في خطوة أضرمت النار في هشيم النسيج الاجتماعي الأميركي، ألغت المحكمة العليا حق الإجهاض، فولّدت موجة من الجدل سلّط الضوء على دور المحكمة البارز والنفوذ غير المعلن الذي تتمتع به في الساحة السياسية الأميركية.
فالمحكمة التي تقع على بعد خطوات قليلة من مبنى الكونغرس، هي السلطة القضائية الأعلى في البلاد، ولها الكلمة الفصل في كل القرارات القضائية المثيرة للجدل. وعلى الرغم من أنها منفصلة كلياً عن السلطتين: التنفيذية الممثلة بالبيت الأبيض، والتشريعية الممثلة بالكونغرس، ارتكازاً على مبدأ فصل السلطات، فإن قراراتها تنعكس مباشرة على السلطتين، وتؤثر على قدرة الحزبين الديمقراطي والجمهوري في إدارة البلاد.
وتُعنى المحكمة بالنظر في قضايا مصيرية متعلقة بمستقبل الأميركيين وغيرهم، من ملف الرعاية الصحية إلى حمل السلاح، والإجهاض، وحقوق المثليين، والهجرة، وحظر السفر. لهذا حرص الرؤساء الأميركيون على تعيين قضاة يتقاربون معهم آيديولوجياً، للدفع باتجاه هذه الملفات. وبما أن منصب قاضٍ في المحكمة العليا يُعدّ من أهم المناصب في الولايات المتحدة، كون صاحبه يشغله لمدى الحياة أو حتى تقاعده، يتنازع عليه الجمهوريون والديمقراطيون بمجرد أن يصبح شاغراً.
- أوباما وعرقلة الجمهوريين
لعلّ النزاع الأبرز كان في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، عندما فارق القاضي المحافظ أنتوني سكاليا الحياة في عام 2016. حينها طرح أوباما اسم مرشحه، وزير العدل الحالي، ميريك غارلاند خلفاً لسكاليا؛ لكن مجلس الشيوخ بأغلبيته الجمهورية رفض النظر في المصادقة على غارلاند، بحجة أن الترشيح جاء في عام انتخابي. وبرر الجمهوريون معارضتهم هذه بالقول إن الرئيس المقبل هو الذي يجب أن يعين بديلاً؛ لأن التعيين لمدى الحياة؛ إلا أنّ السبب الفعلي وراء معارضتهم كمن في تخوفهم من أن يؤدي انتقال مقعد سكاليا المحافظ إلى يد الديمقراطيين، وترجيح كفة المحكمة بالتالي لصالح الليبراليين.
وخير دليل على ذلك هو عندما غيّر الحزب الجمهوري موقفه بعد وفاة القاضية الليبرالية روث بايدرغينزبرغ، في نهاية عهد ترمب في عام 2020. حينها، وافق الجمهوريون الذين سيطروا على مجلس الشيوخ على النظر في المصادقة على مرشح ترمب المحافظ، في خضم الموسم الانتخابي، لتكون الرسالة واضحة: الحزب الذي يتمتع بأغلبية الأصوات في مجلس الشيوخ هو الذي يحدد قواعد اللعبة.
- «الخيار النووي»
لكن الأمور لم تكن على هذا النحو قبل عام 2013. فقد كانت قواعد اللعبة في مجلس الشيوخ مختلفة، لتعطي مزيداً من الصلاحيات لحزب الأقلية في المجلس؛ إذ تطلّبت مصادقة مجلس الشيوخ على تعيينات الرئيس حينها 60 صوتاً، وليس الأغلبية البسيطة كما هي الحال في يومنا هذا.
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، قرر زعيم الأغلبية الديمقراطية حينها هاري ريد إلغاء «قاعدة الستين»، بحجة أن الجمهوريين عطّلوا كثيراً من تعيينات أوباما، فاستعمل ما بات معروفاً بـ«الخيار النووي» نظراً لخطورته الفائقة على موازين القوى في الكونغرس. وتخطى المعارضة الجمهورية عبر فرض قاعدة الأغلبية البسيطة للمصادقة على كل تعيينات الرئيس، باستثناء تعيينات المحكمة العليا.
