هل من المعقول أن لا يعرف أي سينمائي أن أهم جائزة في أي مناسبة أو مهرجان تعلن في آخر الحفل؟ هل من المعقول أن لا يعرف سبايك لي هذه الحقيقة حتى ولو كانت هذه المرة الأولى التي يرأس فيها لجنة تحكيم دولية؟
الصحف الفرنسية تحدثت، أولاً على مواقعها ثم في تعليقات بعضها، عن الخطأ الفادح الذي قام به المخرج الأميركي سبايك لي عندما وقف - في مطلع حفل توزيع الجوائز - وقرأ أن الفائز بالسعفة الذهبية فيلم «تيتان». ثوانٍ قبل أن ينطلق الاسم سارع أعضاء لجنة التحكيم لتحذيره. استدار نحوهم متسائلاً. لكن الابتسامة لم تترك شفتيه لاحقاً.
حال نطقه اسم الفيلم صرخت فيه الممثلة الفرنسية ميلاني لوران «لا تفعل ذلك». المخرج البرازيلي كليبر مندوزا فيهو جمد في مكانه. الممثل الكوري كانغ هو سونغ ضحك طويلاً. الممثل الجزائري - الفرنسي طاهر رحيم سارع لاحتضان لي والتخفيف عنه. ثم انتقل من المقعد الخلفي لجانبه لكي يساعده في فهم ما يدور.
في نهاية الحفل اعتذر مخرج «مالكولم أكس» و«افعل الشيء الصحيح» و«حمى الغابة» من الحضور، وقال إنه لم يكن أمراً مقصوداً. رغم ذلك كاد أن يخطئ من جديد عندما أراد الإفصاح - رسمياً - عن الجائزة الكبرى قبل دخول الممثلة شارون ستون المبرمجة لتقديم الفقرة النهائية وإلقاء كلمتها.
«أمسية مثالية»
لكن قد تكون غلطة غير مقصودة أو هي على الأرجح كذلك. من تابع الحفل استمع إلى مقدمة الفقرات وهي تطلب من سبايك لي إعلان «الجائزة الأولى» وكانت تقصد أولى الجوائز ذكراً. نظر إليها مع قليل من التعجب، وتستطيع أن تدرك أنه اعتقد فعلاً أنها تسأله إعلان «الجائزة الأولى قيمة».
في المؤتمر الصحافي بعد ذلك، قدم سبايك لي اعتذاره. قال إنه قدم اعتذاره كذلك لمنظمي المهرجان: «قالوا لي Forget it».
لكن هذا الخطأ، بصرف النظر عن دواعيه، لم يكن سوى بداية سلسلة من الأخطاء والهفوات والارتباكات. واحد من الارتباكات المشهودة أن الممثل الشاب كالب لاندري جونز، الذي فاز عن الفيلم الأسترالي «نيترام» أمضى 20 ثانية على المنصة قال فيها «لا أستطيع أن أقوم بذلك»، ثم هرع تاركاً المنصة حاملاً جائزته معه.
وإحدى مقدمات الجوائز بدت تائهة وهي تقرأ وتنظر أمامها ثم تلتفت كما لو كانت تنتظر نجدة.
في النهاية لم تمتلك المخرجة الفرنسية جوليا دوكورناو، وقد اعتلت المنصة في نهاية الحفل لتسلم جائزة السعفة عن فيلمها «تيتان»، إلا أن تقول: «هذا المساء كان مثالياً لأنه كان غير مثالي تماماً».
ما بات تقليدياً، وسط كل هذه الفوضى، أن يتم إلقاء كلمة تعريفية بكل جائزة كما لو كانت المرة الأولى التي يمنح فيها الجائزة في ذلك الميدان. كلنا نعرف، مثلاً، ما هو السيناريو وأهميته، لكن «كان» (وسابقاً الأوسكار) ما يزال يجد أن واجبه الحديث عن قيمة السيناريو. كذلك الحال بالنسبة لباقي الميادين كالإخراج والتمثيل.
الفيلم الفائز بالسعفة الذهبية، «تيتان» لم يكن فيلماً عادياً. مزيج من حكايات الانتقام النسائي والعنف مع بعض الرعب وحتى بعض المطاردات. بطلة الفيلم، أغاثا روسيل، فتاة شابة تدخل المستشفى في حالة حرجة تتطلب جراحة تتضمن إدخال لوح تيتانيوم في رأسها. هذا يتركها بعلامة غائرة فوق أذنها اليمنى. تتبدى شخصيتها سريعاً بعد ذلك: عنيفة، متمردة، أحادية الرأي وذات تجارب تركت آثاراً غائرة في نفسها. ما يلي ذلك، بإجماع معظم النقاد، غريب. بل أكثر غرابة مما جنح إليه المخرج الفرنسي ليوس كاراكس الذي قدم فيلماً اختلفت الآراء من حوله عنوانه «أنيت». كاراكس فاز بجائزة أفضل مخرج عن هذا الفيلم الميوزيكال المختلف عن المتوقع في مثل هذه الأفلام.
اشتباك من نوع نادر
هناك سابقة في هذا الشأن، بالنسبة للمخرجة جوليا دوكورناو، وهي أنها المرة الثانية فقط (خلال سنوات المهرجان المديدة) التي تفوز بالسعفة الذهبية امرأة. المرة الأولى وقعت سنة 1993 عندما التقطت النيوزيلاندية جين كامبيون السعفة الذهبية عن فيلمها «البيانو»، أعلام ثلاث دول هي أستراليا ونيوزيلاندا وفرنسا.
كثيرون توقعوا هذا الفوز لأن حضور المرأة بالشكل الكثيف، الذي شمل أفلاماً عدة وخمسة أعضاء نساء في لجنة التحكيم (مقابل أربعة رجال). كان ذلك، بالنسبة لمن توقع فوز فيلم من إخراج امرأة، أمرا مفروغاً منه. آخرون توقعوا فوز فيلم فرنسي ما واختلفوا عما قد يكون (كان هناك سبعة أفلام من إنتاج فرنسي كامل أو غالب، ضمن 24 فيلما متسابقا).
«تيتان» أمن التوقعين معاً
ما لم يكن متوقعاً هو حضور إيراني - إسرائيلي على ملعب إعلان الجوائز.
جائزة المهرجان الكبرى (الثانية في القيمة والأهمية بعد السعفة الذهبية) توزعت بين فيلمين هما «المقصورة 6» ليوهو كوزمانن (إنتاج فنلندي، روسي، أستوني، ألماني) و«بطل» لأصغر فرهادي (إيران، فرنسا).
الفوز الإسرائيلي جاء ضمن ما يعرف بـ«جائزة لجنة التحكيم» (الثالثة في القيمة بين جوائز الأفلام) وذلك عبر فيلم «ركبة أحد» لناداڤ لا بد. هذا الفوز كان بدوره مشاركة مع فيلم آخر بعنوان «ميموريا» للتايلاندي أبيتشابونغ ويراسثاكول.
هذه الجائزة هي الوحيدة التي سيدرك من يفوز بها أنه خسر فرصة الحصول على إحدى الجائزتين الأكثر أهمية (السعفة والجائزة الكبرى) وقد بدا على المخرج الإسرائيلي لا بد الانزعاج حين نهض من مكانه وتوجه إلى المنصة.
في «بطل» يتطرق فرهادي مرة أخرى إلى قضية اجتماعية شائكة، لكنها لا تقترب من أي حد قد يؤلب النظام على المخرج ذاته أو يعرض الفيلم لمساءلة سياسية. عادة ما ينجح فرهادي في انتهاج هذا الخط المدروس. المشاكل التي نراها في أفلامه هي من صنع الأشخاص والأقدار ولا علاقة لها بالمؤسسة الرسمية. معظم النقاد (بريطانيون وأميركيون وفرنسيون) لاحظوا أن أفلامه السابقة (خصوصاً «طلاق») كانت أفضل من هذا الفيلم.
