نعم... لدينا حلم قديم ومتجدد دوماً، في أن نكون شيئاً آخر غير ما نحن عليه.
ولعل هذا هو أحد أسباب جاذبية الحركات العابرة للإنسانية اليوم، لا سيما حركة «ما بعد الإنسانية»، التي تلقي اهتماماً كبيراً على المستوى الشعبي والنخب الفكرية والعلمية ورجال المال والأعمال في مناطق مختلفة من العالم**. ومع ذلك، فإن ردود الفعل على توجهاتها وأهدافها تتدرج من التفاؤل المبهج إلى التشاؤم البائس.
على حين تبنت أغلب اليوتوبيات والآيديولوجيات في القرون السابقة فكرة «الإنسان الجديد»، وطرحت رؤى مبتكرة لما اعتبرته نوعاً أفضل وأكثر أخلاقية وسعادة للإنسانية، عبر وسائل سياسية واجتماعية، فإن حركة «ما بعد الإنسانية» في القرن الحادي والعشرين تعتمد أساساً على «تحسين» وتعزيز الطبيعة البشرية باستخدام آليات جديدة مثل «تقنية الجينات» والأدوية الذكية وزراعة الأعضاء والروبوتات ودمج الإنسان مع الآلة، فقد يصبح الكومبيوتر في غضون سنوات قليلة «بديلاً للوعي الإنساني، أو كامتداد له»، حسب معظم المنظرين المتفائلين اليوم.
وينظر العالم إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً، من زاويتين متقابلتين: الأولى ترفض الفكرة من الأساس وتراها كابوساً مثيراً للفزع؛ لأنه «لا يوجد أفضل من الإنسان الحالي الذي عليه الارتقاء نحو إنسانيته».
والرؤية الأخرى تؤكد أنها أمر واقع لا فكاك منه. صحيح أن الإنسان الحالي ما زال يحتفظ بهويته الإنسانية «الخالصة» وقيمه الأخلاقية التقليدية، ولكنه يوشك على التحرك باتجاه الإنسان المعزز، من خلال التدخل الجيني والطب الحيوي والأجهزة القابلة للارتداء بهدف تعزيز قدراته الجسدية والعقلية.
(2)
السؤال الذي طرحه فرنسيس فوكوياما في مقاله «ما بعد الإنسانية»، في مجلة «السياسة الخارجية» عام 2004، هو الأهم حتى الآن؛ لأنه لامس الجدار المكهرب لمخاوف المستقبل، بقوله «إذا بدأنا في تحويل أنفسنا إلى شيء أعلى، فما هي الحقوق التي ستدعيها (وتمتلكها) هذه الكائنات المعززة، مقارنة بأولئك الذين تخلفوا عن الركب؟».
مقال فوكوياما - ربما - جاء رداً على ما أثير حول ورقة بحثية عام 2001 لأبرز رواد حركة ما بعد الإنسانية، الفيلسوف السويدي نيك بوستروم (14 صفحة) بعنوان «هل نحيا في محاكاة كومبيوتر؟»، وكانت أشبه بـ«الصعق الفكري» الذي نبّه الأذهان إلى أن «العقل الإنساني» يشبه قصيدة الشعر، سواء كتبت على الرق أو الحجر أو الورق، فإنها تحمل نفس المعنى، فما الذي يمنع مع التطور الهائل لقوة الكومبيوتر والذكاء الصناعي والمعلوماتية وعلم الأعصاب وفلسفة العقل*** من محاكاة «خريطة الدماغ الإنساني بالكامل» وتحميلها في أدمغة صناعية؟ إذ يأمل العلماء في تطوير وسيلة مبتكرة لنقل الوعي الإنساني إلى صورة ثلاثية الأبعاد، عبر تحميل الدماغ على جهاز كومبيوتر، قبل عام 2045. (تعرف بمبادرة 2045).
