«حروف من نور ـ سطور نكتبها»... تأملات في الخيال والاختلاف

في عمل الفنان السعودي مهند شونو ضمن بينالي الفنون الإسلامية بجدة

ثنائية الضوء والظلام في «حروف من نور، سطور نكتبها» لمهند شونو (الشرق الأوسط)
ثنائية الضوء والظلام في «حروف من نور، سطور نكتبها» لمهند شونو (الشرق الأوسط)
TT

«حروف من نور ـ سطور نكتبها»... تأملات في الخيال والاختلاف

ثنائية الضوء والظلام في «حروف من نور، سطور نكتبها» لمهند شونو (الشرق الأوسط)
ثنائية الضوء والظلام في «حروف من نور، سطور نكتبها» لمهند شونو (الشرق الأوسط)

للفنان السعودي مهند شونو ولع باللون الأسود وبالخط وأيضاً بالأعمال الضخمة التي تواجه الناظر بكل قوتها ودلالاتها، لتسحبه إلى عوالم يلعب فيها الخيال دورا كبيرا يدفع الزائر نحو التفكير في أساسيات الحياة. ولا أدل على ذلك من عمله الهائل الذي مثل السعودية في بينالي فينيسيا للفنون والذي أطلق عليه اسم «منطق الشجر». يغزل شونو أعماله من العنصر الواحد المتفرد ليضمه لعناصر مشابهة، تتكاثر وتتشعب لتكون عملا ضخما يحتوي الناظر ويدخله لعالم من صنع الفنان يتفاعل مع أفكاره ليعيش فيه تجربة حسية متفردة يتناغم فيها الضوء والظلام والأبيض والأسود.

من عمل مهند شونو في بينالي الفنون الإسلامية بجدة (الشرق الأوسط)

قدم شونو عملا متفردا في بينالي الفنون الإسلامية بجدة، تحت عنوان «حروف من نور، سطور نكتبها» امتد على قاعتين منفصلتين. بداية، يجب القول بأن العمل مبهر بصريا وجاذب للزائر بشكل كبير، وبحكم تشكيلاته الهندسية المحكمة والمتنوعة تحول لمادة خصبة للتصوير ومصدر للقطات منوعة على موقع إنستغرام.

الفنان مهند شونو (الفنان)

يأخذني الفنان في جولة على عمله ويتحدث حول المضمون الذي يحرص على نقله للناظر. نخطو داخل الغرفة الأولى، ظلام دامس يغلف خطواتنا ولكن بصرنا يتعلق بذلك الضوء الباهر المنبعث من مستطيل مضيء، يشع الضوء ليشد البصر والأحاسيس، يتوهج في الظلمة ويصبح هو الأساس، من ذلك الكيان الوحيد تنبثق المئات من الخيوط المضيئة أيضاً تتشكل وتمتد لتصبح مثل الخيمة التي تنفرج أطرافها لتدعو الناظر لداخلها. الكتلة المضيئة لها ما يقابلها في الغرفة المجاورة ولكننا نظل هنا مع شونو الذي يتحدث عن مدلولاتها. تحت الخيمة المضيئة نسمع همهمات متناغمة ومستمرة، أسأله عن نوع الموسيقى ويشير: «هي نغمات بالصوت فقط لفنان بريطاني من أصل صومالي يدعى فيصل أو «صول فيس» بحسب اسمه الفني، عملت معه لوضع الخلفية الصوتية لعملي المشارك في احتفالية (نور الرياض) أعماله تدور دائما حول الروح والروحانية، همهماته تبعث الحياة في المعاني المستترة».

خيوط الضوء تمتد لتكون أشكالا هندسية مختلفة (الشرق الأوسط)

إشارته إلى عمله في «نور الرياض» تذكرنا بأن العمل هنا هو امتداد لعمله هناك، استخدم الخيوط والضوء لعرض فكرته في عمله في (نور الرياض)، الخيوط التي تنتظم سويا وتمتد وتسري لتخلق لنفسها حياة خارج السيطرة وخارج الإطار. بشكل ما يتماثل عمله في البينالي مع عمله السابق في نور الرياض، أسأله عن الخيوط المضيئة وعن تركيبها، يقول إنها «مصنوعة يدويا وكل منها معقود بشكل منفرد». أعلق بأن العمل على تكوين هذا الكيان الهائل من الخيوط والضياء من المؤكد أنه استغرق جهدا ووقتا كبيرين، يوافقني ويضيف «بالفعل، في الحقيقة أنا بصدد عمل فيلم وثائقي حول عملية صنع العمل».

