«توغل وحشي» معرض ينقل الغابة إلى واجهات باريس

أعمال فنية مستوحاة من الغزلان والثعالب التي تجولت في المدن أثناء عزلة الجائحة

المعرض يطرح السؤال حول التعايش بين عالمنا البشري وبين العوالم الطبيعية التي يتطفل عليها الإنسان
المعرض يطرح السؤال حول التعايش بين عالمنا البشري وبين العوالم الطبيعية التي يتطفل عليها الإنسان
TT

«توغل وحشي» معرض ينقل الغابة إلى واجهات باريس

المعرض يطرح السؤال حول التعايش بين عالمنا البشري وبين العوالم الطبيعية التي يتطفل عليها الإنسان
المعرض يطرح السؤال حول التعايش بين عالمنا البشري وبين العوالم الطبيعية التي يتطفل عليها الإنسان

حين لزم الباريسيون بيوتهم خلال أشهر العزل بسبب وباء «كورونا»، خرجت الحيوانات من مكامنها والطيور من بحيراتها، بعد أن اطمأنت إلى خلو الشوارع من المارة والسيارات. كانت فترة عجيبة شوهدت فيها الثعالب تأتي من الغابات المحيطة بالعاصمة لتتمشى في ساحة «تروكاديرو»، وأسراب البط تغادر بحيرات غابة بولونيا لتعبر بهدوء شوارع حي الأوبرا وقلب باريس التجاري. ومن وحي تلك المشاهد خطرت في بال القائمين على «متحف الصيد والطبيعة» دعوة عدد من الفنانين لتقديم أعمال تستلهم تلك الفترة وتستدعي حيوانات، بعضها متوحش، لرسمها على جدران المباني القديمة أو تعليقها على بعض الواجهات.


قطيع على جدار مبنى قديم

ليس كل الرسامين من هواة الصيد أو أنصاره، لكن سبعة منهم بادروا إلى تلبية الدعوة، لا سيما أن ظاهرة نزول الحيوانات إلى المناطق السكنية لم تقتصر على باريس، بل شوهدت أيائل في عواصم غربية أخرى، وقطط سيامية وثعالب في شوارع مدن هندية، وخنازير وذئاب وفيلة في مناطق سكنية في الصين. كانت ظاهرة عالمية لا يمكن للفن أن يمر بها مرور الكرام، سقطت فيها الحدود بين غابات الإسمنت في المدينة والغابات المشجرة الكثيفة في الطبيعة البعيدة.
الفنانون السبعة المشاركون في المعرض اشتهروا بأنهم من «فناني الشوارع»، أي أولئك الذين تخصصوا في الرسم على جدران المباني وتقديم لوحات يمكن أن تكون مرئية اليوم وزائلة في الغد. لكن المعروضات لم تتخذ من المباني الخارجية أمكنة لها فحسب، بل امتدت إلى صالات المتحف الذي ما زال مجهولاً للسياح وحتى لأهل المدينة. لقد كان الهدف من المعرض طرح السؤال حول إمكانية التعايش بين عالمنا البشري وبين العوالم الطبيعية التي يتطفل عليها الإنسان ويقلق سكينتها. وهو سؤال متشعب وعميق منذ اليوم الذي شيّدت فيه التجمعات البشرية أماكن إقامتها ورسمت حولها حدوداً لا يسمح لغيرها بتخطيها.


غزال يحلق في المدينة (الشرق الأوسط)

خارج تلك التجمعات البشرية، واصلت الحيوانات والأطيار والهوام والأسماك سيطرتها على تلك المساحات الممتدة والشاسعة من الغابات. عالم يوصف بالبكر والتوحش رغم أنه تقلص بشكل ملحوظ بسبب تعدي الإنسان عليه ومدّ عمرانه إلى مناطقه والاستحواذ على عناصره وصيده وقطع أشجاره للاستفادة من فرائها وجلودها وعاجها وأخشابها.
إن نداءات الحفاظ على الطبيعة هي الصوت الأعلى في رسم سياسات القرن الحادي والعشرين. فهل يكون المعرض بمثابة نغمة إضافية في تلك الجوقة التي صار لها مناضلوها وأنصارها وأحزابها ووزراؤها؟ قد لا يزعم أصحابه أنهم بصدد إعادة تعريف العلاقة بين المخلوقات لكن من يتأمل اللوحات سيشعر، بالتأكيد، بصدمة مشاهدة الوحش وهو يدخل المدينة ويمدد مرتاحاً فيها. وبهذا فإن الهدف البسيط هو دق جرس الإنذار والتنبيه للخطر الذي تتعرض له الطبيعة وانعكاساته على البشر. وكان الصيف الحالي نموذجاً مثالياً لهذه المخاطر، حين اندلعت حرائق الغابات في الشرق والغرب وأتت على مساحات هائلة، وهبّت عواصف وهبطت أمطار تسببت في سيول اقتلعت المنازل وجرفت المخيمات الصيفية والسيارات وقلبت المراكب في البحر.
الفنانون السبعة هم ناديج دوفيرن، وسكاف، وجوسي توسيفن، ووار، وأندريا رافو ماتوني، وروبن كاراسكو، وبوردالو الثاني. ونحت هذا الأخير صقراً كبيراً جرى تعليقه على مدخل متحف الصيد، بينما تخيل الآخرون قطعاناً من المواشي أو طناطل تخرج من نهر «السين» وتستحل الواجهات. وهناك رسوم تقاسمت جدران المتحف مع لوحات زيتية موجودة من قبل، أو أخذت امتدادها على مبانٍ من باريس العتيقة. ومن المقرر أن تبقى كل هذه المعروضات في أماكنها حتى منتصف الشهر المقبل، باستثناء الصقر البديع الذي لن يغادر مكانه المميز في الواجهة.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
TT

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)

أمَّنت الإقامة في باريس للفنانة اللبنانية تانيا صالح «راحة بال» تُحرِّض على العطاء. تُصرُّ على المزدوجَين «...» لدى وصف الحالة، فـ«اللبناني» و«راحة البال» بمعناها الكلّي، نقيضان. تحطّ على أراضي بلادها لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه إلى الأطفال. موعد التوقيع الأول؛ الجمعة 6 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. والأحد (8 منه) تخصّصه لاستضافة أولاد للغناء والرسم. تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة.

تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة (صور تانيا صالح)

وطَّد كونها أُماً علاقتها بأوجاع الطفولة تحت النار؛ من فلسطين إلى لبنان. تُخبر «الشرق الأوسط» أنها اعتادت اختراع الأغنيات من أجل أن ينام أطفالها وهم يستدعون إلى مخيّلاتهم حلاوة الحلم. لطالما تمنّت الغناء للصغار، تشبُّعاً بأمومتها وإحساسها بالرغبة في مَنْح صوتها لمَن تُركوا في البرد واشتهوا دفء الأحضان. تقول: «أصبح الأمر مُلحّاً منذ تعرُّض أطفال غزة لاستباحة العصر. لمحتُ في عيون أهاليهم عدم القدرة على فعل شيء. منذ توحُّش الحرب هناك، وتمدُّد وحشيتها إلى لبنان، شعرتُ بأنّ المسألة طارئة. عليَّ أداء دوري. لن تنفع ذرائع من نوع (غداً سأبدأ)».

غلاف الألبوم المؤلَّف من 11 أغنية (صور تانيا صالح)

وفَّر الحبُّ القديم لأغنية الطفل، عليها، الكتابةَ من الصفر. ما في الألبوم، المؤلَّف من 11 أغنية، كُتب من قبل، أو على الأقل حَضَرت فكرته. تُكمل: «لملمتُ المجموع، فشكَّل ألبوماً. وكنتُ قد أنقذتُ بعض أموالي خشية أنْ تتطاير في المهبّ، كما هي الأقدار اللبنانية، فأمّنتُ الإنتاج. عملتُ على رسومه ودخلتُ الاستوديو مع الموسيقيين. بدل الـ(CD)؛ وقد لا يصل إلى أطفال في خيامهم وآخرين في الشوارع، فضَّلتُ دفتر التلوين وفي خلفيته رمز استجابة سريعة يخوّلهم مسحه الاستماع المجاني إلى الأغنيات ومشاهدتها مرسومة، فتنتشل خيالاتهم من الأيام الصعبة».

