ماذا نحتاج؟ متخصّصين أم عابرين للتخصص؟

كلّ ما تقدّمه كبريات الجامعات والمعاهد العالمية المرموقة صار متاحاً عبر الإنترنت

سيهاو هوانغ  -  مانفرد شتاينر
سيهاو هوانغ - مانفرد شتاينر
TT

ماذا نحتاج؟ متخصّصين أم عابرين للتخصص؟

سيهاو هوانغ  -  مانفرد شتاينر
سيهاو هوانغ - مانفرد شتاينر

أحد الأسئلة التي تلحُّ عليّ - وقد يلحّ على معظمنا – هو؛ لماذا لا نرى نظائر لكبار فلاسفة وعلماء عصر العقلنة والتنوير في أيامنا هذه؟ لماذا لا نشهدُ «لايبنتز» أو «سبينوزا» أو «نيوتن» في ثوب معاصر؟ لا يُقصَدُ من هذا السؤال بالتأكيد القولُ بعدم وجود فلاسفة أو علماء رفيعي الطراز في عصرنا هذا ممن يماثلون رفعة أسلافهم؛ لكنّ المقصود الدقيق هو التالي؛ لماذا لم نعُدْ نشهدُ في عصرنا هذا شخصياتٍ تمتلكُ إمكانات معرفية عابرة للحدود القارّة وخارقة في مدياتها بالقدر الذي تجعل صاحبها مستحقاً لأن يوسم بخصيصة كونه خارق المعرفة في ميادين مختلفة Polymath على نحو ما فعل لايبنتز أو سبينوزا أو نيوتن أو سواهم؟ هناك بالطبع فيزيائيون عظماء في عصرنا، وكذا يوجد رياضياتيون وفلاسفة وكيميائيون وأدباء وروائيون وعلماء اقتصاد واجتماع ذائعو الصيت؛ لكن لا يوجد بينهم من جمع أطراف هذه التوجهات المعرفية في إهاب شخصية واحدة، أو في الأقلّ فإنّ سمات عصرنا وأنساقنا التعليمية وطرازاتنا الثقافية ما عادت تشجّعُ بزوغ مثل هذه الشخصيات.
قد يبدو مثال إنسان عصر النهضة Renaissance Man، المعقلن التوّاق للترحل بين غابات المعرفة، مثالاً بعيداً وعصياً على التحقق في أيامنا هذه، ولو سألنا طائفة واسعة من البشر ذوي الخلفيات المهنية والعلمية المتباينة فلعلّهم سيشتركون في رؤية واحدة؛ أنّ مثال عصر النهضة لم يعُد قائماً بيننا لأسباب كثيرة، أهمها تعقّد أبواب المعرفة، وكثرة مصادرها، والتفجر المعلوماتي الرهيب، إلى جانب جملة من أسباب أخرى استوجبت سيادة فكرة التخصص، وهكذا صار المتخصصون Specialists أحد أبرز عناوين حياتنا.
لكن في مقابل هذه المقاربة التخصصية تشيع اليوم مقاربة أخرى مضادة لها، ترى أنّ المتخصصين بمستطاعهم بلوغ سقوف بحثية ومعرفية محدّدة يقفون عندها ولا يستطيعون تجاوزها، وأنّ عدم القدرة على التجاوز لا ينبعُ من نقص في أدواتهم المعرفية، وإنما لافتقادهم إلى رؤية صورة أشمل للروابط الخفية بين الموضوعات التي قد تبدو متنافرة للوهلة الأولى. صارت الدعوة إلى إشاعة نمط العابرين للتخصصات The Generalists تلقى قبولاً متزايداً في الدوائر الأكاديمية والعامة.
ظهر في السنوات الأخيرة كثير من الكتب التي تناولت هذه الموضوعة، ولعلّ من أكثرها صيتاً وشيوعاً وتحقيقاً لمقروئية عالية هو الكتاب المعنون «المدى»؛ لماذا يحقق العابرون للتخصصات انتصارات كبرى في عالم غارق في التخصص؟
Range: Why Generalists Triumph in a Specialized World
الكتاب منشور عام 2019، ومؤلف الكتاب هو ديفيد إبشتاين David Epstein. تكفي صورة غلاف الكتاب لتكون دلالة لا تخفى على طبيعة الموضوع؛ إذ ثمة عدد من المفاتيح مربوطة في حزمة واحدة؛ الأمر الذي يشير إلى أنّ العابرين للتخصصات صاروا بمثابة موجدي حلول لمشكلات Problem Solvers باتت تهدد وجودنا الحيوي على هذه الأرض.
«هناك أشياء كثيرة في الأرض والسماء يا هوراشيو غير التي حلمت بها في فلسفتك»، بهذه العبارة يخاطب هاملت صديقه هوراشيو، مؤشراً إلى حقيقة وجودية جوهرها «استيلاء النقص على جُملة البشر»، كما يعبر عماد الدين الأصفهاني. النقص هنا، وهو نقصٌ معرفي، ليس نقصاً معيباً أو مثلبة أخلاقية بقدر ما هو إشارة إلى طبيعة ملازمة للوجود البشري. لنقلْ إنه خصيصة أبستمولوجية لا مفرّ من نكرانها أو الالتفاف عليها، لأنها بعضُ طبائع المعرفة البشرية المقترنة بعاملين يعملان ضديدين، أحدهما للآخر؛ تفجّر معرفي من جانب، وتضاؤل في حدود المعرفة الفردية من جانب آخر.
يعيشُ أغلبنا غير مبالٍ بهذه الخصيصة الملازمة للوجود البشري؛ فهو يكتفي بأن يلمّ بجانب من المعرفة البشرية ليطوّعها بصورة عملية تكفلُ له خبرة محدّدة في نطاق ما، وهو ما يتكفّلُ بتدبير لوازم عيشه. هكذا نشأ المتخصّص Specialist، ونشأت المهنة Career المعتمدة على تخصص في نطاق عملي أو أكاديمي، وتطوّر الأمر حتى استحال قبولاً جمعياً على نطاق عالمي.
لكن ثمّة أناساً في هذا العالم لا يقتنعون بهذه الترسيمة القارّة. قد يكون هؤلاء من المتخصّصين؛ لكنّ صدورهم تضيق لو مكثوا في نطاق مهنهم أو تخصّصاتهم وقتاً طويلاً؛ لذا يفرِدُ هؤلاء جزءاً من وقت يومهم للبحث والاستكشاف في نطاقات معرفية غير تلك التي تخصّصوا فيها، وفي الغالب يتحوّل هذا الطقس إلى عادة يومية، ساعتان أو 3 ساعات ما قبل النوم - مثلاً - يفردُها المرء للقراءة في كتبٍ محدّدة، قد تكون بعيدة للغاية عن نطاقه المعرفي. هي بعيدة بحسب ما يعتقد الناس؛ لكنها ليست بعيدة بحسب ما يرى ذلك الشخص، لأنه وحده من يرى خيوطاً خفية بين الحقول المعرفية. أمثالُ هؤلاء يوصفون في الأدبيات الحديثة بأنهم عابرون للتخصصات Generalists، وتعريفهم الدقيق هو الناس الذين يجدون ولعاً طاغياً وشغفاً لا حدود له في استكشاف نطاقات معرفية مختلفة، واكتشاف روابط خفية بينها، وهم لا يطيقون المكوث في ساحة معرفية واحدة، ولو أجبروا على هذا الأمر فقد يتطوّر الأمر لديهم إلى حالات اكتئاب عنيدة وتداعٍ في القدرة على العمل والإنتاج؛ بل قد يستحيل الأمر ذهاناً عقلياً خطيراً له تبعاتٌ مأساوية.
لكن لنكنْ دقيقين ومحدّدين في توصيف الأمور؛ كثير منّا قد يجدُ لذّة في بعض القراءات المغايرة لسياق تخصصه؛ غير أنّ هذا لا يعني أنه صار من جماعة العابرين للتخصصات. ما يميّز هؤلاء الأخيرين هو شغفٌ طاغٍ لا حدود لمدياته، وعملٌ مثابر لا يعرف النكوص والتراخي، والانكباب على قراءات معرفية دقيقة، وليس محض قراءات سياحية عابرة. نحنُ إزاء أناسٍ شديدي الانضباط، ولديهم حساسية – تكاد تكون مرضية – تجاه فواعل الزمن. لا يريدون إضاعة دقيقة من غير فاعلية منتجة من وجهة نظرهم.

هل يمكنُ أن يكون أحدنا واحداً من هؤلاء العابرين للتخصصات؟ نعم بالتأكيد، لو تملك ذلك النوع الخارق وغير المعهود من الشغف، وامتلك وصلة إنترنت. الإنترنت صار صندوق أعاجيب الدنيا، وكلّ ما تقدّمه كبريات الجامعات والمعاهد العالمية المرموقة صار متاحاً لنا، وليس ثمّة من حجّة نقص المصادر المعرفية تقف عائقاً. يقدّم لنا الإنترنت كلّ يوم نماذج متقدّمة من هؤلاء، وهم كثرٌ. هاكم مثالاً؛ سيهاو هوانغ Sihao Huang، الصيني السنغافوري الأصل، الذي هاجر إلى الولايات المتحدة وهو شاب، يدرسُ الفيزياء والرياضيات والهندسة الكهربائية وعلوم الحاسوب في معهد MIT المعروف بسمعته الأكاديمية العالمية، ويخطّط لتطبيق رياضيات النظم المعقدة على نطاق العلوم السياسية، وقبل مواصلة دراسته في قسم العلوم السياسية في MIT ارتأى أن يأخذ فسحة دراسية يقضيها في جامعة أكسفورد لدراسة منهاجها الدراسي الثلاثي الشهير في الفلسفة والاقتصاد والسياسة.
مثال آخر، تابعتُ قبل بضعة أشهر حكاية البروفسور مانفرد شتاينر Manfred Steiner، المواطن النمساوي – الأميركي، الذي احتفل قبل بضعة أشهر بعيد ميلاده التسعين، وسيكون لهذه الاحتفالية طعمٌ خاص، لأنّ شتاينر سُجّل اسمه في موسوعة غينيس للأرقام القياسية أكبر شخص حصل على الدكتوراه الثانية، وهو بهذا العمر.
المثيرُ في حياة شتاينر أنه ظلّ مشغوفاً كلّ حياته المهنية بالعمل على تحقيق حلمه، أن يكون فيزيائياً. أنهى شتاينر دراسته الثانوية في فيينا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ونصحه حينئذ عمه وأمه ألا يغامر بدراسة الفيزياء، لأنها قد تكون توجهاً مهنياً بعيداً عن متطلبات أوروبا عقب نهاية الحرب. كان الطب هو ما نصحاه به؛ فلم يخذلهما، وفي الوقت ذاته لم يخذل حلمه ويتركه ينزوي في قعر النسيان. درس شتاينر الطب، وحصل على شهادة M.D المعروفة فيه، ثمّ هاجر إلى الولايات المتحدة ودرس في جامعات عدّة حتى حصل على شهادة الدكتوراه الأولى في حقل الكيمياء الحيوية، وعمل في الوقت ذاته أستاذاً لعلم أمراض الدم Hematology في جامعة براون. تقاعد شتاينر من عمله عام 2000 وهو في سن السبعين، وهنا بدأ بالإمساك بحلمه القديم الذي لم يطوِهِ النسيان؛ فحضر دروس فيزياء أولية ومتقدّمة في MIT الشهير في مدينة بوستن، ثم نقل دراساته إلى جامعته القديمة، جامعة براون. توّج شتاينر حلمه بالحصول على دكتوراه في الفيزياء النظرية قبل بضعة أسابيع من يومنا هذا. كان شتاينر يبتغي أول الأمر الحصول على دكتوراه في الفيزياء النووية؛ لكنّه فضّل الفيزياء النظرية آخر الأمر لأنه لم يشأ أن يستخدم في دراسته أكثر من عقله مدعوماً بحاسوب وأقلام وأوراق. ثمة كثير من الحديث المسهب عن عمل شتاينر في الموقع الرسمي لجامعة براون، وسأكتفي بالقول إنه عمل ينتمي لحقل البحوث الأساسية في الفيزياء. ليس بوسع الواحد منا سوى أن يمتلئ نشوة وبهجة عند قراءة مثل هذه الأخبار التي تكشف لنا حيوية العقل البشري وقدرته اللانهائية على الإبداع الخلاق.
هاملت على حقّ بالطبع. سيكون طموحاً غير قابل للتحقق إن نحنُ سعينا لمعرفة كلّ ما في السماء والأرض؛ لكن يمكن لكلّ منّا أن يفهم أشياء – ولو قليلة – مما في السماء والأرض لو امتلك شغفاً لا حدود له، ووصلة إنترنت. تلك حقيقة ماثلة لا أظنها ستكون موضع نزاع بعد اليوم.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
TT

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)

أمَّنت الإقامة في باريس للفنانة اللبنانية تانيا صالح «راحة بال» تُحرِّض على العطاء. تُصرُّ على المزدوجَين «...» لدى وصف الحالة، فـ«اللبناني» و«راحة البال» بمعناها الكلّي، نقيضان. تحطّ على أراضي بلادها لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه إلى الأطفال. موعد التوقيع الأول؛ الجمعة 6 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. والأحد (8 منه) تخصّصه لاستضافة أولاد للغناء والرسم. تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة.

تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة (صور تانيا صالح)

وطَّد كونها أُماً علاقتها بأوجاع الطفولة تحت النار؛ من فلسطين إلى لبنان. تُخبر «الشرق الأوسط» أنها اعتادت اختراع الأغنيات من أجل أن ينام أطفالها وهم يستدعون إلى مخيّلاتهم حلاوة الحلم. لطالما تمنّت الغناء للصغار، تشبُّعاً بأمومتها وإحساسها بالرغبة في مَنْح صوتها لمَن تُركوا في البرد واشتهوا دفء الأحضان. تقول: «أصبح الأمر مُلحّاً منذ تعرُّض أطفال غزة لاستباحة العصر. لمحتُ في عيون أهاليهم عدم القدرة على فعل شيء. منذ توحُّش الحرب هناك، وتمدُّد وحشيتها إلى لبنان، شعرتُ بأنّ المسألة طارئة. عليَّ أداء دوري. لن تنفع ذرائع من نوع (غداً سأبدأ)».

غلاف الألبوم المؤلَّف من 11 أغنية (صور تانيا صالح)

وفَّر الحبُّ القديم لأغنية الطفل، عليها، الكتابةَ من الصفر. ما في الألبوم، المؤلَّف من 11 أغنية، كُتب من قبل، أو على الأقل حَضَرت فكرته. تُكمل: «لملمتُ المجموع، فشكَّل ألبوماً. وكنتُ قد أنقذتُ بعض أموالي خشية أنْ تتطاير في المهبّ، كما هي الأقدار اللبنانية، فأمّنتُ الإنتاج. عملتُ على رسومه ودخلتُ الاستوديو مع الموسيقيين. بدل الـ(CD)؛ وقد لا يصل إلى أطفال في خيامهم وآخرين في الشوارع، فضَّلتُ دفتر التلوين وفي خلفيته رمز استجابة سريعة يخوّلهم مسحه الاستماع المجاني إلى الأغنيات ومشاهدتها مرسومة، فتنتشل خيالاتهم من الأيام الصعبة».

تُخطّط تانيا صالح لجولة في بعلبك وجنوب لبنان؛ «إنْ لم تحدُث مفاجآت تُبدِّل الخطط». وتشمل الجولة مناطق حيث الأغنية قد لا يطولها الأولاد، والرسوم ليست أولوية أمام جوع المعدة. تقول: «أتطلّع إلى الأطفال فأرى تلك السنّ التي تستحقّ الأفضل. لا تهمّ الجنسية ولا الانتماءات الأخرى. أريد لموسيقاي ورسومي الوصول إلى اللبناني وغيره. على هذا المستوى من العطف، لا فارق بين أصناف الألم. ليس للأطفال ذنب. ضآلة مدّهم بالعِلم والموسيقى والرسوم، تُوجِّه مساراتهم نحو احتمالات مُظلمة. الطفل اللبناني، كما السوري والفلسطيني، جدير بالحياة».

تعود إلى لبنان لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه للأطفال (صور تانيا صالح)

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال، تشعر أنها تستريح: «الآن أدّيتُ دوري». الفعل الفنّي هنا، تُحرّكه مشهديات الذاكرة. تتساءل: «كم حرباً أمضينا وكم منزلاً استعرنا لننجو؟». ترى أولاداً يعيشون ما عاشت، فيتضاعف إحساس الأسى. تذكُر أنها كانت في نحو سنتها العشرين حين توقّفت معارك الحرب الأهلية، بعد أُلفة مريرة مع أصوات الرصاص والقذائف منذ سنّ السادسة. أصابها هدوء «اليوم التالي» بوجع: «آلمني أنني لستُ أتخبَّط بالأصوات الرهيبة! لقد اعتدْتُها. أصبحتُ كمَن يُدمن مخدِّراً. تطلَّب الأمر وقتاً لاستعادة إيقاعي الطبيعي. اليوم أتساءل: ماذا عن هؤلاء الأطفال؛ في غزة وفي لبنان، القابعين تحت النار... مَن يرمِّم ما تهشَّم؟».

تريد الموسيقى والرسوم الوصول إلى الجميع (صور تانيا صالح)

سهَّلت إقامُتها الباريسية ولادةَ الألبوم المُحتفَى به في «دار المنى» بمنطقة البترون الساحلية، الجمعة والأحد، بالتعاون مع شباب «مسرح تحفة»، وهم خلف نشاطات تُبهج المكان وزواره. تقول إنّ المسافة الفاصلة عن الوطن تُعمِّق حبَّه والشعور بالمسؤولية حياله. فمَن يحترق قد يغضب ويعتب. لذا؛ تحلَّت بشيء من «راحة البال» المحرِّضة على الإبداع، فصقلت ما كتبت، ورسمت، وسجَّلت الموسيقى؛ وإنْ أمضت الليالي تُشاهد الأخبار العاجلة وهي تفِد من أرضها النازفة.

في الألبوم المُسمَّى «لعب ولاد زغار»، تغنّي لزوال «الوحش الكبير»، مُختَزِل الحروب ومآسيها. إنها حكاية طفل يشاء التخلُّص من الحرب ليكون له وطن أحلى. تقول: «أريد للأطفال أن يعلموا ماذا تعني الحروب، عوض التعتيم عليها. في طفولتي، لم يُجب أحد عن أسئلتي. لم يُخبروني شيئاً. قالوا لي أنْ أُبقي ما أراه سراً، فلا أخبره للمسلِّح إنْ طرق بابنا. هنا أفعل العكس. أُخبر الأولاد بأنّ الحروب تتطلّب شجاعة لإنهائها من دون خضوع. وأُخبرهم أنّ الأرض تستحق التمسُّك بها».

وتُعلِّم الصغار الأبجدية العربية على ألحان مألوفة، فيسهُل تقبُّل لغتهم والتغنّي بها. وفي الألبوم، حكاية عن الزراعة وأخرى عن النوم، وثالثة عن اختراع طفل فكرة الإضاءة من عمق خيمته المُظلمة. تقول إنّ الأخيرة «حقيقية؛ وقد شاهدتُ عبر (تيك توك) طفلاً من غزة يُفكّر في كيفية دحض العتمة لاستدعاء النور، فألهمني الكتابة. هذه بطولة».

من القصص، تبرُز «الشختورة» (المركب)، فتروي تانيا صالح تاريخ لبنان بسلاسة الكلمة والصورة. تشاء من هذه الحديقة أن يدوم العطر: «الألبوم ليس لتحقيق ثروة، وربما ليس لاكتساح أرقام المشاهدة. إنه شعوري بتأدية الدور. أغنياته حُرّة من زمانها. لم أعدّها لليوم فقط. أريدها على نسق (هالصيصان شو حلوين)؛ لكلّ الأيام».