من عمل مهند شونو في «نور الرياض» (رياض آرت)

هنا الوحدانية هي الأساس وفي الغرفة التالية المجموع وكيف يشكل المجموع التجربة المنفردة، المعنى فلسفي ويحمل خلفه الكثير، كيف يتفاعل الإنسان مع التجربة الروحية وكيف تشكلها بعد ذلك روح الجماعة.
ما الذي أراد الفنان تحقيقه في هذا العمل المشارك في أول بينالي للفنون الإسلامية في العالم؟ يقول: «أتحدث بشكل مفاهيمي عن مفهوم الروحانية، وعن مفهوم الفرد للإيمان. أعتقد أنه من المهم أن نبحث عن الضوء الحاني أو اللين، الضوء مثل الخطاب الجماعي، كان حادا بشكل كبير في الماضي، أرى أننا ينبغي علينا الدخول لمنطقة بها بعض الغموض تتسم بالمرونة والتفهم».

من عمل مهند شونو في «نور الرياض» (رياض آرت)

تتنوع الإضاءة ما بين القوي الصريح وما بين الخافت الهادئ: «اخترت عنوانا أوليا للعمل (نحو ضوء ألطف)، يمر بنا العمل من الضوء الساطع ليأخذنا نحو مناطق تزداد فيها الظلال ثم نحو الظلام لتخرجنا مرة أخرى نحو ضياء أقل حدة».
في الغرفة التالية تنتظم خيوط الضوء لتشكل محطات منفصلة ولكنها مرتبطة، تبدو منظمة ومرتبة تعتمد على التكرار يشير إلى أن العمل يتحدث عن العلاقة بين مفهوم الجماعة والفرد وكيف يؤثر الفرد على الجماعة. «هذه الغرفة تتناول الطقوس وتتساءل عن الضوء ومصدره. من يحدد درجة حدة الضوء؟ هل المشاهد له القدرة على الاختيار في رؤيته للعمل أن يتحول ببصره للمناطق الأخفت ضوءا؟» يجيب قائلا «بالتأكيد الأمر متروك للمشاهد، هذا ما أردت التعبير عنه في العمل، لرؤية الضوء لا بد من تمييز الظلام، المفارقة بين الأبيض والأسود بين الضوء والظلمة هي ما تصنع التجربة الجماعية لنا جميعا».
تبدو الخيوط المضيئة بمثابة إيماءة لموضوع أثير لدى شونو وهو الخط الوحيد، طالما مثل الخط الأسود البدايات لأعمال شونو، مثل له الخط معضلة «من يكتب هذه الخطوط؟»
يشير إلى التشكيلات المتماثلة في الحجرة الثانية قائلا «يمكننا النظر لها كمحطات للتعلم».
أسأله عن افتتانه الدائم بثنائية الأبيض والأسود، الضوء والظلام، يقول «الأسود يطغى في أعمالي، أرى فيه رد فعل على رقابة الماضي، عندما كان اللون الأسود يستخدم لحجب الصور وحجب الكلمات. لم يمنعني الأسود في ذلك الوقت من الفهم ولكنه أشعل خيالي حيث قام عقلي بتخيل الاحتمالات ما خلف السواد، وبمعنى ما كانت تلك الخيالات بمثابة استعادة حق فيما حملته الخطوط تحت اللون الأسود. هذا الخط المحمل بالحبر الأسود الذي كان يستخدم لقطع رأس الصورة والرسمة ولإخفاء الكلمة والوصف. أعيد هنا امتلاك ذلك الخط لخلق عوالم خيالية ولدفع المشاهد للتفكير».
الغرفة الثانية لها أوجه عدة «نرى فيها الأشياء من أكثر من منظور. الأعمال بها متفردة في ذاتها ولكنها أيضاً تحمل روح الجماعة». تبدو أيضاً دقيقة وهندسية، أعلق ويجيب: «فعلا ولكن أيضاً هي جامدة وثابتة، ورغم أنها مصنوعة بنفس المواد إلا أنها محددة جدا ومحسوبة، كل عنصر في مكانه».
يشير أيضاً إلى أن الأشكال المتتالية أمامنا تعكس عامل التكرار «نحن مسحورون بالتكرار، بعد الأشياء وترقيمها وهو ما يبعدنا عن الأصل، عن الخط الواحد. فلا يوجد هنا مجال للاختلاف الفردي، يجب أن تنتظم في الخط لجانب الخطوط الأخرى... لا مكان للخيال هنا».
الخيال والإبداع لدى شونو لهما مراتب عالية يرى فيهما الملجأ من قسوة العالم «عندما يصبح الواقع حولنا مبهماً وعصياً على الفهم مثل الكابوس، فليس أمامنا سوى التراجع داخل مخيلتنا، وخلق عوالم وأشخاص لتصبح هي ملجأنا». لا تظل المخيلة الإنسانية مقيدة طويلاً، فمن طبائعها التسرب لتغير العالم، «أرى أنه من الخطر أن نحاول تقييد الخيال أو تحجيمه». ويرى أن العواقب تتمثل في «تكلس العقل والخيال، فمن المهم أن نحافظ على تدفق الخيال وسيولته».


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

الأجنَّة تتحكَّم في الأمهات بـ«الريموت كونترول»

امتهانُ التحكُّم من اللحظة الأولى (غيتي)
امتهانُ التحكُّم من اللحظة الأولى (غيتي)
TT

الأجنَّة تتحكَّم في الأمهات بـ«الريموت كونترول»

امتهانُ التحكُّم من اللحظة الأولى (غيتي)
امتهانُ التحكُّم من اللحظة الأولى (غيتي)

كشف فريق من الباحثين في جامعة كامبريدج البريطانية النقاب عن آلية مدهشة يستطيع الجنين من خلالها التحكُّم في طبيعة المغذّيات التي يحصل عليها من الأم خلال فترة الحمل اعتماداً على جين معيَّن ينتقل إليه عن طريق الأب.

وفي إطار دراسة نشرتها الدورية العلمية «سِلْ ميتابوليزم» المتخصِّصة في بحوث الأيض الخليوي التي تتعلّق بعملية تحويل الغذاء إلى طاقة داخل جسم الإنسان، ونقلتها «وكالة الأنباء الألمانية»، وجد الباحثون أنّ الأجنَّة تستخدم هذا الجين للتأثير في جسم الأم من أجل الحصول على مزيد من المغذّيات خلال أشهر الحمل. ويوضح الباحثون أنّ هذه الآلية التي تشبه التحكُّم عن بُعد بـ«الريموت كونترول»، تعمل عن طريق إشارات هرمونية تنتقل من الجنين إلى الأم عبر المشيمة من أجل تغيير عملية الأيض لديها، وتوفير أفضل فرص النمو بالنسبة إلى الجنين. ويرى الفريق البحثي أنّ هذه الآلية التي يصفونها بأنها «معركة من أجل الغذاء» تتم وفق توازن دقيق نظراً لانطوائها على أهمية بالغة، ليس فقط من أجل نمو الجنين، وإنما أيضاً لسلامة الأم وصحتها الإنجابية في المستقبل.

ويؤكد الباحثون أنه في إطار هذه المعركة، يحاول الجنين التحكّم بـ«الريموت كونترول» في عملية الأيض لدى الأم للحصول على أقصى استفادة، في حين يحاول جسم الأم إحداث نوع من التوازن بين حاجاته من جهة، وتلبية متطلّبات النمو لدى الجنين من جهة أخرى؛ لذلك من الضروري أن تحصل الأم خلال الحمل على كميات كافية من الغلوكوز والدهون لتلبية حاجاتها للطاقة والحفاظ على استدامة الحمل، ثم الرضاعة لاحقاً، مع تعزيز فرصها في الإنجاب مرة أخرى.

ويوضحون أنّ المشيمة، وهي عضو يتكوَّن داخل الرحم ويربط بين الأم والجنين طوال فترة الحمل، ويحصل الجنين من خلالها على الغذاء والأكسجين اللازم للبقاء على قيد الحياة والنمو، تلعب دوراً رئيساً في هذه العملية البيولوجية؛ إذ تفرز هرمونات معيّنة للتواصل مع جسم الأم من أجل إعطاء الأولوية لنمو الجنين. وقد نجحوا خلال تجارب معملية في تعطيل الإشارة التي تنتقل عبر المشيمة لدى فئران تجارب للتحكُّم في طبيعة المغذّيات التي تنتقل من الأم إلى الجنين.

وتقول اختصاصية علوم الأجنَّة، الباحثة أماندا بيري، إنّ هذا البحث هو «أول دليل مباشر يثبت أنّ الجين الذي يحصل عليه الجنين من الأب يعطي إشارات للأم من أجل الحصول على المغذّيات التي يحتاج إليها». ويضيف أستاذ علوم الأيض الغذائي من معهد ويلكام إم أر سي البحثي التابع لجامعة كامبريدج، ميغيل كونستانسيا، في تصريح للموقع الإلكتروني «سايتيك ديلي» المتخصِّص في البحوث العلمية أنّ «منظومة التحكّم بـ(الريموت كونترول) لدى الجنين تعمل عن طريق الجينات، ويمكن تشغيلها أو تعطيلها وفق الجينات التي يحصل عليها الجنين من الأب والأم على السواء عن طريق ما يُعرف باسم التطبُّع الجيني».

ويتابع كونستانسيا أنّ «الجينات التي يحصل عليها الجنين من الأب تتّسم بالطمع والأنانية وتسعى إلى التلاعب في الموارد الغذائية بجسم الأم لمصلحة الجنين لينمو ويكون في أفضل وضع. ورغم أنّ الحمل هو عملية تعاونية إلى حدّ كبير، فإنّ ثمة ساحة كبيرة للصراع بين الأم والجنين؛ المشيمة والجينات المنسوخة تلعب دوراً رئيساً في هذا الصراع».

وتبيَّن للباحثين أنّ الجينات التي يحصل عليها الجنين من الأب تهدف إلى تعزيز النمو، في حين أنّ التي يحصل عليها من الأم تسعى إلى الحدّ من نموّه وعدم استنزاف جسم الأم. وأعربت أماندا بيري عن اعتقادها بأنّ «الجينات التي يحصل عليها الجنين من الأم، وتقلّل عملية النمو، هي طريقة الأم من أجل البقاء، بحيث لا يستولي الجنين على جميع المغذّيات ويصبح كبير الحجم، مما يؤثّر في عملية الولادة، كما تعطي هذه الآلية الأم الفرصة للحفاظ على صحتها والإنجاب مرات أخرى في المستقبل».

وفي إطار التجربة، أوقف الباحثون عمل أحد الجينات المهمّة التي تنتقل إلى الجنين من الأب، ويحمل اسم «Igf2»، وهو الجين الذي يعطي الإشارات لجسم الأم لإنتاج البروتين، ويلعب دوراً رئيساً في نمو أنسجة الجنين بما فيها المشيمة والكبد والمخ. ويقول الباحث في قسم علوم وظائف الأعضاء وعلم الأعصاب بجامعة كامبريدج، وأحد المشاركين في الدراسة، خورخي لوبيز تيلو، إنه «إذا ما عُطِّل عمل هذا الجين، فإنّ جسم الأم لا ينتج كمية كافية من الغلوكوز والدهون في الدورة الدموية، وبالتالي لا يحصل الجنين على المغذّيات الكافية ولا يستطيع النمو بشكل سليم».

ووجد الباحثون أيضاً أنّ حذف جين «Igf2» من خلايا المشيمة يؤثّر في إنتاج هرمونات أخرى تنظِّم إفراز الإنسولين في البنكرياس، ويؤثّر أيضاً في استجابة الكبد والأنسجة المسؤولة عن عملية الأيض. وتقول أماندا بيري: «وجدنا أنّ الجين (igf2) يتحكّم في الهرمون المسؤول عن تقليل الحساسية تجاه الإنسولين في جسم الأم خلال فترة الحمل، أي أنّ أنسجتها لا تستطيع امتصاص الغلوكوز، ما يزيد من كمية المغذّيات المُتاحة للجنين في دورتها الدموية».

وتشير إلى أنّ الأجنَّة الذين يعانون خللاً في الجين المذكور قد يعانون نمواً مفرطاً أو قصوراً في عملية النمو داخل الرحم؛ لكنّ الباحثين لم يستطيعوا حتى الآن تحديد الجزء المسؤول داخل الجين عن توجيه الإشارات من أجل زيادة المغذّيات التي يحصل عليها الجنين من جسم أمه، مؤكدةً أنّ هذه الدراسة «تُضيء على أهمية ضبط عملية تحويل المغذّيات من الأم إلى الجنين خلال فترة الحمل من أجل الحفاظ على صحة المولود في المستقبل، فضلاً عن الدور الرئيس الذي تلعبه المشيمة في هذه العملية».