إلا أنّ السحر انقلب على الساحر، وما فعله ريد في عام 2013 مهّد الطريق أمام زعيم الأغلبية الجمهوري ميتش مكونيل، لفرض القاعدة نفسها على تعيينات المحكمة العليا في عام 2017، للتغلب على المعارضة الديمقراطية لمرشح الرئيس الأميركي دونالد ترمب لمنصب قاضٍ في المحكمة العليا، القاضي المحافظ نيل غورسوتش، خلفاً لسكاليا. وتمكن مجلس الشيوخ من المصادقة على مرشحي ترمب الثلاثة: غورسوتش، ومن بعده تيد كفناه خلفاً للمعتدل أنتوني كينيدي، ثم إيمي كوني باريت خلفاً لغينزبرغ، بفضل هذا الإجراء.
ويعد ترمب من الرؤساء «المحظوظين» لأنه تمكّن من تعيين 3 قضاة محافظين في المحكمة العليا في عهده، ما أدى إلى ترجيح الكفة تماماً لصالح المحافظين في المحكمة المؤلفة من 9 قضاة، ليصبح عددهم 6 مقابل 3 ليبراليين.
- أهمية تعيين القضاة
دفع الجمهوريون خلال سيطرتهم على مجلس الشيوخ نحو تعيين قضاة محافظين، على أمل أن يؤدي هذا إلى مساعدتهم على إلغاء قضايا مهمة، أبرزها قضية الإجهاض، المعروفة بـ«رو ضد وايد». وهذا ما حصل. كما يعوّل الجمهوريون على قلب قضية «أوبرغيفل ضد هودجز» التي تعترف بحق المثليين في الزواج، وإلغاء مشروع الرعاية الصحية المعروف بـ«أوباما كير»، ورفع الحماية عن المهاجرين غير الشرعيين.
- حل الديمقراطيين: زيادة عدد القضاة
بمواجهة هذه التحديات، واعتراف الديمقراطيين الضمني بأنهم لن يتمكنوا من وقف المدّ المحافظ على المحكمة، ينظر البعض منهم إلى زيادة عدد القضاة التسعة الموجودين فيها. لكن هذه الطروحات تواجه تحديات جمة. وإذا كان التاريخ شاهداً، فإن مساعيهم هذه لن تبصر النور. إذ سبق للرئيس الأميركي السابق ثيودور روزفلت أن حاول زيادة مقاعد المحكمة العليا لـ15 مقعداً في عام 1937؛ لكنه جوبه بمعارضة شرسة في مجلس الشيوخ الذي وصف هذه الخطوة بـ«انتهاك صارخ وغير مسبوق للسلطة القضائية». وصوّت مجلس الشيوخ ضد طرح روزفلت حينها.
> المحكمة بالوقائع والأرقام
- أُسست المحكمة العليا بموجب البند الثالث من الدستور الأميركي، في 24 من سبتمبر (أيلول) 1789، وكانت المحكمة حينها مؤلفة من 6 قضاة؛ لكن الكونغرس قرّر في عام 1869 أن يحدد عدد القضاة فيها بـ9 يترأسهم كبير القضاة، ويعينهم الرئيس الأميركي ويصادق عليهم مجلس الشيوخ.
وبما أنهم يخدمون في منصبهم مدى الحياة، فلا يمكن طردهم من المنصب إلا من خلال خلعهم من قبل الكونغرس الأميركي بتهمة الفساد أو انتهاك السلطة، وهو أمر لم يحصل قط في التاريخ الأميركي.
- اجتمعت المحكمة العليا الأميركية للمرة الأولى بعد تأسيسها في الثاني من فبراير (شباط) من عام 1790، في ولاية نيويورك. بعدها انتقلت إلى مدينة فيلاديلفيا، ثم إلى العاصمة الأميركية واشنطن. ولم تحصل المحكمة على مبناها الخاص والمعروف في واشنطن حتى عام 1935، أي في الذكرى الـ146 من تأسيسها.
