ماكرون يضع خمسة محاور لمواجهة «الانفصالية الإسلاموية»

دعا إلى «صحوة جمهورية» من خلال منع التأثيرات الخارجية... وركّز على إلزامية التعليم في المدارس

ماكرون خلال عرضه استراتيجيته لمحاربة {الانفصالية} أمس (رويترز)
ماكرون خلال عرضه استراتيجيته لمحاربة {الانفصالية} أمس (رويترز)
TT

ماكرون يضع خمسة محاور لمواجهة «الانفصالية الإسلاموية»

ماكرون خلال عرضه استراتيجيته لمحاربة {الانفصالية} أمس (رويترز)
ماكرون خلال عرضه استراتيجيته لمحاربة {الانفصالية} أمس (رويترز)

خلال ساعة كاملة وبحضور ستة من وزرائه الرئيسيين ومسوؤلين محليين، عرض الرئيس الفرنسي «استراتيجيته» لمحاربة ما يسمى «الانفصالية الإسلاموية»، أو مشروع «المجتمع المضاد»، الذي يجري العمل عليه في فرنسا، حسب قوله، من خلال الإعلان عن عدة إجراءات خاصة في مجال التعليم وكذلك مسألة تنظيم عمل أئمة المساجد.
هذا الخطاب المناهض للنزعة الانعزالية، الذي كان منتظراً بترقب شديد وأرجئ مراراً، يأتي في سياق حساس في فرنسا حيث تعد العلمانية قيمة أساسية، فيما يمثل الإسلام الديانة الثانية في البلاد. ويأتي كذلك فيما يتعرض ماكرون لنيران اليمين واليمين المتطرف اللذين يتهمانه بالتراخي، واليسار الذي يندد بوصم المسلمين لأسباب انتخابية.
وبعد أسابيع من التردد بين الحديث عن «الانفصاليات» والانفصالية الإسلامية، حسم إيمانويل ماكرون الجدل، وأعلن بكلام لا مداورة فيه أن المقصود هو الانفصالية الإسلامية التي وصفها بأنها «قلب المشكلة»، ما يعني أن استخدام العبارة بصيغة الجمع كان الغرض منه تجنب اعتبار أن الجهة المستهدفة هي المسلمون.
وفي أي حال، فإن الساعة الكاملة كانت مكرسة للتنديد بـ«الإسلام الراديكالي» الذي يرى فيه عدواً للجمهورية وما تمثله من قيم وممارسات وقواعد العيش المشترك والطرف الساعي لاستبدال ذلك كله بقيم مختلفة ولإقامة بؤر اجتماعية «منفصلة» بقيمها وممارساتها عن قيم الجمهورية التي تريد الإحلال مكانها، وطريقها إلى ذلك تحريف الدين.
ويأتي كشف ماكرون عن هذه الاستراتيجية في لحظة بالغة الأهمية قبل أقل من عام ونصف العام على انتخابات رئاسة الجمهورية ربيع عام 2022، حيث يرى المراقبون أن إشكالية العيش المشترك والأمن وموقع الإسلام داخل المجتمع الفرنسي وملف الضواحي ستكون محاور رئيسية للجدل الانتخابي. من هنا، كان على ماكرون أن يتصدى لها. وبعد تأجيل وراء تأجيل، يبدو أن مقاربته أصبحت ناضجة وخطته واضحة وهي ما انكب على عرضها وتفصيلها، بحيث لا يترك الساحة فارغة لليمين واليمين المتطرف الذي يرى في هذه المسائل نقاط ضعف للانقضاض عليه.
بداية، حرص ماكرون على التنبيه أن المستهدف ليس المسلمون، بل من يستغل الإسلام للترويج لمشروع سياسي، وهو ما يسميه «الإسلام السياسي» أو «الإسلام الراديكالي المتطرف»، وكلاهما «يسعى لإقامة مجتمع بديل»، مستفيداً غالباً من غياب الدولة والخدمات العامة وبؤس الشباب وغيرها من النواقص التي تعتري هذه الشرائح المجتمعية.
استراتيجة ماكرون التي يريدها «شاملة متكاملة» يتعين أن تترجم إلى مشروع قانون سيقدم إلى البرلمان بعد نحو شهرين من اليوم وغرضها توفير الأدوات القانونية التي تمكن الدولة من محاربة هذه النزعات الانفصالية.
وترتكز هذه الاستراتيجية إلى خمسة محاور أساسية؛ أولها الحرص على «حيادية» المرافق العامة ومنع استخدام الشعارات والرموز الدينية في المؤسسات العامة أو الممارسات التي لا تتوافق مع أساليب العيش في الجمهورية الفرنسية. وثمة شكوى من وجود نزعات متطرفة في وسائل النقل العمومية بما في ذلك في مطار رواسي شارل ديغول.
وأعطى ماكرون مجموعة من الأمثلة مثل المطالبة بفصل الرجال عن النساء أو بأنواع طعام خاصة للتلامذة في المدارس، وحصص رياضية خاصة بالفتيات، بينما القاعدة في فرنسا هي عدم التفريق بين الجنسين.
ويتناول المحور الثاني فرض الرقابة على الجمعيات التي تغللت فيها النزعات الآيديولوجية الانفصالية أكانت رياضية أو اجتماعية أو ثقافية أو لغوية. ويريد ماكرون تشديد رقابة الدولة عليها وإلزامها بتوقيع «شرعة احترام قيم الجمهورية» وأي مخالفة لها ستحرم هذه الجمعيات من المساعدات المالية التي تحصل عليها من الجولة أو من المؤسسات المحلية.
وسيوفر القانون في حال إقراره إمكانات أكبر لحل الجمعيات المخالفة أو تلك التي يظن أنها منبر لبث آيديولوجية إسلاموية متطرفة.
ويشكل التعليم المحور الثالث وأهميته أن المدرسة هي المصهر الطبيعي للأجيال. وما تريده الحكومة أن تمنع قطعياً التعليم في المنازل، حيث إن هناك 50 ألف طفل يتابعون هذا النوع من الدراسة. ويريد ماكرون وضع حد له، بحيث يصبح التعليم إلزامياً بالمدارس لكل من بلغ الثالثة من عمره والاستثناءات ستكون قليلة جداً ولأسباب صحية بالدرجة الأولى.
وخوف ماكرون هو من المدارس الموازية الموجودة بشكل عشوائي ومن غير رقابة. وسيكون من الصعب لاحقاً الإتيان بمدرسين من دول عربية أو غير عربية (تركيا) يقومون بالتعليم بعيداً عن أعين وزارة التربية. وخلاصة الرئيس الفرنسي أن «الجمهورية ستقاوم من خلال المدرسة من يسعى لتدميرها».
بيد أن المحور الأهم (الرابع) الذي يريد الرئيس الفرنسي التفرغ لمعالجته فعنوانه كيفية التعامل مع «إسلام فرنسا» والوصول إلى «إسلام الأنوار»، أي المعتدل والمنفتح والقابل للعيش المشترك بحيث يكون «شريكاً للجمهورية». والهدف مما ستقوم به الجدولة، مع احترام مبدأ الفصل بين الدين والدولة، بناء تنظيم أو هيئة تفضي إلى «إسلام مسالم» بعيداً عن «الترويج للإسلام السياسي الجهادي الذي عانت منه البلاد».
ولذلك يريد ماكرون «تحرير الإسلام من التأثيرات الأجنبية» عن طريق وضع حد للاستعانة بأئمة من الخارج خلال أربع سنوات والتركيز على تأهيل أئمة مسلمين فرنسيين وتوفير الشفافية المالية للمنظمات والجمعيات الإسلامية وأتباعها بقانون عام 1905 الذي ينظم عمل الجمعيات. بالمقابل، يريد ماكرون إعادة إطلاق الدراسات الإسلامية في المعاهد والجامعات ومؤسسات البحث من خلال التمويل. وقال: «أريد أن نعيد تعليم فلسفة ابن رشد وابن خلدون وألا نترك الدراسات الإسلامية لمن يستغلها لصالحه»، فضلاً عن ذلك يريد تقوية تعليم اللغة العربية. على أن يتم ذلك تحت إشراف وزارة التربية والتعليم. وقرر ماكرون منح 10 ملايين يورو لـ«مؤسسة إسلام فرنسا» لتدريس الثقافة والحضارة الإسلامية.
يبقى أن ماكرون لا يرى أن محاربة الانفصالية الإسلاموية يمكن أن تتم فقط عبر القوانين، بل يريد إلى جانب ذلك محفزات ووسائل تدفع باتجاه التعلق بالجمهورية وقيمها خصوصاً في الأحياء الصعبة والضواحي. وذهب الرئيس الفرنسي إلى حد الاعتراف بأن الدولة أسهمت في إيجاد «الغيتوات» وأهملت العديد من الأحياء والضواحي، الأمر الذي سهل عمل الآيديولوجيات المتطرفة. لذا، فإن غرضه «إعادة الجمهورية» إلى كل الأراضي الفرنسية وإطلاق مشاريع اجتماعية وتربوية وثقافية واقتنصادية ومحاربة التمييز في التعليم والعمل والمسكن. وكل ذلك من أجل «العيش المشترك».
هل سيكون ذلك كافياً؟ السؤال مطروح والإشكالية التي شخصها ماكرون ليست جديدة، بل واجهت كثيراً من الحكومات المتعاقبة التي فشلت كلها في إيجاد الحلول الناجعة لها. ولقد وعد ماكرون بطرح خطته لمعالجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمناطق التي تعاني في الخريف المقبل أي في الأسابيع المقبلة، يقيناً منه أن التعلق بالجمهورية وقيمها لا يمكن فرضه من الخارج، لا بل يجب أن يكون نابعاً من القناعات الداخلية. ولهذه قصة أخرى.



كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
TT

كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)

نجح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خلق بيئة مواتية لانتشار أسلحة نووية جديدة في أوروبا وحول العالم، عبر جعل التهديد النووي أمراً عادياً، وإعلانه اعتزام تحويل القنبلة النووية إلى سلاح قابل للاستخدام، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

في عام 2009، حصل الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على «جائزة نوبل للسلام»، ويرجع ذلك جزئياً إلى دعوته إلى ظهور «عالم خالٍ من الأسلحة النووية». وفي ذلك الوقت، بدت آمال الرئيس الأميركي الأسبق وهمية، في حين كانت قوى أخرى تستثمر في السباق نحو الذرة.

