كرة القدم والمثقفون... استعلاء وازدراء وشغف خجول

مشكلتها تكمن في أصولها «الشعبية» فاحتقرتها النخبة «البرجوازية»

كرة القدم والمثقفون... استعلاء وازدراء وشغف خجول
TT

كرة القدم والمثقفون... استعلاء وازدراء وشغف خجول

كرة القدم والمثقفون... استعلاء وازدراء وشغف خجول

على الرغم من مكانتها الاجتماعية والثقافية المركزية لا تزال كرة القدم كمادة بحثية قليلة التداول، فلا الفلسفة ولا علم الاجتماع ولا العلوم الأخرى أخذت بمحمل الجدّ ظاهرة شغف الشعوب بهذه الرياضة، ولم ينتبه أحد لدراستها وتحليلها.
وفي الغرب بالذات، كانت العلاقة بين الرياضة والمثقفين دائماً معقدة، ففي فرنسا الشغف بكرة القدم في تقدير النخبة ظاهرة تافهة، صبيانية، بل مسيئة للذكاء. الفيلسوف الفرنسي جان كلود ميشيا مؤلف كتاب «أجمل هدف... كان تمريرة» يشرح بأن هذه النخبة الفكرية فقدت التواصل مع القاعدة، بل خانتها لأنها تعاملت مع هذه الرياضة بتكبر وعجرفة. وفي بريطانيا سخط المحافظون على «الملهاة الشعبية» التي تضيع وقت عمال مصانع النسيج، وقارن الشاعر روديارد كيبلينغ هواة هذه الرياضة بـ«أرواح صغيرة يمكن أن يشبعها الحمقى الموحلون الذين يمارسون هذه الرياضة»... المفارقة السوسيولوجية هي أن ولادة هذه الرياضة كانت في بريطانيا على يد نخبة «بوبليك سكولز» قبل أن يروج لها أرباب العمل بين أوساط مستأجريهم لحثّهم على ممارسة الرياضة ومنعهم من التردّد على الحانات وتعاطي الخمور. وهذه النخبة تحولت بعدها إلى رياضات أكثر «نبلاً» كالغولف، التنس أو ركوب الخيل، وهي الخلفية التاريخية التي ترويها سلسلة «أنجليش غام» على منصة «نتفليكس». في البرازيل ورغم شعبية هذه الرياضة، فإن النخبة الفكرية لم تتبن نفس مشاعر الشغف والحماس، الشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس كان يقول ساخراً: «ما الذي يجده العالم في 22 فتى يركضون بسراويلهم القصيرة وراء كرة بينما يكفي أن يشتروا 22 كرة؟».

البير كامو

شيوع فكرة كرة القدم كـ«أفيون للشعوب» التي أطلقتها مدرسة «فرانكفورت» في السنوات الستين، والتي انتقدت بشّدة المكانة المهمة التي تحظى بها هذه الرياضة في الأوساط الإعلامية والسياسية والاجتماعية، وجدت صدى كبيراً في فرنسا مع حركة مايو 68، حيث كانت النخبة الفكرية الموالية لليسار تناهض كل مظاهر الليبيرالية التي تجسّدها هذه الرياضة بأنديتها ذات الميزانيات الضخمة، أو لاعبيها وأجورهم الفاحشة، والتسويق المفرط الذي يحيط بهذه الرياضة. النائب الفرنسي دانيال كونبنديت أحد أقطاب حركة مايو 68 والذي كان أيضاً لاعباً هاوياً ثم رئيس نادٍ لكرة القدم كتب في مذكراته «مزاج داني» (دار نشر روبرت لافون): «كنا نعيش في وسط يعتبر كرة القدم هواية (غير لائقة) بناشط سياسي مثقف». ويواصل النائب: «أذكر أني كنت أسافر لألمانيا لأمارس هوايتي بحرية، وبعيداً عن الأنظار، أما صحيفة «ليكيب» (المتخصّصة في كرة القدم) فكنا نقرأها في البيت... سراً». بعض الأحداث السياسية التي شهدها العالم في تلك الفترة عزّز مواقف تلك النخبة التي سخّرت شعبية هذه الرياضة وكمّ العواطف القوية التي تحيط بها لتمرير رسائلها الآيديولوجية.
جان بول سارتر ورفيقاه لويس أرغون ورولان بارت أطلقوا نداء لمقاطعة مباريات كأس العالم التي نظمت في الأرجنتين عام 1978؛ احتجاجاً على سياسة الجنرال فيديلا. أما مارغريت دوراس فقد انتهزت فرصة حوار مع اللاعب الأسطورة ميشال بلاتيني لتصفي حساباتها مع الرياضة «التي سلبت»، حسب رأيها، عقول الجماهير، حتى قال بلاتيني إن «ساعة مع مارغريت دوراس كانت أصعب من أي مقابلة رياضية» خضاها في حياته.
وإن كان الفريق الأول قد حاول استغلال هذه الرياضة ليفرض آيديولوجيته، فإن الفريق الثاني قد تجاهلها، بل قلّل من قيمتها واستهزأ بها. «بيار بوردو» أحد أقطاب علم الاجتماع الفرنسي وصف زملاءه من الباحثين في مجال علم الاجتماع الرياضي بـ«الأذلاء» الذين لم يحصلوا على تقدير ذويهم، على اعتبار أن الرياضة كمادة بحثية تفتقد لكل شرعية أكاديمية، وإن كان هو نفسه قد درس ظاهرة العنف في الملاعب إلا أنه قال: «يصعب دراسة وتحليل الرياضة بطريقة علمية... لأنها مادة تخلو من العمق... لا أحد يريد أن يهتم بهذا الموضوع؛ لكيلا يقال إنه يفتقد للذوق الرفيع»، وهنا يشير الباحث للصّور النمطية المتحيزة التي غالباً ما يتم ربطها بعالم كرة القدم كصورة المشّجع السّكير المتحدر من أوساط شعبية، والذي غالباً ما يقدم على أنه عنيف، محدود الذكاء أو متعصب لفريقه.
أسباب أخرى يكشفها المؤرخ ألفريد واهل الذي يعتبر من الباحثين الأوائل الذين اهتموا بدراسة كرة القدم، حيث نشر عدة دراسات قيمّة أهمها: «قصة كأس العالم أو العولمة الناجحة». في حوار مع صحيفة «لوموند» قال الباحث: «العزوف لم يكن اختيارياً بل مفروضاً، حيث إن الموضوع لم يكن ببساطة يهم دور النشر، فكلما كنت أعرض مؤلفاتي وبحوثي أتلقى الإجابة نفسها: «الأشخاص الذين يقرأون المؤلفات الجامعية لا يهتمون بكرة القدم ومن يهتم بكرة القدم لا يقرأ...». والواقع، يُلخص الباحث مشكلة كرة القدم ببساطة تكمن في أصولها «الشعبية»، وهو ما يفسر مشاعر الازدراء والمواجهة التي لَقِيتْها من النخبة «البرجوازية» لعقود طويلة ولا تزال. فنجوم هذه الرياضة مثلاً حسب هذه النخبة، وإن كانوا قد نجحوا في تكوين رأسمال شعبي ومالي ورمزي مهم فإن رأسمالهم الثقافي يبقى ضعيفاً. بعض الأوساط وصلت إلى درجات قصوى من الهجوم، فالفيلسوف الفرنسي آلان فنكلكرفت وصف فريق كرة القدم مثلاً بـ«الحمقى الأغنياء»، كما تحولت الأخطاء اللّغوية التي كان يرتكبها اللاعب الدولي المعتزل فرانك ريبيري إلى موضوع سخرية واستهتار، في إشارة للصورة النمطية التي تتداولها بعض وسائل الإعلام عن لاعبي كرة القدم على أنهم يفتقدون للثقافة، وأحياناً حتى إلى الذكاء.

بورخيس

في سجل آخر، يمكن أن يفسر العلاقة المعقدة بين النخبة الفكرية وكرة القدم، نجد «مأزق المعارضة التقليدية بين العقل والعاطفة». فالتعامل مع مثل هذه المواضيع يطرح أيضاً مشكلة التعامل مع سيل جارف من المشاعر القوية، وهو ما يخيف المثقفين؛ لأنها قد تكون خطوة مُحبطة للعقل والحكمة وباباً مفتوحاً نحو كل التجاوزات. هذه «المصّيدة العاطفية» التي يخافها المفكرون تحدث عنها بإسهاب الكاتب والفيلسوف مارك بلرمان في كتاب «كرة القدم.. الوباء العاطفي» (دار نشر لاباسيون) والذي يضيف بأن النخبة لا تريد أن تكون مثل الجماهير، هي تريد التحكم وترويض عواطفها، ولذا فلا يعقل أن تنساق لعواطف قوية كالعامة.
على أن الوضع لم يكن كذلك منذ البداية، ولا سيما مع بعض الأدباء الذين لم يخفوا شغفهم بالساحرة المستديرة: ألبير كامو الأديب الفرنسي والحارس السابق لفريق راسينغ الجزائري كتب مادحاً كرة القدم: «لم أعرف في أي مجال آخر باستثناء الرياضة الجماعية، هذا الشعور القوي بالأمل والتضامن الذي يصاحب أيام التدريب الطويلة إلى غاية الفوز أو الهزيمة. المبادئ التي أعرفها تعلمتها في ملاعب كرة القدم وفي خشبات المسرح وهي بالنسبة لي المدرسة الحقيقية»، الدلالة الرمزية القوية قد تكون غلاف روايته الأخيرة «الرجل الأول» الذي يمثله وهو يتوسط زملاءه من فريق كرة القدم.
أما فيرديناند سيلين فقد وجد في كرة القدم وسيلة للتعبير عن وحدة بطل روايته «موت بالتقسيط» بردامو حيث كتب: «في كرة القدم كنت أحظى بالمكان المناسب، كنت أوقف الأهداف... لا أحد كان يزعجني». كرة القدم حاضرة أيضاً في أعمال راينر ماريا ريلكه وفلاديمير نابوكوف، وعند المعاصرين أمثال الكاتب الفرنسي فرنسوا بيغودو في روايته «اللعب الصحيح»، والبريطاني نيك هورنبي الذي تعتبر سيرته الذاتية «البطاقة الصفراء» سرداً لحياته كمشجع لنادي أرسنال وكثيرون.
في فرنسا، وحسب الباحث المتخصص في تاريخ كرة القدم ألفريد واهل، بدأت الكرة المستديرة تجلب انتباه العلوم الاجتماعية ابتداءً من عام 1998، تاريخ تتويج فرنسا بطلة لكأس العالم. هنا وفجأة، كما يشرح الباحث، بدأنا نشهد توافد مثقفين على وسائل الإعلام وقد تخلصوا من عقدهم وازدرائهم لهذه الرياضة للحديث عن هذه الظاهرة بوصفهم خبراء، وانطلاقاً من هذه اللحظة أصبح التعامل مع ظاهرة كرة القدم أمراً مشروعاً.
هذا لا يعني أن دراسة وتحليل هذه الرياضة الشعبية كان دائماً موضوعياً، ففي كثير من الأحيان -كما يشرح باحث علم الاجتماع ستيفان بيو في كتابه «سوسيولوجيا كرة القدم» (دار نشر لاديكوفرت)- كان هذا الموضوع يتعرض لاختراق من قبل تأثيرات سياسية واقتصادية وإعلامية وثقافية لتغيير مسار الخطاب العلمي البحت. والعيب ليس في كرة القدم لأنها رياضة، نبيلة ولا نقاش في ذلك، المشكلة -حسب الكاتب- تكمن في المنظومة المحيطة بها، والتي تعطيها هذه النخبة شرعية حين تتحدث عن مزايا هذه الرياضة دون التطرق إلى عيوبها حتى وصلنا إلى مرحلة نشهد فيها امتلاء الملاعب عن آخرها، بينما لا أحد يظهر حين يتعلق الأمر بالإدلاء بصوته في صناديق الاقتراع. الكاتب أدرج بعض الأمثلة حيث انتقد الفيلسوف آلان فينكلكروت الذي استعمل مختصرات فكرية خطيرة حين ربط بين النشيد الوطني في الملاعب والوفاء للهوية الوطنية عند اللاعبين المتّحدرين من أصول مهاجرة، وكذلك الفيلسوف إدغار موران الذي قارن، حسب رأي الكاتب، بطريقة مبالغ فيها، بين الإبداع الفني وكرة القدم.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.


أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
TT

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

تصدُّر بطولة فيلم افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» ليس أمراً بسيطاً، بيد أنْ يترافق ذلك مع اختيار فيلم آخر للبطل نفسه ضمن دورة واحدة، فهذه حالة لا تحدُث كثيراً في مسيرة أي ممثل. هذا ما يعيشه حالياً البريطاني - المصري أمير المصري، بطل فيلم «العملاق» الذي افتتح الدورة الخامسة للمهرجان، وحظي باهتمام واسع، وهو أيضاً بطل فيلم «القصص» للمخرج أبو بكر شوقي، أحد أبرز المنافسين في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً، ليروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل التجرية، قائلاً: «عندما تحدَّث معي الرئيس التنفيذي للمهرجان الأستاذ فيصل بالطيور عن فيلم (العملاق)، لم أكن أعرف أنه سيختاره ليكون فيلم الافتتاح. فقد كان من الممكن أن يختار فيلماً تجارياً لبطل هوليوودي مثلاً، لكنه أبدى اهتماماً بإظهار أناس مثلي على المسرح أمام نجوم عالميين مثل مايكل كين وإيشواريا راي».

ويصف المصري تلك اللحظة بأنها علامة فارقة في مسيرته، ويضيف بنبرة إعجاب واضحة: «أنا منبهر بالمهرجان، وعاماً تلو آخر نرى أنّ كلّ دورة أفضل من التي سبقتها». ويتابع موضحاً خصوصية هذا العام: «مستمتع جداً بالمرحلة الحالية التي أعيشها فنّياً، خصوصاً مع ندرة أن يحظى ممثل ببطولة فيلمين مشاركين في مهرجان بحجم (البحر الأحمر)».

أمير المصري... عام مفصلي يُبدّل موقعه بين البطولة والهوية الفنّية (المهرجان)

«العملاق»... المدرّب أم الموهبة؟

وإنما حضور المصري في «العملاق» يتجاوز مجرّد البطولة، فالفيلم نفسه يحمل تركيبة حساسة تستدعي أداءً واعياً لطبيعة الشخصية التي يجسدها: نسيم حميد، المُلاكم الذي أحدث ثورة في صورة الرياضي المُسلم في بريطانيا التسعينات، بقدر ما أثار جدلاً لا ينتهي حول علاقته بمدرّبه الأسطوري الذي يجسّد دوره النجم بيرس بروسنان. وبسؤال أمير المصري عن تقاطعات ذلك مع حياته، يرد بحماسة: «جداً... كلانا يتجاهل الآراء السلبية ويُكمل طريقه بإصرار».

ينطلق الفيلم من مشهد صغير في شيفيلد البريطانية، حيث تطلب والدة طفل في السابعة من المدرّب أن يُعلّم ابنها الدفاع عن نفسه ضدّ التنمُّر، لحظة تبدو عادية لكنها تتحوَّل إلى حجر الأساس لأسطورة. يلتقط المدرّب الموهبة من النظرة الأولى، فيأخذ نسيم مع 3 من إخوته إلى الحلبة، ليكتشف فوراً أن الطفل النحيف يحمل شيئاً لا يُدرَّس. ومن هنا يمتدّ الخطّ الزمني للفيلم عبر محطات تنقل نسيم من شوارع الحيّ إلى لقب بطل العالم، قبل أن تبدأ الانهيارات التي ستفضح هشاشة العلاقة بين المُلاكم ومدرّبه.

