كتاب موسوعي بالفرنسية عن العلاقات بين اليهود والمسلمين

ساهم فيه مائة باحث تناولوا تاريخها منذ أكثر من ألف عام حتى اليوم

بنيامين ستورا  -  عبد الوهاب المؤدب
بنيامين ستورا - عبد الوهاب المؤدب
TT

كتاب موسوعي بالفرنسية عن العلاقات بين اليهود والمسلمين

بنيامين ستورا  -  عبد الوهاب المؤدب
بنيامين ستورا - عبد الوهاب المؤدب

ماذا يمكن أن نقول عن هذا الكتاب الموسوعي الذي يحاذي الألف ومائتي صفحة، والذي ساهم فيه أكثر من مائة باحث عربي ويهودي وأجنبي؟ هل يمكن عرضه أو استعراضه في مقالة صحافية واحدة؟ هل تفيه حقه؟ بالطبع لا، ولكننا سنحاول ما نستطيع. نلاحظ أن هذا الكتاب الضخم يستعرض تاريخ العلاقات منذ أن بدأت بين النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والقبائل اليهودية في الجزيرة العربية، قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، حتى انفجار الصراع العربي - الإسرائيلي بعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948؛ أنه تاريخ طويل عريض: أربعة عشر قرناً من الزمن فقط! ولكن عرض الأمور على هذا النحو قد يوهمنا بأن هذه العلاقات كانت كلها حرباً ضروساً وعداءً مستحكماً. وعندئذ، سوف يطمس قروناً طويلة من التفاعل الحضاري الخلاق بين العرب واليهود. ونقصد بها قرون العصر الذهبي في بغداد أولاً، فقرطبة والأندلس الزاهرة ثانياً، بل وحتى على مستوى الفترة النبوية ذاتها، نلحظ أن النظرة إلى اليهود كانت إيجابية جداً في البداية، قبل أن تنقلب إلى سلبية.
وبالتالي، فمن يرد إقامة السلام والإخاء مع اليهود يمكنه أن يجد تبريراً إسلامياً تاريخياً، ومن يرد مواصلة العداء والصراع إلى ما لا نهاية يمكنه أيضاً أن يجد تبريراً. وهذا يعني أنه لا يوجد باراديغم واحد تجاه اليهود، وإنما باراديغمان اثنان (نقصد بالباراديغم هنا الموقف الفكري الأعلى أو النموذج اللاهوتي الأعظم الذي يعلو ولا يعلى عليه). ولكن الصراع الهائج الذي حصل بعد احتلال فلسطين، وتأسيس الدولة الإسرائيلية، عام 1948، قضى كلياً على باراديغم السلام، وغلب نهائياً باراديغم الحرب والعداء والصراع، ثم تحول هذا الباراديغم العدائي إلى حقيقة مطلقة لا تناقش ولا تمس، انغرست كلياً ونهائياً في وعي الشعوب العربية على مدار الستين سنة الماضية، وأصبحت راسخة رسوخ الجبال. وتخيلنا، عندئذ، أن العلاقات بين العرب واليهود كانت دائماً هكذا عدائية صراعية على مدار التاريخ، ولم توجد نقطة ضوء واحدة فيها، ولكننا واهمون مخطئون، فمسيرة التاريخ الفعلية الواقعية تناقض ذلك، كما يشرح لنا المشرفان الكبيران على هذه الموسوعة التاريخية. فقد أشرف عليها من الجهة العربية المفكر التونسي التنويري الكبير عبد الوهاب المؤدب، وهو صاحب الكتاب الشهير باسم: مرض الإسلام (بالأصولية الظلامية). وأشرف عليها من الجهة اليهودية المؤرخ الأكاديمي المعروف بنيامين ستورا، وهو فرنسي من أصل جزائري لأنه من مواليد قسنطينة، حيث نشأ وترعرع، قبل أن يهاجر إلى باريس. وقد لمع اسمه مؤخراً لأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استقبله شخصياً في قصر الإليزيه، وعينه مسؤولاً عن ترميم الذاكرة الجريحة بين فرنسا والجزائر. وفي الوقت ذاته، عين الرئيس الجزائري المؤرخ عبد المجيد شيخي مسؤولاً عن هذا الترميم من الجهة الجزائرية؛ والهدف كله هو تعزيز المصالحة التاريخية بين الشعبين.