- خدم في تاريخ المحكمة 115 قاضياً، 5 منهم فقط من النساء، وواحدة فقط من أصول لاتينية وهي سونيا سوتومايور التي عينها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في عام 2009.
- يجلس القضاة التسعة على منصة المحكمة بحسب تراتبية خدمتهم، فيحتلّ كبير القضاة مقعد المنتصف، ويتوزع إلى يمينه وشماله القضاة بحسب تاريخ خدمتهم، فيجلس الأقدم منهم إلى يمينه والذي يتبعه إلى يساره، وهكذا دواليك.
- يتقاضى كبير القضاة قرابة 267 ألف دولار سنوياً، بينما يصل راتب القضاة الآخرين إلى نحو 255 ألف دولار في العام.
- ويليام هوارد تافت، هو القاضي الوحيد في تاريخ الولايات المتحدة الذي خدم أيضاً رئيساً للبلاد. وقد عُين في المحكمة بعد أعوام من انتهاء ولايته رئيساً.
> أبرز الأحكام السابقة للمحكمة العليا
- «هاواي ضد ترمب» في 2018 (5 مع - 4 ضد): هو الحكم القاضي بدعم حظر السفر الذي أصدره الرئيس الأميركي دونالد ترمب. ففي عام 2018، حكمت المحكمة لصالح الإدارة في القضية المعروفة باسم «هاواي ضد ترمب»؛ حيث قدمت ولاية هاواي دعوى بحق إدارة ترمب بسبب قرار حظر السفر بتهمة انتهاك الدستور، والانحياز ضد المسلمين. لكن المحكمة قررت بدعم 5 قضاة ومعارضة 4، أن الرئيس الأميركي لديه الصلاحيات لحماية حدود البلاد، وأن تصريحاته السابقة المعارضة للمسلمين لا تجرده من صلاحياته الدستورية.
- «رو ضد وايد» في 1973 (7 مع - 2 ضد): أقرت المحكمة حق المرأة الدستوري في الإجهاض خلال الأشهر الستة الأولى من الحمل، لتعود وتبطل قرارها هذا العام بدعم 6 ومعارضة 3.
- «الولايات المتحدة ضد نيكسون» في 1974 (8 مع - 0 ضد): هو القرار الذي أنهى عهد ريتشارد نيكسون؛ إذ حكمت المحكمة بأغلبية 8 أصوات لصالح تسليم نيكسون أشرطة «واترغايت»، وقالت إن الرئيس الأميركي لا يستطيع استعمال صلاحياته التنفيذية لإخفاء أدلة في محاكمات جنائية. حينها لم يدلِ القاضي ويليام رينكويست بصوته، بسبب دوره السابق نائباً لوزير العدل في إدارة نيكسون.
- «بوش ضد غور» في 2000 (5 مع - 4 ضد): حسمت المحكمة الخلاف بين الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن ومنافسه الديمقراطي آل غور، في الانتخابات الرئاسية. فحكمت لصالح بوش ضد إعادة احتساب الأصوات في ولاية فلوريدا.
- «مقاطعة كولومبيا ضد هيلر» في 2008 (5 مع - 4 ضد): أعطت المحكمة للأميركيين حق امتلاك السلاح في منازلهم للدفاع عن النفس.
- «اتحاد الشركات المستقلة ضد سيبيليوس» في 2012 (5 مع - 4 ضد): حمت المحكمة قرار إدارة أوباما القاضي بأن على كل الأميركيين أن يحصلوا على تأمين صحي.
- «أوبرغيفل ضد هودجز» في 2015 (5 مع - 4 ضد): شرّعت المحكمة زواج مثليي الجنس في كل الولايات الأميركية الخمسين.
هل مالت كفة المحكمة الأميركية العليا؟
قصة بسط المحافظين سيطرتهم في غياب «الخيار النووي»
هل مالت كفة المحكمة الأميركية العليا؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة