ما زالت العلاقة بين الحرية والسينما قضية شائكة؛ فإذا كانت السينما وهي تقدم الإبداع الإنساني من خلال الصورة توفر في السياق ذاته مساحات خصبة للرؤى والأفكار والأداء ضمن قوالب فنية متعددة، فإنه على الجانب الآخر هناك من يرفض أن تقوم أثناء ذلك بالخروج عما رسمه لها المجتمع والحكومات والموروثات الثقافية من أطر وخطوط لا ينبغي لها أن تتجاوزها.
ويُعد كتاب «أفلام للكبار فقط» للكاتب الصحافي المصري محمد رفعت، من أهم الكتب التي تناولت هذه العلاقة الشائكة بجرأة وموضوعية.
يرصد الكتاب الصادر عن «دار الهالة للنشر والتوزيع» مجموعة كبيرة من الأفلام «المشاغبة» منذ بدايات السينما المصرية وحتى وقتنا الراهن، ويسلط الضوء على ثراء الهوية السينمائية في رفضها لخنق الحريات، معتبراً «الفن السابع» كياناً قادراً على خلق حيز إنساني أكثر اتساعاً وعمقاً في الدلالة والتأثير من الفنون الأخرى. فهو من دون التورط في المباشرة التي من شأنها أن تنهك كثافة الفكرة والمعنى يستطيع خوض قضايا عديدة «ممنوعة» بالنسبة للبعض، إلى جانب تمرير مشاهد ذات دلالات رمزية بالغة الثراء والقدرة على التغيير.
يقول محمد رفعت لـ«الشرق الأوسط»: «تدور فكرة الكتاب حول المحظورات في السينما المصرية؛ إذ يتناول الأفلام التي حاولت السباحة ضد التيار واختراق الأسلاك الشائكة والموضوعات المثيرة للجدل، وتكسر التابوهات الثلاثة المعروفة، عبر خروجها من إطار الموضوعات التقليدية، كالرومانسية أو الصراعات الأسرية أو أفلام المخدرات، إلى قضايا ساخنة، أو إلى بعض قضايا الساعة التي يختلف حولها الجميع».
وبأسلوب سردي مشوق يتعرض المؤلف لمصير مجموعة من الأفلام التي خرجت عن المألوف أو الخط المرسوم لها، سواء كان ذلك لأسباب سياسية أو اجتماعية أو تاريخية، أو حتى فنية خالصة، ومن خلال ذلك نستطيع أن نقف على حجم التأثير الطاغي للسينما، وبراعتها في قراءة المشهد المعاصر لها من كافة الجوانب؛ بل التنبؤ بمستقبل مجتمعاتها. فنتعرف على سبيل المثال على حكاية فيلم «لاشين» في الثلاثينات من القرن الماضي، الذي ينتهي بثورة على الملكية، وفيلم «ليلى بنت الصحراء» إنتاج عام 1937، سيناريو وحوار وإخراج بهيجة حافظ، وبطولة راقية إبراهيم، وزكي رستم، وحسين رياض، والذي كان قد رُشح للعرض في «مهرجان البندقية»، وبعد سفر منتجته إلى إيطاليا للاشتراك في المهرجان صدر قرار عاجل من وزارة الخارجية المصرية بمصادرته، ومنع عرضه في الداخل والخارج لأسباب سياسية؛ إذ اعتبرته الحكومة الإيرانية آنذاك مسيئاً لتاريخ «كسرى أنوشروان» ملك الفُرس القديم. وقد صدر قرار المنع مجاملة للحكومة الإيرانية في ظل المصاهرة الملكية؛ حيث تم زواج ولي العهد الإيراني محمد رضا بهلوي من الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق.
كما يتطرق الكتاب إلى أفلام اصطدمت بالسلطة لفترة، على غرار «الله معنا»، و«شيء من الخوف». ويروي حكاية «الشيخ حسن» الذي مُنع بسبب تناوله لقصة زواج مسلم من مسيحية، وهي قضية لا تزال شائكة في مصر. ومنه إلى أفلام أخرى في فترات زمنية مختلفة أثارت جدلاً واسعاً، مثل: «المهاجر»، و«قلب الليل»، و«الرقص مع الشيطان»، و«الشحات»، و«غرباء»، و«الإرهابي»، و«حسن ومرقص»، و«الشيخ جاكسون».
يقول رفعت: «لا تزال القضية مستمرة ومطروحة بقوة؛ بل إن قائمة الممنوعات في الفن أصبحت أكثر اتساعاً وازدحاماً؛ ولا يزال هناك صراع شديد بين السينما من جهة، والرقابة من جهة أخرى، سواء كانت رسمية؛ أي (جهاز الرقابة على المصنفات الفنية)، أو الرقابة المجتمعية».
ويرى أن «منبع الصدام بشكل عام يعود إلى رفض الناس لأي جديد، أو لاستقبال أي أفكار مغايرة، أو حتى لمجرد طرحها أو مناقشتها، وأستطيع القول إن فكرة أن يكون هناك رأي ورأي آخر مخالف لا يزال يفصلنا عنها وقت طويل ومساحات شاسعة!».
صدور كتب تتعرض لمناقشة الأفلام الممنوعة، لا يعد نوعاً من التسلية؛ لكنه بمثابة اقتحام قضية هي نفسها توصف بـ«الشائكة»، وهي قضية حرية الإبداع، وحق الفنان في التطرق إلى كافة مجالات الحياة من دون قيود: «صدور كتب الحريات يساهم في تحرير الفكر والدعوة إلى التواصل مع الآخر والتعرف على أفكاره المغايرة لما هو سائد، كما أنه في الأساس تحية لصناع هذه الأعمال الذين تمتعوا بالجرأة، وتحملوا الغضب والاتهامات التي تنال منهم؛ بل تحملوا في بعض الأحيان تهديدات تصل إلى حد القتل، إلى جانب أن الذين وصلوا إلى مرحلة منع أفلامهم قد تكبدوا في واقع الأمر خسائر مادية ضخمة، فلكل هؤلاء نرفع القبعة».
إلى هذا، يُعد الكتاب أيضاً بمثابة توثيق للأفلام التي حاولت أن تتحدى المحظورات، لا سيما أنه يضم قائمة طويلة من الأفلام المهمة في تاريخ السينما المصرية، شارك في صناعتها رموز فنية كبيرة، يقول المؤلف: «لا يكاد يوجد نجم كبير؛ سواء كان مخرجاً أو ممثلاً أو منتجاً أو مؤلفاً، قد نجا من الاتهامات الظالمة بمحاولة تدمير المجتمع وقيمه، مثل يوسف شاهين، صاحب الرصيد الأكبر من الأفلام الجريئة، ونور الشريف الذي تعرض لحملة كبيرة لتخوينه حين قدم دور ناجي العلي؛ حيث لا ينسى الجمهور الإساءة له ومحاولات منعه من التمثيل، ووصل الأمر إلى تعرض بعض صناع الأفلام إلى التعرض لقضايا آداب، ومنهم الفنانان يحيي الفخراني ومعالي زايد حينما قدما (للحب قصة أخيرة)».
ويشدد رفعت على أن السينما ينبغي أن تتمتع بالحرية، قائلاً: «هذا أمر حتمي وضروري، يمكنها من أداء دورها التنويري والمجتمعي، ومن ثم قدرتها على التغيير، فمثلما نجحت بعض الأفلام في تغيير بعض القوانين، مثل (جعلوني مجرماً)، و(أريد حلاً)، و(عفواً أيها القانون)، فإنها تستطيع كذلك أن تحقق تغييراً حقيقياً في الأفكار والرؤى داخل المشاهدين، وهو إنجاز لا يقل أهمية عن تغيير القوانين».