وإذا قُدّر لهذه المبادرة النجاح، فهل من الممكن أن يتواصل مع «أدمغتنا الصناعية» الأحفاد المعززون في المستقبل، بوسائل إلكترونية حديثة، لتحقيق نوع من الخبرة و«الحكمة الجماعية»، تفوق الحكمة الإنسانية الحالية، وتعلو عليها؟
(3)
أغلب رواد حركة ما بعد الإنسانية، يرون أن الإنسان في حالته البيولوجية الراهنة، هو في مرحلة مبكرة نسبياً من تحوله التطوري. وبالتالي، فإنه قابل للتحسين (التعزيز)، بل والاستبدال التدريجي أيضاً، ليصبح كائناً تكنولوجياً يجمع في جوفه بين ما هو طبيعي وما هو تكنولوجي. وفقاً لهذه النظرة «اليوتوبية» المتفائلة، فإن الألم والتعاسة وحتى الموت هي حالات قاصرة، الوقت كفيل بتجاوزها.
لكن نقاد هذه الحركة يجمعون على أننا: لا نعرف بعد ماهية هذا التعزيز المزعوم، فضلاً عن حدوده. فما الذي يعنيه كونك أطول عمراً وأقوى بدنياً وأذكى عقلياً، طالما لا يتوافر لدينا المعيار الذي نقيس عليه؟
وعلى سبيل المثال، لدينا حالياً النموذج الطبيعي الذي نتبعه لعلاج ما قد تلف في جسم الإنسان. فقد نعيد الذراع المكسورة استناداً إلى ذراع طبيعية سليمة تعمل بكفاءة. وقس على ذلك بقية أعضاء الإنسان؛ لأن الطبيعة توفر لنا – من باطنها - النموذج الأساسي لحدود التعزيز الطبيعي.
أضف إلى ذلك أننا لا نعرف من أين يستمد الإنسان الجديد المعزز «أخلاقياته»؟
إن «عدم اليقين» بشأن فوائد وأضرار «التعزيز» هو أهم ملامح خريطة ما بعد الإنسانية «النقدية» اليوم، وتتخذ ثلاثة مسارات: الأول، متسامح يرى أن تكون هناك قيود قليلة على التعزيز، ويقدم حججاً قوية للفوائد المحتملة (لا سيما صحة الإنسان ورفاهيته). الثاني يرى أن تكون هناك قيود أكثر ويسوق حججاً دينية وغير دينية حول الكرامة الإنسانية. والثالث لا يقف ضد التعزيز من حيث المبدأ، لكنه يطرح بعض المخاوف، منها أن «التعزيز» لن يكون متاحاً للجميع وبالتساوي على كوكب الأرض، وبالتالي قد يسير في عكس الاتجاه الذي يهدف إليه أنصاره، بمعنى أن «التعزيز» قد يعزز (فقط!) التفاوت والظلم والصراع بين الأفراد والطبقات والشعوب.
من جهة ثانية، فإن «التعزيز» قد يغير فهمنا الإنساني حول ما اصطلح عليه حول «الاجتهاد والسعي» والتميز والازدهار، فماذا يعني أن تكون متميزاً في المستقبل؟ وهي إشكالية تمس سلوك الأفراد والممارسات الاجتماعية والعلاقات الدولية بالمثل، لا سيما أن من يملك مصادر «التعزيز» وإمكانياته سوف يملك مصادر القوة!
(4)
أول من تنبه إلى أن «المشكلات التكنولوجية الجديدة في حاجة إلى معالجة أنثروبولوجية فلسفية جديدة»، كان الفيلسوف الروسي نقولاي بيريائف (وُلد في كييف في أوكرانيا عام 1874). لكن الاستجابة لهذه الشذرة تأخرت 85 عاماً، حيث صدر في مايو (أيار) الماضي 2022 كتاب مهم حول «الإنسان الأعلى»**** للباحثة الألمانية آنا بوزبو،
وهو أول دراسة فلسفية تهدف إلى تطوير نهج جديد لأنثروبولوجيا التكنولوجيا، حيث تشارك مع شخصيات بارزة في هذا المجال، أمثال نيك بوستروم، وديفيد بيرس، وناتاشا فيتا مور، وغيرهم.
ترى بوزيو، أن حركة ما بعد الإنسانية تحوي تناقضاً يصعب حله «رؤية اختزالية للإنسان» (ص - 227)، و«فهم مزدوج للطبيعة الإنسانية» (ص 229)، وكلاهما يمنح الأولوية للدماغ والعمليات المعرفية على التكوين الطبيعي للإنسان؛ لذا تنظر الحركة إلى الجسد الإنساني على أنه قابل للاستبدال عن طريق التكنولوجيا.