يطرح الفيلم بذكاء شديد السؤال: مَن هو «العملاق» الحقيقي، المدرّب أم الموهبة؟ هذا السؤال يصل ذروته في مشهد صادم يتواجه فيه الطرفان، فيقول نسيم: «هذه موهبة من الله، وعليَّ أن أستثمرها من دون أن أدين بالفضل لأحد». فيردّ المدرّب: «موهبتك بلا قيمة لو لم أكتشفها وأطوّرها طوال 16 عاماً».

ولأنّ الفيلم يعيد طرح الأسطورة على الشاشة، كان حضور نسيم حميد الحقيقي في عرض الفيلم حدثاً إضافياً، إذ ظهر المُلاكم المعتزل في المهرجان بعد سنوات من الغياب، مُبتسماً ومُتأثراً، وقال لأمير المصري: «هذا الفيلم يقول لك: (باسم الله... ابدأ مسيرة جديدة!)». وكأنّ الأسطورة سلّمت شعلتها الرمزية للممثل الذي أعاد بناءها.

المصري يتوسّط المُلاكم المعتزل نسيم حميد والرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور (المهرجان)

مرحلة جديدة... مشروعات بالجُملة

وبالنظر إلى كون الهوية الفنّية لأمير المصري وُلدت من تداخُل الثقافتين العربية والغربية، تماماً كما جاء في فيلم «العملاق»، يبدو السؤال عن تأثير هذا المزج حاضراً بالضرورة، ليُجيب بتأمّل واضح في جوهر اختياراته قائلاً: «الأهم أن أركّز على المشروع، أيّاً كان، في العالم العربي أو خارجه». ويشرح: «دائماً تشغلني الأسئلة: هل هذا العمل من شأنه تحريك شيء داخلي؟ هل يمكنه إيصال رسالة؟»، مشيراً إلى أنّ فيلم «العملاق» يأتي ضمن هذا الإطار بشكل واضح.

الزخم دفعه لاتخاذ خطوة طال تأجيلها، وهي تأسيس شركة إنتاج في بريطانيا، فيكشف: «اتجهت مؤخراً لتأسيس شركة إنتاج افتتحتها قبل نحو 3 أشهر، وأعتزم في المرحلة المقبلة أن أنفّذ أعمالاً ليست لي فقط، بل كذلك لأناس يُشبهنوني». يتحدَّث المصري عن مشروعه الجديد كأنه يضع حجر الأساس لهوية إنتاجية مقبلة تُكمِل ما بدأه أمام الكاميرا.

أمير المصري يتحدّث عن الزخم والتحوّل وبداية مشروعه الإنتاجي (الشرق الأوسط)

وعن أحدث مشروعاته، يقول: «ثمة فيلم أنهيته للتو في ألمانيا، ولو عُرض في مهرجان مثل (البحر الأحمر)، فهذا يعني أننا سلطنا الضوء على قضية مهمة جداً في موضوع لامسني جداً عندما قرأته. فيلم سيكون مهماً جداً». ورغم تحفُّظ المصري على ذكر القضية التي يتناولها، فإنّ حديثه يوحي بموضوع ثقيل لمرحلة أكثر التزاماً في خياراته السينمائية.

وفي ختام حديثه، يفتح نافذة على مشروع جديد ينتظره جمهور الدراما، مؤكداً أنه يستعدّ لبطولة مسلسل «سفّاح» مع المخرج هادي الباجوري، الذي من المنتظر عرضه عبر منصة «شاهد»، وهو عمل يستلهم من قصة حقيقية لقاتل متسلسل حصلت في قلب القاهرة، ليذهب هذه المرة نحو الغموض والعوالم السوداء.