من موظفي السفارة، ترافقه قوة من جهاز أمن السفارات. المسلحون أطلقوا القوة المواكبة، واحتفظوا بالدبلوماسيين الأربعة، ونقلوهم إلى أحد المراكز الحزبية. والدبلوماسيون هم، إضافة إلى الموسوي، الملحق العسكري أحمد متوسليان، والمصور والمراسل الحربي كاظم إخوان، والسائق تقي رستكار».
وفي يوليو 2012، قدم سعيد قاسمي قائد «أنصار حزب الله»، من جماعات الضغط المحسوبة على «الحرس الثوري»، تفاصيل غير معروفة عن أوامر للمرشد الإيراني علي خامنئي عندما كان رئيساً للجمهورية، في يونيو (حزيران) 1981 لإرسال وحدتين من «الحرس الثوري» إلى لبنان في أثناء الحرب الأهلية، بهدف تدريب قوات «حزب الله».
تحول مصير الإيرانيين الأربعة إلى «لغز» كبير، مع تمسك السلطات الإيرانية برواية احتجازهم في السجون الإسرائيلية. وارتبطت أسماء هؤلاء بصفقات تبادل أسرى بين إيران أو «حزب الله» اللبناني مع الإسرائيليين خصوصاً الطيار رون أراد.
وطيلة هذه السنوات لم تصدر أي مؤشرات من الجانب الإسرائيلي بشأن صلاتهم المحتملة حول اختفاء القيادي في «الحرس» ومرافقيه.
عادةً ما تعود قضية متوسليان إلى الواجهة للأجندة الإعلامية لوزارة الخارجية الإيرانية، في يونيو كل عام مع حلول ذكرى اختفائه.
وفي نهاية مايو (أيار) 2016، أفاد وزير الدفاع الإيراني الأسبق، وهو مستشار عسكري للمرشد الإيراني، حسين دهقان، في تصريح للصحافيين بأن طهران حصلت على معلومات، تظهر أن متوسليان وثلاثة إيرانيين آخرين اختفوا في بيروت، ما زالوا على قيد الحياة. وحمّل دهقان إسرائيل مسؤولية سلامة الإيرانيين الأربعة، دون أن يتطرق للتفاصيل.
وفي يونيو من العام نفسه، قال رئيس لجنة الدفاع في البرلمان الإيراني، النائب إسماعيل كوثري، وهو قيادي في «الحرس الثوري»، إن المسؤولين الإيرانيين رفضوا قبل سنوات اقتراح من عماد مغنية، لصفقة تبادل بين مسؤول أميركي كان رهينته، ومتوسليان. وقال كوثري: «يجب أن نسأل المسؤولين الذين أداروا دفة الملف آنذاك: لماذا لم تتهيأ الأرضية المناسبة لصفقة التبادل بين إيران وإسرائيل لإطلاق سراح الدبلوماسيين الأربعة؟».
وقبل كوثري بأيام، كان أمير متوسليان، الشقيق الأصغر لأحمد متوسليان، قد قال في مقابلة مع وكالة «ميزان» التابعة للقضاء الإيراني إن «صفقة التبادل بين إيران وإسرائيل لإطلاق سراح أخيه بموجبها، كانت في الخطوات النهائية قبل أن تتراجع إيران»، وقال إنه يجهل أسباب أسر أخيه على مدى سنوات.
ووفق رواية شقيق متوسليان فإن عماد مغنية قد أبلغ الإيرانيين أن بحوزته رجلاً يمكن أن تجري إيران صفقة تبادل لإعادة القيادي في «الحرس» ومرافقيه، لافتاً إلى أن الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد كان قد أرسل سيارة «بنز» إلى مغنية لتسهل تنقل متوسليان بين النقاط العسكرية.
وأوضح أمير متوسليان في المقابلة نفسها أن مغنية نقل الدبلوماسي الأميركي الرهينة إلى معسكر الزبداني لإتمام صفقة التبادل مع أحمد متوسليان، قبل أن ترد طهران سلباً على المقترح. وقال: «بعد رفض المقترح، قام (حزب الله) بصفقة تبادل مع الأميركيين، أطلق بموجبها سراح 25 من أعضائه، وبقي أحمد متوسليان».
ضرس مسوّس
وفي سبتمبر (أيلول) 2020، مع تضارب الأنباء في وسائل الإعلام الإيرانية، حول وجود جثة متوسليان في طهران، وتقارير عن فحص الحمض النووي، بثت قناة «بي بي سي» الفارسية، تقريراً وثائقياً تحت عنوان «الانقلاب الزاحف»، ويسلط الضوء على خلافات قادة «الحرس الثوري»، خصوصاً بين قادة مقربين من متوسليان ومنافسيهم على المراكز القيادية في «الحرس». اقتبس الوثائقي اسمه من مصطلح كان يستخدمه القادة الميدانيون في «الحرس» لوقف القادة الذين يحاولون إحكام قبضتهم على المراكز القيادية بواسطة الأنشطة الأمنية والسياسية. ويروي الوثائقي على وجه خاص جلسة تخللها تراشق بالاتهامات، وانتقادات متبادلة بين قادة المجموعتين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1984.
ويعزز الوثائقي التقارير التي طرحت فرضية إرسال متوسليان إلى لبنان، رغم شدة المعارك بين إيران والعراق، بسبب معارضته إدارة الحرب مع كبار قادة «الحرس الثوري»، على رأسهم القائد السابق محسن رضائي.
ورداً على الوثائقي، أقدمت وكالة «تسنيم» التابعة لـ«الحرس الثوري» على ما وصفته بـ«التسجيل الصوتي الكامل» لتلك الجلسة. لكن وثائقياً بثته «بي بي سي» الفارسية في يونيو 2022، كشف عن نقاط «جوهرية» حذفت من تسجيل وكالة «الحرس الثوري»، وتتعلق باختفاء ومصير القيادي متوسليان.
ومن بين الأجزاء المحذوفة، جزء يعود إلى تصريحات قائد غرفة عمليات «الحرس الثوري» حسن بهمني، الذي يشير فيه إلى تصريحات علي شمخاني، نائب قائد «الحرس الثوري» حينذاك، وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي حالياً.
وفي الشهادة التي وردت في التسجيل الصوتي، يصف بهمني قائده متوسليان بأنه القائد الميداني الأكثر براعة بين قادة «الحرس»، عندما أرسل إلى لبنان، ويعرب عن انزعاجه من قول شمخاني: «كان (متوسليان) ضرساً مسوساً وتم خلعه».