الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».


مقالات ذات صلة

«بريكست» بريطانيا... الحمى أقل زخماً

خاص نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال تثير جدلاً سياسياً واجتماعياً (أ.ب)

«بريكست» بريطانيا... الحمى أقل زخماً

هيمن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على النقاش السياسي لسنوات، سيما بين عامي 2016 و2019، وبدا الأمر وكأن الملحمة لا نهاية لها.

كوازي كوارتنغ
خاص سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)

خاص فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

هُزمت الولايات المتحدة في الصومال والعراق، ثم في أفغانستان، وسرعان ما ظهرت الصين بوصفها المستفيد الأكبر من العولمة، التي كانت تُحرر نفسها من المجال الأميركي.

برتراند بادي
خاص نظام مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرف على الوجوه (غيتي)

خاص البشرية من الخوارزميات إلى الذكاء الاصطناعي

الرحلة من الخوارزميات إلى الذكاء الاصطناعي على مدار السنوات الـ25 الماضية هي شهادة على الفضول البشري والسعي الدؤوب نحو التقدم.

هشام حمادة
خاص فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

خاص السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

رغم أن الحرب الحالية في السودان هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع».

أحمد يونس (كمبالا)
خاص أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)

خاص ربع قرن على عرش الكرملين

التخلف عن سداد الديون في عام 1998، والتحركات الانفصالية، والبطالة... كانت مجرد قائمة صغيرة من التحديات التي كان على فلاديمير بوتين أن يواجهها فور توليه السلطة.

أندريه أونتيكوف

«حراس الدين» وقد حلّ نفسه... فقاعة صوتية أم تهديد مبطن؟

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني في حلب الأربعاء 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني في حلب الأربعاء 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
TT

«حراس الدين» وقد حلّ نفسه... فقاعة صوتية أم تهديد مبطن؟

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني في حلب الأربعاء 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني في حلب الأربعاء 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)

في نهاية شهر يناير (كانون الثاني) الفائت، ومن دون مقدمات مسبقة، أعلن الفرع السوري لتنظيم «القاعدة»، المعروف بتنظيم «حراس الدين»، حلّ نفسه رسمياً، مؤكداً في بيان أن قراره جاء بعد ما وصفه بـ«تحقيق النصر المبين» بإسقاط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد.

وأعاد هذا البيان تسليط الضوء على تنظيم يفترض أنه انتهى عملياً على الأرض، كما وأثار تساؤلات حول حجمه الفعلي، واختياره توقيت هذا الإعلان. فقد دعا التنظيم الإدارة الجديدة في سوريا إلى الحفاظ على السلاح بيد «أهل السنة»، ونصحها بـ«إقامة الدين وتحكيم الشريعة»، معتبراً أن سوريا لا تزال ساحةً للمعارك الكبرى ضد «الطغاة والمستعمرين»، وداعياً مقاتليه السابقين للاستعداد لأي استحقاقات مستقبلية.

كذلك شدد «حراس الدين» على أنه سيبقى مستعداً لتلبية أي «نداء استغاثة» في مناطق المسلمين، متمسكاً بـ«ثوابته الشرعية دون تغيير أو تمييع».

لكن هل لا يزال لتنظيم «القاعدة» أي وجود في سوريا؟ وهل فعلاً هناك أهمية لتوقيت البيان؟

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى عدد من المصادر، بينهم قيادي سابق في «حراس الدين»، يكنّى بأبي عبد الرحمن الحلبي، التحق بصفوف «هيئة تحرير الشام»، بعد انتهاء التنظيم فعلياً في منتصف عام 2020.

قال الحلبي: «لا يتجاوز البيان كونه خطوةً إعلاميةً، فالتنظيم لم يعد له وجود حقيقي على الأرض، وهو يحاول فقط الإيحاء بأنه لا يزال حاضراً وفاعلاً في سوريا». وأضاف: «عملياً هناك بعض المتعاطفين لكن من دون انتماء تنظيمي. لذا، يمكن اعتبار البيان بمثابة تعزية للأنصار السابقين، وليس أكثر».

وأوضح الحلبي: «في بداية تشكيل (حراس الدين)، كانت لدينا قناعة بأن (تحرير الشام) تنحرف عن أهداف الجهاد وغاياته، بدءاً بقبولها بالوجود التركي وحماية نقاط الجيش التركي والتنسيق مع تركيا، ثم رفضها مطالب القادة العسكريين بضرورة فتح معركة ضد قوات النظام في ريف اللاذقية أو إدلب. وبرّرت قيادة الهيئة حينذاك بأن أي عمل عسكري ليس في مصلحة المعارضة، وكنا نرى هذا مجرد ذَرٍّ للرماد في العيون، وأن (تحرير الشام) كانت في الحقيقة ملتزمة باتفاق آستانة».

