الشرائط مثيرة وكاشفة ومؤلمة بما تحمله من صوت لويس أرمسترونغ الدافئ، الذي ربما يعدّ أشهر صوت في القرن العشرين، وهو يتحدث عن حقائق قاسية موجعة عن العنصرية الأميركية، والكراهية المجردة للإنسانية، التي تحمّلها وعانى منها هو وملايين غيره، في عالم ظل حتى النهاية يؤكد أنه كان رائعاً. إنه يروي قصص عن أحد معجبيه وهو يقول له في وجهه مباشراً: «لا أحب الزنوج»، وعن مرسال يعمل في أحد الأفلام يعامله بعدم احترام على نحو لا يتعرض له أي نجم أبيض البشرة، ويتساءل بغضب وضجر: «هل يمكن تصديق ذلك؟». إنه يروي تلك القصص بحس دعابته المعهود، وأدائه ذي الطابع المسرحي الترفيهي، إلى جانب حسّه الموسيقي الواضح المتجلي في إيقاع سُبابه.
لويس أرمسترونغ عده النقاد من أشهر الأصوات في القرن العشرين (غيتي)
يمكن لعامة الناس سماع تلك القصص، التي سجلها أرمسترونغ بشكل خاص كجزء من مشروع من التوثيق الذاتي يمتد بطول حياته، في فيلم وثائقي لساشا جينكينز باسم «لويس أرمسترونغ- بلاك آند بلوز» الذي يتم بثه عبر «أبل تي في». كثيراً ما يستحضر أرمسترونغ ويستدعي إطلاق ضحكة أخيرة على من ازدروه، حيث وبّخ ذلك المرسال، والاستوديو أيضاً، بحديثه عن الموضع المثالي لفيلمهم بطريقة ساخرة.
لا يعدّ من قبيل الكشف أو إذاعة السر أن يواجه رجل ذو بشرة سوداء، وُلد بعد مرور أقل من 40 عاماً على إلغاء العبودية، عنصرية مفجعة، أو ألّا تعفيه نجوميته، التي ترقى إلى مستوى نجومية بينغ كروسبي وفرانك سيناترا، من هذا المصير. لقد واجه أرمسترونغ هجوماً عام 1957 لحديثه ضد التمييز، وتبرع لحركة الحقوق المدنية. مع ذلك عادةً ما كان يتجنب الجدال والخلاف.
بحلول ستينات القرن العشرين، أثار تحفظ أرمسترونغ، إلى جانب طريقة أدائه بما تتضمنه من ابتسامة عريضة وتحريك لبؤبؤ عينيه التي تحاكي أسلوب الأشعار الشعبية، هجوماً ضده، وما كان أكثر إثارة للألم والأسى هو أن مصدر ذلك الهجوم كان موسيقيي الجاز الشباب، الذين كانوا يبجّلون تسجيلاته وأعماله التي قدمها خلال عشرينات القرن العشرين، وهي الفترة التي تمثل منبع ومصدر فن الجاز.
أخذ ذلك الهجوم يضم بشكل شامل منذ ذلك الحين نقّاداً كثيراً ما كانوا يقسّمون إرث وأعمال أرمسترونغ إلى قسمين: الأول لشاب فنان موهوب عبقري أجاد فنون التمايل، وغناء «السكات» (طريقة غناء ارتجالية دون ألفاظ) والأداء المنفرد الارتجالي، وكان يرتفع بنغمات البوق بدرجة كبيرة تدغدغ أصابع القدم، والآخر لفنان ترفيهي عالمي له أعمال ناجحة طوال ستة عقود، ومولع بفن البوب الوجداني المثير للعاطفة، والألحان المربكة مثل «وين إيت إذ سليبي تايم داون ساوث»، و«في وقت النعاس في داون ساوث».
ظهرت خلال هذه الألفية محاولات للدفاع عن السنوات الأخيرة من حياة أرمسترونغ، لكن يستند فيلم جينكينز، الذي يأتي بعد السيرة التي قدمها ريكي ريكاردي عام 2012 بعنوان «يا له من عالم رائع: سحر السنوات الأخيرة من حياة لويس أرمسترونغ»، بعمق وقوة إلى سجلات أرمسترونغ الخاصة لتقديم حجة إيجابية تأكيدية، كثيراً ما تكون بكلمات أرمسترونغ نفسه، توضح أن الرجل، الذي كان يطلق عليه اسم «بوبس»، كان معنياً وملتزماً بقضية المساواة العرقية. قال جينكينز خلال مقابلة تمت عبر برنامج «زوم»: «ظلت قصة أرمسترونغ واضحة ومنكشفة للعيان لسنوات طويلة، وتم إساءة فهمها لسنوات طويلة أيضاً. إن أميركا تمر بأمرٍ ما. من عدة أوجه، لم تتغير الأمور، وحدث ارتداد وتقهقر في الأوضاع».
وفي الوقت الذي يتم فيه عرض الفيلم، يستعد متحف منزل لويس أرمسترونغ في نيويورك، للاحتفاء بالذكرى العشرين لتأسيسه، وكذلك يتم افتتاح مركز لويس أرمسترونغ الجديد التابع للمتحف خلال فصل الربيع الحالي. قالت ريجينا بين، المديرة التنفيذية للمتحف، إن المركز سوف يعمل على زيادة انتشار المتحف بشكل تصاعدي، وهي مهمة أساسية تمتد جذورها إلى تطور أرمسترونغ نفسه، حيث تلقى أول تدريب موسيقي رسمي حين كان مراهقاً في مؤسسة «كالارد ويفس هوم فور بويز» لرعاية الأيتام في نيو أورلينز. كذلك سوف يقيم المركز حفلات موسيقية، ويعرض سجلات أرمسترونغ الخاصة، ويستعرض برنامج «أرمسترونغ ناو» الخاص به الذي يضع الفنانين في حوار مع إرث أرمسترونغ.
تُقرّ بين بتعقيد ذلك الإرث، حيث تقول خلال محادثة هاتفية: «حين تنظر إليه، ينبغي أن ترى ما يراه أكثر الناس، وهو شخص أيقونة وعبقري موسيقي ذو ابتسامة رائعة، وشخصية مفعمة بالحيوية والمرح. ينبغي أيضاً أن ترى ما مر به هو ومن حوله من إرهاب عنصري أثَّر على حياته وجسده ومع ذلك كان قادراً على تجاوز ذلك».
* خدمة «نيويورك تايمز»