لكن اختزال الأشخاص وتجاربهم الجسدية والعقلية يجعل منهم مجرد أدوات تقوم بعمليات آلية لمعالجة المعلومات، وبهذه الطريقة تصبح المعلومات هي «العامل الرئيسي» (ص - 264). ولأنها تقصي الأشخاص الطبيعيين «الحقيقيين» خارج مجالها، وتمنح الأولوية للتكنولوجيا على حساب المشاعر والعواطف الإنسانية فإنها تتناقض مع أهدافها المعلنة، وهي «تحرير الإنسان من قيوده الطبيعية».
إن حركة ما بعد الإنسانية – حسب بوزيو - لا تطرح أي موقف أساسي «يؤكد إنسانية الإنسان» (ص - 227)، وبالتالي لا تساهم في تقديم «تصور متماسك، دينامي وطليعي للإنسان في المستقبل» (ص - 348).
(5)
سواء كانت حركة ما بعد الإنسانية مجرد أضغاث أحلام أو إحدى حقائق الغد، علينا الاستعداد للتعامل معها؛ لأننا نواجه إشكالية غير مسبوقة، حيث لا يدور الصراع بين العلم والدين، أو الفلسفة واللاهوت، وإنما يدور أساساً بين العلماء أنفسهم والفلاسفة وأقرانهم، ووسط اللاهوتيين على تنوعهم.
الأهم هو أن «المال» ونظرية المعرفة في وادي السيلكون أصبحت – للمرة الأولى - لاعباً جديداً في هذا المضمار.
الملاحظة الثانية، حتى الآن يتحدث الجميع بعضهم عن بعض، وليس بعضهم مع بعض، لكنها مسألة وقت، وربما كانت هذه فرصة لنا، بأن ننخرط (ونشتبك) مبكراً مع هذه الإشكالية الزاحفة على تخومنا؟ لا أن نكتفي بالمتابعة فقط، أو نتقمص دور اللاعب الجالس على دكة الاحتياط الذي ينتقد فريقه دون أن يؤثر في نتيجة المباراة!
لا تنقصنا الإرادة السياسية الواعية ولا الشباب الطموح المتمكن من أدواته علمياً ولا المال ورواد الأعمال، فضلاً عن أساتذة الجامعات ومراكز الأبحاث، وأعني تحديداً المملكة العربية السعودية.
كيف نجتذب هذا الزخم العالمي باتجاهنا؟.. كيف نصبح أحد مراكز صناعة المستقبل في الشرق الأوسط؟
- باحث مصري
** «وول ستريت» و«وادي السيلكون» ورواد الأعمال (من ديمتري إيتسكوف الروسي إلى الأميركي إيلون موسك)، مروراً بأغلب رواد الأعمال في العالم، مهتمون بمسألة دمج الدماغ الإنساني بالكومبيوتر، ناهيك بالاستثمارات الضخمة: مختبرات وأبحاث واستشارات علمية، وصناعات جديدة في مجال الأدوية الذكية والمعززات المعرفية.
وقدّر أحد التقارير المنشورة في يونيو (حزيران) 2022 القيمة العالمية لأحد المنشطات الذهنية في عام 2026 بمبلغ 6.61 مليار دولار (سعر التقرير المكون من 175 صفحة،
يبدأ من 4000 دولار أميركي!).
*** وداعاً ديكارت، كوسمولوجيا جديدة للعقل الإنساني، المؤلف: كيث ديفلين، ترجمة: د. عصام عبد الله، الناشر: كتاب المجلة العربية (1)، المملكة العربية السعودية 1435هـ – 2014م.
•****Über - Menschen: Philosophische Auseinandersetzung mit der Anthropologie des Transhumanismus (Edition Moderne Postmoderne، by Anna Puzio، Publisher، Transcript; 1st edition
(May 2022).
الصعق الفكري وتاريخ المستقبل!
الصعق الفكري وتاريخ المستقبل!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة