هل يستطيع الناس المختلفون أن يتعايشوا في المدينة الواحدة؟

لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس
لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس
TT

هل يستطيع الناس المختلفون أن يتعايشوا في المدينة الواحدة؟

لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس
لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس

تحمل مُدنُنا الإنسانيّة المعاصرة سماتِ التراث الذي نشأت عليه، وبه انطبعت انطباعاً عميقاً، وفيه اختبرت ضروباً شتّى من النموّ والتطوّر. ولكنّنا نراها اليوم تُشرّع أبوابَها لاستضافة أفرادٍ يأتون إليها من كلّ حدب وصوب، إما للسياحة، وإما للتجارة، وإما للتقابس الفكريّ، وإما للإقامة الموقّتة أو الدائمة. لا شكّ في أنّ لكلّ مدينة من مُدننا طابعها التراثي المقترن بهويّتها الثقافيّة الخاصّة. لذلك يلاحظ المرءُ الإرباك الذي ينتاب الضيوف حين يَطؤون أرض الغربة، سواء في الشرق أو في الغرب. فالشرقي الذي يَقصد مُدنَ الغرب يندهش اندهاشاً عظيماً حين يعاين مقدار الاختلافات التي تجعله يفكّر تفكيراً مليّاً في إمكانات تكيّفه وتأقلمه وانسلاكه الهني في المجتمع المستضيف.
شهيرة المفاتحات التي أسرَّ بها إليها الأديب المصري رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». ومعروفة الملاحظات اللغويّة التي دوّنها العلّامة اللبناني إبراهيم اليازجي (1847-1906) في مجلّة «الضياء» المصريّة، حين أدرك عجز اللغة العربيّة عن وصف أدقّ عناصر الآلات التقنيّة الغربيّة، والإتيان باصطلاحات ومرادفات عربيّة ملائمة تفي بأغراض الإبانة الصحيحة. ولا يخفى على أحد التأثير الطيّب الذي خلّفه أدبُ الرحلة في ذاكرة الشعوب. غالباً ما أستمتع بالصوَر المبدعة التي رسمها الشاعر الفرنسي لامارتين (1790-1869) في وصف رحلته اللبنانيّة (1832)، أو الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة (1889-1888) في الإفصاح عن أحاسيس وجدانه أثناء ترحالاته الروسيّة والفرنسيّة والأميركيّة. لا عجب، من ثمّ، أن يتكرّر السؤال، على سبيل المثال، عن كيفيّة استضافة البلدان الإسلاميّة الأجانبَ الذين يأتون إليها. من المصادفات الباعثة على التفكير أن يسأل المرء اليوم: كيف ستستقبل الدوحة الجموع الغفيرة التي ستنزل في ضيافتها لمناسبة العُرس الكروي العالميّ، حاملة إليها أعرافها وتقاليدها وممارساتها التي تخالف تراث المدينة، وأحكامها المتعلّقة بشرب الكحول، والاحتفالات الليليّة الصاخبة، والمخالطات التغازلية العفويّة.
لا بدّ، والحال هذه، من الاستفسار عن إمكانات المعايشة التمايزيّة في نطاق المدينة الإنسانيّة المعاصرة الواحدة، سواء في الشرق أو في الغرب. إذا كان لكلّ مدينة من مُدننا هويّتها الثقافيّة، وخصوصيّتها التراثيّة، ومُستنداتها الأخلاقيّة، وخلفيّاتها الروحيّة، وأحكامها التشريعيّة، وأعرافها المسلكيّة، فهل يستطيع الناسُ الضيوفُ الذين لا يؤيّدون هذه التصوّرات أن يحيوا فيها حياة سلميّة هادئة؟ إذا اقتصرت الإقامة على بضعة أيّام، أمكننا أن نغضّ الطرف، وأن نستمتع بالغربة الثقافيّة استمتاعاً استثنائيّاً. أما إذا تحوّلت الزيارة إلى سكنٍ دائمٍ، فهل نستطيع أن نتعايش والأقوام الذين يختلفون عنا في مَعشرهم وملبسهم ومأكلهم ومسلكهم ومعبدهم ومفهومهم الثقافي الأرحب؟
من السؤال الثقافي المربك هذا تنبثق استفساراتٌ أخرى: هل يحقّ للضيف أن يبدّل في هويّة المضيف الثقافيّة؟ هل يجوز أن يظلّ الضيفُ المقيمُ على حال التريّث والامتناع عن التأقلم حتّى تتبدّل الأمورُ؟ ما حدود التغيير الذي يمكن أن يتصوّره المرءُ حين يفترض أنّ الغربة تُفضي حتماً إلى التفاعل الثقافي البنّاء، فتُبدّل في الضيف وفي المضيف على حدٍّ سواء؟ متى يصبح الضيف من أهل البيت؟ وما معايير الاندماج الثقافي الحقّ؟
من شروط الاستضافة اللائقة أن يراعي المضيفُ اقتناعات الضيف، وأن يحرص الضيفُ على صون الانتظام الاجتماعي العامّ في مدينة الاستضافة. ينطوي التراث العربي على أعراف ضيافة الأربعين يوماً يَنعم الضيفُ في أثنائها بكرم المضيف، وخصوصاً بحرّيّة الامتناع عن تسويغ إقامته، إذ إنّ المضيف لا يسمح لنفسه بأن يستنطقه أو يستجوبه. غير أنّ هذا كلّه يقتصر على الأخلاقيّات العامّة، في حين أنّ المطلوب النظرُ في إمكانات المعايشة السلميّة بين الناس المختلفين في المدينة الإنسانيّة الواحدة. لذلك لا بدّ لنا من استجلاء بعض الحقائق الأنثروبولوجيّة الأساسيّة التي ينبغي أن نعتصم بها في سياق المباحثات الرامية إلى معالجة هذه المسألة.
لا ريب في أنّ المبدأ الأوّل التنوّعُ الأصلي في الأرض، إذ إنّ الناس يُعبّرون عن ذاتيّاتهم في صوَرٍ شتّى وأشكالٍ مختلفة. ومن ثمّ، لا يجوز أن نسعى إلى إنشاء مدُنٍ محايدة تراثيّاً وثقافيّاً تنشأ على صورة الحياد التقني الانصهاري الذي تفرضه علينا العولمة الجارفة. ولكن من الضروري أن نفكّر في الفصل بين التراث الثقافي الذي يبني الهويّة الجماعيّة، والشريعة الإنسانيّة الكونيّة الواحدة في تنوّع تعابيرها القانونيّة وغزارة منطوياتها التطبيقيّة. يقتضي مثل هذا الفصل أن نقبل الطابع التراثي الثقافي الذي يَهب كلَّ مدينة سحرَها الخاصّ، وأن نَنعم بالغربة الثقافيّة التي تستتبعها الأعرافُ العامّة السائدة في المدينة التي تستضيفنا، ولكن من غير أن نغفل المقتضيات الحقوقيّة الأساسيّة التي تفترضها كرامة الكائن الإنسانيّ.
لذلك لا يجوز لنا أن نطالب بنزع الطابع الثقافي هذا، أو بتغييره، أو بتعديله. لا يجوز لنا أن نبني الهياكل البوذيّة في أنحاء باريس كلّها، وحجّتنا في ذلك أنّ البوذيّة مذهبٌ روحي سلمي يُغني الوجدان الإنسانيّ. ولا يحقّ لنا أن نملأ الأحياء السكنيّة الباريسيّة بالمطاعم الصينيّة، وذريعتنا أنّ النظام الغذائي الصيني من أفضل الأنظمة وأخفّها وأسلمها. ماذا ينفع الحضارة الكونيّة أن نستزرع النموذجَ الصيني في التربة الفرنسيّة، أو أن نستنبت المثالَ الفرنسي في الأرض الصينيّة؟ هل تحتاج الإنسانيّة إلى صين أخرى أو فرنسا أخرى؟
يربكني أشدّ الإرباك أمرُ الأُوروبّيين الذين يرومون أن يفرضوا نظام المدينة الغربيّة في الأرض العربيّة، وأمرُ العرب المهاجرين الذي يسعَون إلى إعادة بناء المدينة الأوروبّيّة المضيفة على هيئة مُدُنهم العربيّة التي تركوها لأسبابٍ شتّى.
استناداً إلى مبدأ التنوّع الذي يتطلّب الفصل بين التراث الخاصّ والشريعة الكونيّة، يجب أن نصوغ مبدأً ثانياً يقضي أن نميّز في التراث الثقافي الخاصّ بين ضربَين من الحقائق الإنسانيّة: الحقائق التي يؤيّدها جميعُ الناس من غير اعتراض أو تحفّظ، والحقائق التي يستحسنها أهلُ المدينة دون سواهم. لا بدّ هنا من التفطّن إلى المخاطر التي ينطوي عليها مثل هذا التمييز. ربَّ سائلٍ يسأل: كيف نستطيع أن نجزّئ الهويّة الثقافيّة الواحدة؟ جوابي أنّ التراثات الثقافيّة الخاصّة تنفرد ببعض الأحكام الاعتباريّة الاستنسابيّة المقترنة باختبارات الجماعة التاريخيّة، ولو أنّها تشتمل على تصوّراتٍ تحمل سمات الحقائق الأنثروبولوجيّة العامّة. بتعبير أوضح، يجب إلقاء البال إلى بعض الأحكام التشريعيّة الخاصّة التي تعتمدها المجتمعات وتفرضها على أبنائها دون سواهم، ومنها ما يتعلّق بالملبس والمأكل وآداب المعاشرة، وما إلى ذلك من شؤون الحياة اليوميّة.
لا أعتقد أنّ مثل هذه التباينات تُعطّل المعايشة السلميّة بين أصحاب الأرض المضيفين والضيوف المستقرّين حتّى زمن اندماجهم التفاعلي الناجز. لا بدّ، في هذا السياق، من التخلّق بأخلاق الحكمة الإنسانيّة السمحة، والاعتراف بأنّ زي المرأة الغربيّة المتحرّرة المتخفّفة من معاطفها لن يُبطل انتظامَ الحياة الاجتماعيّة في المدينة العربيّة، وأنّ الخِمار الأرجواني الزاهي أو الوردي المشرق الذي تتخمّر به المرأة العربيّة المتصوّنة، وبه تزيّن ضفائرَ شعرها، لن يصيب الوعي الفردي الغربي بمكروهٍ حضاري جسيم. غير أنّ العري الجسدي الفاضح في الشارع الغربي والشارع العربي يستقبحه الإنسانُ في جميع التراثات الثقافيّة. كذلك البرقع الأسود الذي يُغشّي جسد المرأة من قمّة الرأس إلى أخمص القدم لا يخيف الناس فحسب؛ بل يحجب هويّة المرأة التي ينبغي أن تتلألأ على محيّاها، ويعطّل العلاقة الإنسانيّة المبنيّة على استجلاء أمارات الوجه وتأوّل انفعالات النفس المتجلّية في حركات الجسد كلّه.
ذكرتُ المثال التفصيلي هذا لأبيّن الغنى التفسيري الذي يحتمله مبدأ الفصل بين الحقائق الخاصّة والحقائق العامّة في التراث الثقافي الواحد. بيد أنّ المسألة تنطوي على خلاصات أوسع وأشمل، إذ إنّ المدُن المعاصرة لا يجوز لها أن تفرض على الضيوف المستقرّين أحكاماً تشريعيّة لا يُقرّها العقل الإنساني السليم. وكذلك الضيوف المستقرّون لا يحقّ لهم أن يسلكوا مسلكاً يخالف هذه الأحكام، ولا يحسن بهم أن يغيّروا في أعراف المجتمع المضيف التي لا تناقض المبادئ الإنسانيّة الأساسيّة. لذلك يجب الاعتصام بمبدأٍ ثالثٍ يصون المعايشة الاختلافيّة التمايزيّة في المدينة الإنسانيّة الواحدة، ويقضي بأن يعتمد أهلُ المسكونة جمعاء شرعة حقوق الإنسان الكونيّة التي أقرّتها أغلبيّة الدساتير الوطنيّة والشرائع المحلّيّة. أعتقد أنّ هذه الشرعة تحتوي على عصارة النضج الإنساني الكوني الذي يفرض على الضيف والمضيف أن يسلكا سلوكاً يراعي كرامة كلّ إنسان وحرّيّته، ويصون أصول العدل والإنصاف، حتّى ينعم الجميع بالحدّ الإنساني الممكن من التضامن الأخوي والتسالم البنّاء.
إذا راعى الناس المبادئ الثلاثة هذه، أمكنهم أن يتعايشوا في المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس. وحدها مثل الحكمة الإنسانيّة الراقية هذه تمنعنا من تقسيم العالم فسطاطَين أو دارَين يتحاربان حتّى الإفناء. ليست الأرض في حال احترابٍ حضاريٍّ؛ بل في طور النضج التحاوري الذي يجعل الناس يعترفون بذاتيّاتهم الثقافيّة، اعترافاً يتيح لكلّ جماعة أن تحيا وتنمو في المدينة الإنسانيّة المعاصرة المبنيّة على شرعة حقوق الإنسان الكونيّة، والمزيّنة بالتراثات الروحيّة الجليلة التي لا تناقض مبادئ هذه الشرعة.
- مفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.