وهذا من دون شك أحد أخطر آثار الحرب في أوكرانيا على النظام الاستراتيجي الدولي. فعبر التهديد والتلويح المنتظم بالسلاح الذري، ساهم فلاديمير بوتين، إلى حد كبير، في اختفاء المحرمات النووية. وعبر استغلال الخوف من التصعيد النووي، تمكن الكرملين من الحد من الدعم العسكري الذي تقدمه الدول الغربية لأوكرانيا منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، ومن مَنْع مشاركة الدول الغربية بشكل مباشر في الصراع، وتخويف جزء من سكان هذه الدول، الذين تغلّب عليهم «الإرهاق والإغراءات بالتخلي (عن أوكرانيا) باسم الأمن الزائف».

بدأ استخفاف الكرملين بالأسلحة النووية في عام 2014، عندما استخدم التهديد بالنيران الذرية للدفاع عن ضم شبه جزيرة القرم من طرف واحد إلى روسيا. ومنذ ذلك الحين، لُوّح باستخدام السلاح النووي في كل مرة شعرت فيها روسيا بصعوبة في الميدان، أو أرادت دفع الغرب إلى التراجع؛ ففي 27 فبراير 2022 على سبيل المثال، وُضع الجهاز النووي الروسي في حالة تأهب. وفي أبريل (نيسان) من العام نفسه، استخدمت روسيا التهديد النووي لمحاولة منع السويد وفنلندا من الانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي (ناتو)». في مارس (آذار) 2023، نشرت روسيا صواريخ نووية تكتيكية في بيلاروسيا. في فبراير 2024، لجأت روسيا إلى التهديد النووي لجعل النشر المحتمل لقوات الـ«ناتو» في أوكرانيا مستحيلاً. وفي الآونة الأخيرة، وفي سياق المفاوضات المحتملة مع عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، جلبت روسيا مرة أخرى الخطاب النووي إلى الحرب، من خلال إطلاق صاروخ باليستي متوسط ​​المدى على أوكرانيا. كما أنها وسعت البنود التي يمكن أن تبرر استخدام الأسلحة الذرية، عبر مراجعة روسيا عقيدتها النووية.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع مع قيادة وزارة الدفاع وممثلي صناعة الدفاع في موسكو يوم 22 نوفمبر 2024 (إ.ب.أ)

التصعيد اللفظي

تأتي التهديدات النووية التي أطلقتها السلطات الروسية في الأساس ضمن الابتزاز السياسي، وفق «لوفيغارو». ولن تكون لدى فلاديمير بوتين مصلحة في اتخاذ إجراء عبر تنفيذ هجوم نووي تكتيكي، وهو ما يعني نهاية نظامه. فالتصعيد اللفظي من جانب القادة الروس ورجال الدعاية لم تصاحبه قط تحركات مشبوهة للأسلحة النووية على الأرض. ولم يتغير الوضع النووي الروسي، الذي تراقبه الأجهزة الغربية من كثب. وتستمر الصين أيضاً في لعب دور معتدل، حيث تحذّر موسكو بانتظام من أن الطاقة النووية تشكل خطاً أحمر مطلقاً بالنسبة إليها.

إن التهوين من الخطاب الروسي غير المقيد بشكل متنامٍ بشأن استخدام الأسلحة النووية ومن التهديد المتكرر، قد أدى إلى انعكاسات دولية كبيرة؛ فقد غير هذا الخطاب بالفعل البيئة الاستراتيجية الدولية. ومن الممكن أن تحاول قوى أخرى غير روسيا تقليد تصرفات روسيا في أوكرانيا، من أجل تغيير وضع سياسي أو إقليمي راهن محمي نووياً، أو إنهاء صراع في ظل ظروف مواتية لدولة تمتلك السلاح النووي وتهدد باستخدامه، أو إذا أرادت دولة نووية فرض معادلات جديدة.

يقول ضابط فرنسي: «لولا الأسلحة النووية، لكان (حلف شمال الأطلسي) قد طرد روسيا بالفعل من أوكرانيا. لقد فهم الجميع ذلك في جميع أنحاء العالم».

من الجانب الروسي، يعتبر الكرملين أن الحرب في أوكرانيا جاء نتيجة عدم الاكتراث لمخاوف الأمن القومي الروسي إذ لم يتم إعطاء روسيا ضمانات بحياد أوكرانيا ولم يتعهّد الغرب بعدم ضم كييف إلى حلف الناتو.

وترى روسيا كذلك أن حلف الناتو يتعمّد استفزاز روسيا في محيطها المباشر، أكان في أوكرانيا أو في بولندا مثلا حيث افتتحت الولايات المتحدة مؤخرا قاعدة عسكرية جديدة لها هناك. وقد اعتبرت موسكو أن افتتاح القاعدة الأميركية في شمال بولندا سيزيد المستوى العام للخطر النووي.