النشأة والشقاق

وكان تنظيم «حراس الدين» تشكل في فبراير (شباط) 2018 من عدة تجمعات صغيرة، مرتبطة ببيعة شرعية لأيمن الظواهري، لكن سرعان ما بدأ يظهر الشقاق بين تيارات متباينة داخل هذه الجماعات نفسها بين خط جهادي محلي مطالب بفك الارتباط عن تنظيم «القاعدة» وقيادة الظواهري (تحرير الشام)، وخط جهادي عالمي ومدافع عن البقاء تحت رايتها كحال «حراس الدين».

أبو محمد الجولاني (الثاني من اليمين) يناقش تفاصيل عسكرية مع القادة الميدانيين في ريف حلب في 2016 (أ.ب)

وشهدت الفترة بين عامي 2019 و2020 مواجهات متكررة بين «هيئة تحرير الشام» وتنظيم «حراس الدين»، وتصاعدت حدة الاشتباكات بين الطرفين، خصوصاً بعد تشكيل غرفة عمليات «فاثبتوا» التي قادها «حراس الدين». وبلغ هذا الصراع ذروته في مايو (أيار) 2020، عقب قيام «تحرير الشام» باعتقال أبو مالك التلي، الزعيم السابق لـ«جبهة النصرة» في القلمون، الذي كان قد انشق عن «تحرير الشام» وأصبح مقرباً من «حراس الدين»، إضافة إلى اعتقال القيادي أبو صلاح الأوزبكي.

على أثر هذه الأحداث، تمكنت «حراس الدين» من السيطرة على بعض مواقع «تحرير الشام» في ريف إدلب الغربي، لكن الأخيرة سرعان ما ردت باستخدام القوة العسكرية، ما أدى إلى تفكيك غرفة عمليات «فاثبتوا» بالكامل.

وبهذا الإجراء، أنهت «تحرير الشام» فعلياً وجود تنظيم «حراس الدين» ككيان عسكري مستقل.

جدير بالذكر أنه عندما كان قادة «حراس الدين»، ضمن «جبهة النصرة»، لعبوا دوراً كبيراً في المواجهات التي خاضتها الأخيرة ضد بعض فصائل «الجيش الحر» في إدلب وريف حلب.

وفي تلك الفترة استخدم أحمد الشرع (الجولاني) قادة «حراس الدين» وثقلهم في الوسط الجهادي لتحقيق مكاسب كبيرة، سواء في تصفية الفصائل المنافسة، أو في تثبيت حكمه في إدلب. ولكن، عندما رأى أنهم باتوا يشكلون خطراً على مشروعه، عمل على القضاء عليهم، مستغلاً فشلهم التنظيمي والإعلامي، بالإضافة إلى عدم قدرتهم على تكوين حاضنة اجتماعية في إدلب، مما جعلهم عرضة للتهميش والاستهداف. كما تعرضوا حينها لهجمات مباشرة ومؤلمة من التحالف الدولي اتهم الجولاني بالتنسيق فيها.

ويقول الحلبي: «قُتل بعض القادة، وسُجن آخرون، بينما اختار كثيرٌ من العناصر الصمت والعزلة تفادياً للصدام مع (تحرير الشام)، لأن ذلك لم يكن في مصلحة ما يُعرف بـ(الجهاد الشامي)، أي الثورة في سوريا».

ويضيف: «بعد انهيار (حراس الدين) كتنظيم على الأرض، عاد بعض عناصره - وأنا منهم - إلى (تحرير الشام)، لإدراكنا أن الارتباط بـ(القاعدة) لم يعد خياراً مجدياً، بل قد يضرّ بالثورة السورية والمشروع الجهادي ككل في سوريا».

من الجولاني إلى الشرع

يقول عروة عجوب، طالب الدكتوراه في جامعة مالمو، السويد، والمختص بشؤون الجماعات الجهادية، لـ«الشرق الأوسط»، إن تنظيم «حراس الدين»، «لم يعد له وجود فعلي منذ عام 2021، عندما شُكِّلت غرفتا عمليات (وحرض المؤمنين) و(فاثبتوا) بمشاركة عدة فصائل محلية غاضبة من النهج البراغماتي لزعيم (هيئة تحرير الشام) آنذاك أبو محمد الجولاني». ويشير عجوب إلى أن «الجولاني (أحمد الشرع)، شعر في ذلك الوقت بأن هذه الفصائل قد تشكّل تهديداً مباشراً لنفوذه في إدلب، ما دفعه إلى تفكيك هذه الغرف، ومنع أي محاولات لاحقة لتشكيل فصائل أو غرف عمليات جديدة».