نتيجة منح الفيلم الإيراني جائزة أعلى من تلك التي نالها الفيلم الإسرائيلي. مهما كانت الدوافع والمبررات فإن فيلم لا بد هو أكثر جرأة في طرح المواضيع المثارة. يدور حول مخرج يصل إلى بلدة نائية في إسرائيل لعرض فيلمه هناك. ممثلة عن وزارة الثقافة تطلب منه التوقيع على ورقة تحتوي على ما تقترحه الوزارة عليه من مسائل للحديث فيها مع جمهور الفيلم. إنها رقابة رسمية وبطل الفيلم (الذي هو بديل للمخرج في واقعة حقيقية حدثت معه قبل سنوات)، يثور عليها وهي ذات ثورة المخرج لا بد في هذا الفيلم وهو ذكر في أحاديثه الصحافية أنه يعتبر تدخل الرقابة الإسرائيلية على نحو أو آخر أنه «موت للحرية».
جوائز الدورة أغفلت أفلاماً عديدة كانت مدرجة على سلم التوقعات لدى عدد كبير من النقاد والمتابعين، من فيلم وس أندرسن «ذ فرنش ديسباتش» إلى فيلم شون بن «يوم العلم» مروراً بفيلم «باريس، المنطقة الـ13» لجاك أوديار و«نترام» لجوستين كورزل، كما «ثلاثة أدوار» لزبون المهرجان الدائم ناني موريتي.
أسئلة العام المقبل
السؤال الأكبر، بعد أن طوى المهرجان دورته السابعة والأربعين، يتعامل هذا العام مع أكثر من موضوع: هل نجح؟ هل حقق تقدماً رغم العوائق؟ ثم ما تأثير هذه الدورة التي أقيمت تحدياً لكورونا على مستقبل المهرجان؟ كما بات معروفاً، انتقل المهرجان من موعده المعتاد في الشهر الخامس إلى موعد جديد في الشهر السابع، ومع انتهاء هذه الدورة أفلت من قرار تبشر فيه الحكومة الفرنسية بالعودة إلى شروط التعامل الفردي مع مخاطر كورونا. بعض المتابعين قرروا أن الحكومة كانت انتظرت حتى نهاية المهرجان لكي تطلب من الجمهور العريض العودة إلى الكمامات وضرورة الالتزام بكافة التعليمات والإقبال على التلقيح الأول والعودة إلى التلقيح الثاني. أو كما قالت صحافية باريسية: «فضلت الحكومة تنشيط السياحة على استمرار حالات الحذر من الوباء». الآن وبعد أن انفض المهرجان الكبير، بات يمكن العودة إلى التعليمات التي سادت سابقاً، خصوصاً أن الإصابات من جديد ارتفعت عن معدلها ولو أن المهرجان لم يشهد بحد ذاته إلا عدداً محدوداً منها.
يود المهرجان العودة إلى ربيعه عبر إقامة الدورة 75 في شهر مايو (أيار)، كما جرت عادته. لكن كل شيء بات في قبضة كورونا، بمعنى أن العودة إلى الربيع الباسم مرهون باختفاء فيروس كورونا أو هبوط حالاته على الأقل.
من ناحية أخرى، برهن عناد منظمي المهرجان عن أن حضور «كان» عالمياً أمر لا بد منه. لا يستطيع العالم تصور السينما من دون مهرجاناتها الكبرى الثلاث («كان» وبرلين وفنيسيا)، خصوصاً «كان». هذا وحده تحد كبير سيبقى ملازماً لإدارة المهرجان في سعيها للفوز بالنقاط على كل مهرجان منافس آخر.