تُخطّط تانيا صالح لجولة في بعلبك وجنوب لبنان؛ «إنْ لم تحدُث مفاجآت تُبدِّل الخطط». وتشمل الجولة مناطق حيث الأغنية قد لا يطولها الأولاد، والرسوم ليست أولوية أمام جوع المعدة. تقول: «أتطلّع إلى الأطفال فأرى تلك السنّ التي تستحقّ الأفضل. لا تهمّ الجنسية ولا الانتماءات الأخرى. أريد لموسيقاي ورسومي الوصول إلى اللبناني وغيره. على هذا المستوى من العطف، لا فارق بين أصناف الألم. ليس للأطفال ذنب. ضآلة مدّهم بالعِلم والموسيقى والرسوم، تُوجِّه مساراتهم نحو احتمالات مُظلمة. الطفل اللبناني، كما السوري والفلسطيني، جدير بالحياة».

تعود إلى لبنان لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه للأطفال (صور تانيا صالح)

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال، تشعر أنها تستريح: «الآن أدّيتُ دوري». الفعل الفنّي هنا، تُحرّكه مشهديات الذاكرة. تتساءل: «كم حرباً أمضينا وكم منزلاً استعرنا لننجو؟». ترى أولاداً يعيشون ما عاشت، فيتضاعف إحساس الأسى. تذكُر أنها كانت في نحو سنتها العشرين حين توقّفت معارك الحرب الأهلية، بعد أُلفة مريرة مع أصوات الرصاص والقذائف منذ سنّ السادسة. أصابها هدوء «اليوم التالي» بوجع: «آلمني أنني لستُ أتخبَّط بالأصوات الرهيبة! لقد اعتدْتُها. أصبحتُ كمَن يُدمن مخدِّراً. تطلَّب الأمر وقتاً لاستعادة إيقاعي الطبيعي. اليوم أتساءل: ماذا عن هؤلاء الأطفال؛ في غزة وفي لبنان، القابعين تحت النار... مَن يرمِّم ما تهشَّم؟».

تريد الموسيقى والرسوم الوصول إلى الجميع (صور تانيا صالح)

سهَّلت إقامُتها الباريسية ولادةَ الألبوم المُحتفَى به في «دار المنى» بمنطقة البترون الساحلية، الجمعة والأحد، بالتعاون مع شباب «مسرح تحفة»، وهم خلف نشاطات تُبهج المكان وزواره. تقول إنّ المسافة الفاصلة عن الوطن تُعمِّق حبَّه والشعور بالمسؤولية حياله. فمَن يحترق قد يغضب ويعتب. لذا؛ تحلَّت بشيء من «راحة البال» المحرِّضة على الإبداع، فصقلت ما كتبت، ورسمت، وسجَّلت الموسيقى؛ وإنْ أمضت الليالي تُشاهد الأخبار العاجلة وهي تفِد من أرضها النازفة.

في الألبوم المُسمَّى «لعب ولاد زغار»، تغنّي لزوال «الوحش الكبير»، مُختَزِل الحروب ومآسيها. إنها حكاية طفل يشاء التخلُّص من الحرب ليكون له وطن أحلى. تقول: «أريد للأطفال أن يعلموا ماذا تعني الحروب، عوض التعتيم عليها. في طفولتي، لم يُجب أحد عن أسئلتي. لم يُخبروني شيئاً. قالوا لي أنْ أُبقي ما أراه سراً، فلا أخبره للمسلِّح إنْ طرق بابنا. هنا أفعل العكس. أُخبر الأولاد بأنّ الحروب تتطلّب شجاعة لإنهائها من دون خضوع. وأُخبرهم أنّ الأرض تستحق التمسُّك بها».

وتُعلِّم الصغار الأبجدية العربية على ألحان مألوفة، فيسهُل تقبُّل لغتهم والتغنّي بها. وفي الألبوم، حكاية عن الزراعة وأخرى عن النوم، وثالثة عن اختراع طفل فكرة الإضاءة من عمق خيمته المُظلمة. تقول إنّ الأخيرة «حقيقية؛ وقد شاهدتُ عبر (تيك توك) طفلاً من غزة يُفكّر في كيفية دحض العتمة لاستدعاء النور، فألهمني الكتابة. هذه بطولة».

من القصص، تبرُز «الشختورة» (المركب)، فتروي تانيا صالح تاريخ لبنان بسلاسة الكلمة والصورة. تشاء من هذه الحديقة أن يدوم العطر: «الألبوم ليس لتحقيق ثروة، وربما ليس لاكتساح أرقام المشاهدة. إنه شعوري بتأدية الدور. أغنياته حُرّة من زمانها. لم أعدّها لليوم فقط. أريدها على نسق (هالصيصان شو حلوين)؛ لكلّ الأيام».