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني يتحدث أمام حشد من الناس في المسجد الأموي بدمشق بعد إعلان المعارضة السورية الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 (رويترز)

ويعتقد عجوب أن العداء بين الجولاني وتنظيم «القاعدة» بدأ فعلياً منذ انفصال «هيئة تحرير الشام» عن «القاعدة» عام 2016، وأن الجولاني استطاع لاحقاً، بالتعاون مع التحالف الدولي، القضاء على تنظيمي «داعش» و«حراس الدين» داخل مناطق سيطرته.

ويرى عجوب أن الإعلان الجديد عن التنظيم يهدف بالدرجة الأولى إلى إثبات الوجود، لافتاً إلى أنه يستبعد أي مستقبل لتنظيم «القاعدة» في سوريا بعد تحوّل «هيئة تحرير الشام» إلى السلطة، ويقول: «عندما كانت الهيئة مجرد فصيل مسلح، كانت تتهم (القاعدة) بالغلو وتقوم بملاحقة عناصرها، فكيف وقد أصبحت اليوم السلطة الشرعية؟».

ويتفق الحلبي مع وجهة النظر هذه، قائلاً: «لن يكون لـ(القاعدة) أي مستقبل في سوريا بعد انتصار (تحرير الشام)، كما أن المجتمع السوري ليس مستعداً لقبول أي تنظيم فصائلي الآن. كذلك، فإن أحمد الشرع بات يتمتع برمزية كبيرة بين الفصائل والمقاتلين، ما يجعل من المستحيل على (القاعدة) إحياء نفسها حالياً».

شركاء النصر

في المقابل، يقول قيادي في «الجيش الحر» سابقاً، مفضلاً عدم ذكر اسمه، لـ«الشرق الأوسط»: «رغم الانهيار الميداني، سعى (حراس الدين) عبر إعلان حل نفسه إلى التأكيد على أن (القاعدة) لا تزال موجودة وفاعلة في سوريا، وأنها جزءٌ من (انتصارات الثورة) ضد النظام، في محاولة لإعادة إنتاج دورها في المشهد (الجهادي). كما أراد التنظيم تذكير خصومه، خصوصاً (تحرير الشام)، بأنه كان شريكاً أساسياً في مسيرتهم، وبأنه ساهم في توجيه زعيم (الهيئة)، أحمد الشرع أو أبو محمد الجولاني، نحو فك ارتباطه بـ(القاعدة) بدعوى مصلحة الثورة السورية».

ولفت المصدر إلى أن التنظيم يرى نفسه «المدبر الرئيسي لمشروع أحمد الشرع، وأنه هو من خلّصه من تنظيم (داعش) ومنحه الشرعية، وهذا البيان هو محاولة لاستثمار هذا القرار لصالحه عبر الإظهار أنه لا يعارض مصلحة الشعب السوري، بل كان جزءاً ممن قاتلوا لتحقيق مصالحه».

وتحدثت «الشرق الأوسط» إلى قيادي داخل «تحرير الشام» (سابقاً)، مفضلاً عدم ذكر اسمه، فاعتبر أن بيان «حراس الدين» هو محاولة من تنظيم «القاعدة» لتخليص السلطة الجديدة من تركتها لإتاحة المجال أمامها نحو نيل الشرعية الدولية كأن تزيح حملاً ثقيلاً ما زلت بقاياه ملقاة على كاهلها، وأن «القاعدة» ليست عثرةً في طريق إدارة أحمد الشرع الوليدة.

كذلك عدَّ القيادي السابق أن تنظيم «القاعدة»، «يسعى لتسهيل استقلال (هيئة تحرير الشام) بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) فعلياً عن ماضيها، لكنه في المقابل، يدرك أهمية كسب المجتمع المحلي السوري، خصوصاً الحواضن الاجتماعية للثورة، من خلال إظهار نفسه أنه لا يعرقل مصالح سوريا الجديدة الإقليمية والدولية».

ويحاول تنظيم «القاعدة»، حسب المصدر أيضاً، إظهار قدرته على التعامل البراغماتي مع الواقع السياسي، وتبني تكتيكات مرنة خدمةً للمصلحة الكبرى، حتى لو تعارض ذلك ظرفياً مع مصلحة التنظيم نفسه. وكان أيمن الظواهري أشار في أحد خطاباته إلى هذه المقاربة عند تعليقه على انفصال «جبهة النصرة» عن «القاعدة» في صيف 2016، مؤكداً أن «القاعدة» ليست عائقاً أمام الثورة السورية.

هذا التوجه يهدف إلى تقديم «القاعدة» تنظيماً قادراً على التأقلم، خلافاً لتنظيم «داعش»، الذي يرفض تغيير استراتيجيته بغض النظر عن الواقع السياسي والعسكري. فـ«القاعدة» يرى أن المرونة في الوسائل يحقق أهدافه الاستراتيجية العامة، في حين أن «تنظيم الدولة» يعدُّ الوسائل جزءاً لا يتجزأ من العقيدة، ولا يقبل بتغييرها.

محاولة «القاعدة» نسب نجاح «تحرير الشام» إلى استراتيجيتها وسعيها إلى تجنب الاعتراف بأن استقلال «تحرير الشام» كان شرطاً أساسياً لنجاحها. لذلك، تحاول تصوير هذا الانفصال على أنه قرار استراتيجي مدروس من قِبَل قيادتها هي. وعلى رغم وجود جناح داخل «القاعدة» وقتها لم يكن راضياً عن انفصال «جبهة النصرة»، فإن النجاحات التي حققتها «تحرير الشام» دفعت «القاعدة» إلى اعتبار هذا القرار خطوة حكيمة أفرزت نتائج إيجابية، يجعلها شريكة في هذا النجاح.

وبهذا، تريد «القاعدة» أن تُشعر «تحرير الشام» أو السلطة الجديدة بأنها مدينة لها، ولهذه السياسة البراغماتية، وأن ارتباطهما ليس صفحة سوداء يجب طيّها، بل جزء من تاريخ «الجهاد» الذي أدى إلى انتصار مهم في سوريا.

تهديد مبطن

إلى ذلك، قد يحتوي موقف «القاعدة» أيضاً على تهديد مبطن للسلطة الناشئة، مفاده أن التنظيم قادر على إعادة تشكيل نفسه داخل سوريا إذا لم تحقق «تحرير الشام» بحلتها الجديدة الأهداف الكبرى، مثل تطبيق حكم إسلامي لا يخرج عن الإطار العام الذي تتبناه، وأن تتجاهل «تحرير الشام» هذا الخط بالتوسع في التنازل عنه، بحيث تبقى ضمن الهوامش التي يمكن التنازل عنها مرحلياً. ومن ملامح الخط العام هذا تجنب إشراك الليبراليين والعلمانيين بالمشهد السياسي الوليد.

وفي البيان تلويح بإمكانية شنّ حرب ضد أي ثورة مضادة تقودها الأقليات أو القوى العلمانية، وتراهن «القاعدة» على تبلور تيار متشدد داخل «تحرير الشام» وباقي الفصائل يعارض التوجه البراغماتي للقيادة الحالية، مما يفتح المجال أمام تشكيل تكتلات معارضة أكثر تشدداً.

وهنا، قد يلعب «القاعدة» دور المحرك لهذا الاستياء، خصوصاً إذا ابتعدت «تحرير الشام» عن الأسس العقائدية التي يتبناها الجهاديون المحليون، حتى وإن كانوا أقل تشدداً من الجهاديين التقليديين.

عرض عسكري نظمته وزارة الدفاع السورية لتخريج أكثر من 300 جندي في مدينة حلب شمال سوريا (إ.ب.أ)

مستقبل «القاعدة» في سوريا

يعتمد مستقبل «القاعدة» في سوريا على عدة عوامل؛ أهمها احتمالات وقوع صراع طائفي. فإذا تطورت أعمال العنف المتفرقة التي تحدث في بعض المناطق إلى صراع طائفي واضح المعالم، نتيجة تحركات فلول النظام أو تدخلات إيرانية مباشرة، قد تجد «القاعدة» في ذلك بيئة خصبة لإعادة بناء نفوذها وتأجيج نزاع طائفي، لا سيما وأنها تملك باعاً طويلاً في ذلك. العامل الآخر أنه يمكن استغلال الانقسامات داخل «تحرير الشام» في حال نشبت خلافات تعارض براغماتية الإدارة الجديدة وتتربص بها؛ هنا تقدم «القاعدة» نفسها خياراً بديلاً للجهاديين المحليين. إلا أن نجاح هذا الخيار يتوقف أيضاً على تطورات الأوضاع الأمنية، وتعامل «هيئة تحرير الشام» مع الفئات الغاضبة أو الأكثر تشدداً من جهة، ورد فعلها إذا لمست تشكل نواة صلبة ضدها. فـ«تحرير الشام» تمتلك خبرة واسعة في مواجهة الجماعات الجهادية، مستفيدةً من معرفتها العميقة بأساليبهم الأمنية وطرق تشكيلهم للخلايا النشطة، وكانت إدلب المنطقة الأكثر نجاحاً في مطاردة «تنظيم الدولة» والمتعاطفين معه. هذه الخبرة نابعة من تجربة «الهيئة» نفسها في مراحلها الأولى، حين مرت بظروف مماثلة قبل أن تصبح القوة المهيمنة في إدلب. وعلى هذا الأساس، تمكنت من فرض قبضتها الأمنية ضد الجماعات الجهادية على نحو أكثر فاعلية من «الجيش الوطني» أو «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) على السواء.