يشرح بنيامين ستورا مشروع الكتاب قائلاً: هذه الموسوعة التي نقدمها للقراء لا سابق لها ولا مثيل. صحيح أنه يوجد تاريخ للعرب، وتاريخ للمسلمين، وتاريخ لليهود، ولكن بشكل منفصل، كل على حدة. غير أنه حتى الآن، لا يوجد كتاب موسوعي ضخم يشرح لنا عمق العلاقات الإسلامية - اليهودية، وبالأخص العربية - اليهودية. هذا ما كان ينقص المكتبة الفرنسية، ولذلك شرعنا بسد هذا النقص. وكنا نهدف من وراء الكتاب إلى عدة أشياء: أولها ردم الهوة النفسية أو السيكولوجية السحيقة التي تفصل بين العرب واليهود في زمننا الحاضر. فقبل ذلك، لم تكن هذه الهوة عميقة أو سحيقة، على عكس ما نتوهم. قبل ذلك، كانت هناك علاقات طبيعية، بل وودية في أحيان كثيرة، على مدار التاريخ. من يصدق ذلك الآن؟ في الماضي، كان المؤلفون أو المفكرون يتحدثون عما يجمع بين المسلمين واليهود، لا عما يفرق، أو قل كانوا يتحدثون عما يجمع أكثر مما يتحدثون عما يفرق. كانوا يتحدثون عن القواسم المشتركة التي تتيح لهم أن يتعايشوا بعضهم مع بعض جنباً إلى جنب. فالإسلام أيضاً دين إبراهيمي، مثل اليهودية والمسيحية اللتين سبقتاه إلى الوجود... هذا وقد تحدث الأكاديميون الكبار عن هذه القضايا، وعن العصر الذهبي للعلاقات العربية - اليهودية في عهد الحضارة العباسية أو الأندلسية، حيث ازدهر اليهود ثقافياً آنذاك، وقدموا عطاءهم الخاص في ظل الحضارة العربية الإسلامية، وفي المجالات كافة، أدبية وشعرية وفلسفية، بل وحتى فنية وموسيقية. ولكن كل هذا التفاعل الحضاري الإبداعي الخلاق أصبح نسياً منسياً بعد تأسيس دولة إسرائيل، والتراجيديا الفلسطينية الهائلة الناتجة عن ذلك مباشرة. كل هذا أصبح في خبر كان وأخواتها، وزال كلياً وكأنه لم يوجد قط، وأصبحت الأجيال تعتقد أن الصراع بين العربي واليهودي أبدي أزلي لا يحول ولا يزول حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ولكن الحقيقة التاريخية تقول لنا العكس تماماً، فالعلاقات الإنسانية والتفاعلية الحضارية بين العرب واليهود كانت قوية إبان الحضارات السابقة والعصور الذهبية. وبالتالي، فالشيء الذي سمم الأجواء كلها هو هذا الصراع الجهنمي المدمر الذي لا يزيد عمره على خمسين سنة، في حين أن عمر العلاقات العربية - اليهودية يزيد على الألف سنة. وهذا لا يعني إطلاقاً التقليل من خطورة المأساة الفلسطينية، وآلام شعب فلسطين التي تفوق الوصف، ولكننا نحاول موضعة الأمور ضمن منظورها التاريخي الأوسع.
وأما عبد الوهاب المؤدب، فيقول لنا ما فحواه: لقد كان هدفنا من الإشراف على هذا الكتاب الجماعي الضخم تذكير المسلمين، والعرب خصوصاً، بالحقيقة التالية: إن العلاقات بيننا وبين اليهود كانت خصبة كثيفة معطاءة على مدار التاريخ حتى عام 1948. ولا أهدف هنا إلى تجميل هذه العلاقات، أو المبالغة فيها، وإنما إلى التذكير فقط بلحظات التبادل الثقافي والحضاري. هل نسينا الحضارة الأندلسية؟ هل نسينا الموسيقى العربية - اليهودية؟ بل هل نسينا الفلسفة العربية - اليهودية؟ كلنا يعلم أن الفيلسوف اليهودي الكبير موسى ابن ميمون كتب رائعته الكبرى «دلالة الحائرين» باللغة العربية، لا العبرية. وبعدئذ، ترجمت إلى العبرية. وبالتالي، فهو نتاج الإطار الثقافي للحضارة العربية الإسلامية. وهو بهذا المعنى مثقف عربي لأن كل من كتب وأبدع بلغة الضاد فهو عربي، شاء أم أبى. وينبغي العلم بأن الإطار الحضاري العربي الإسلامي كان هو المهيمن على العالم آنذاك، مثلما أن الإطار الحضاري الأوروبي والأميركي الشمالي هو المهيمن على العالم حالياً. وكل من يريد أن يشتهر آنذاك كان ينسى لغته الخاصة، ويدبج كتاباته وإبداعاته باللغة العربية. فقد كانت لغة العولمة الثقافية آنذاك، تماماً مثل الإنجليزية حالياً. ولذلك، أبدع فيها المفكرون اليهود وغير اليهود. وينبغي العلم أيضاً أن كثيراً من وزراء وأطباء ومستشاري الخلفاء العرب المسلمين كانوا من اليهود، وكانوا يثقون بهم كل الثقة. وبالتالي، فلا ينبغي أن نشطب على كل هذا التراث التفاعلي الحضاري بجرة قلم بسبب الصراع الحالي الذي سيجد له حلاً مهما طال الزمن.
- القضية الفلسطينية في ضوء فلسفة التاريخ
ماذا نستنتج من كل ما تقدم؟ نستنتج أن لغة الرصاص والذبح والقتل ليست هي الوحيدة الممكنة بيننا وبين اليهود. فبما أن التعايش المثمر حضارياً قد حصل سابقاً، فلا أعرف لماذا لا يحصل لاحقاً؟ بما أنه قد حصل في ظل خلفاء عباسيين وأمويين وأندلسيين كبار، كعبد الرحمن الثالث وسواه، فلماذا لا يحصل حالياً؟ بمعنى آخر: لماذا لا نجرب لغة أخرى مع إسرائيل واليهود عموماً؟ بعد أن استنفدنا لغة الرصاص والعداء المطلق على مدار خمسين سنة متواصلة، لماذا لا نجرب لغة الحوار والتفاوض والتعارف وجهاً لوجه؟ لهذا السبب فإني لا أفهم كل هذه الإدانات والهجمات التي تتعرض لها الإمارات العربية المتحدة حالياً. فجأة، انفتحت عليها الأبواق الشعبوية والغوغائية الديماغوجية من كل الجهات، وتحول قسم من المثقفين العرب إلى صوت واحد يردد الشعارات نفسها والكلمات نفسها كالببغاوات. من يستطيع أن يقول إن الإمارات تخلت عن القضية العربية، وهي الدولة التي دعمت القضية الفلسطينية على مدار التاريخ، وحتماً ضخت فيها المليارات، وأعتقد أنها ستصبح أقدر على خدمتها بعد الصلح والاتفاق؟ وفجأة، تتحول إلى دولة «خائنة» لأنها ارتأت أن هناك طريقة أخرى لإدارة الصراع غير الطريقة المكرورة العقيمة السابقة التي لم توصل إلى نتيجة. ينبغي أن يعلم إخواننا من المثقفين الفلسطينيين أن جراحاتهم جراحاتنا وآلامهم آلامنا وقضيتهم قضيتنا، ليس فقط لأنها عربية، وإنما لأنها قضية حق وعدل، ولكن لا ينبغي بعد الآن استخدامها سيف ديموقليس المسلط فوق الرؤوس بتهمة «الخيانة». وهي كلمة مرعبة شائنة لا تنطبق حتماً على دولة رائدة كالإمارات. وينبغي العلم بأن غلاة اليهود في فرنسا يستخدمون أيضاَ تهمة معاداة السامية سيف ديموقليس، ويرعبون بها كل المثقفين الفرنسيين، ويسلطونها على رؤوسهم. وبالتالي، فلا ينبغي أن يقع إخواننا الفلسطينيون في الفخ نفسه أو الغلطة نفسها، فهذا يسيء إلى القضية ولا يفيدها. أخيراً، ربما عادت الأندلس مجدداً إلى فلسطين أو من خلال فلسطين. فإسرائيل مهما كبرت وعظم شأنها، تظل قطرة في بحر من العرب، والمنطقة عربية من المحيط إلى الخليج، وستبقى. ولكنها عربية بالمعنى الحضاري والإنساني، لا بالمعنى الشوفيني الطائفي الشعوبي. بهذا المعنى، فنحن نعيش الآن منعطفاً تاريخياً كبيراً، ليس فقط بالنسبة للقضية الفلسطينية، وإنما بالنسبة للقضية العربية ككل. أقصد أن القرون الوسطى العربية الإسلامية، أي عصور الانحطاط، سوف تنهار، وتحل محلها العصور العربية التنويرية الجديدة. وقد ساهمت الإمارات في ذلك مؤخراً، عندما تعانق على أرضها شيخ الأزهر وبابا روما، وأصدرت وثيقة «الأخوة الإنسانية». وقدمت بذلك خدمة كبيرة للعرب والمسلمين، عندما أبرزت الصورة المشرقة للعروبة والإسلام. ونقضت بذلك تلك الصورة الظلامية الداعشية التي شوهت وجهنا وتراثنا في شتى أنحاء العالم. وبالتالي، فبدلاً من أن نشكرها نرميها بحجر!


مقالات ذات صلة

الأمم المتحدة قلقة من حظر أوكرانيا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية

أوروبا أعضاء فرع الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية يحضرون اجتماعاً في دير القديس بانتيليمون في كييف يوم 27 مايو 2022 (رويترز)

الأمم المتحدة قلقة من حظر أوكرانيا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية

أعلن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أنه يدرس حظر كييف للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المرتبطة بروسيا، قائلاً إنه يثير مخاوف جدية بشأن حرية المعتقد.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
آسيا البابا فرنسيس أثناء وصوله إلى مطار سوكارنو هاتا الدولي في جاكرتا (أ.ف.ب)

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في مستهل أطول رحلة خارجية خلال ولايته

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في محطة أولى ضمن جولة له على 4 دول. وتتمحور الزيارة بشكل خاص حول الحوار الإسلامي المسيحي.

«الشرق الأوسط» (جاكرتا)
أميركا اللاتينية الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي خلال زيارته إلى القدس 6 فبراير 2024 (أ.ب)

كيف تحول تأييد الرئيس الأرجنتيني لإسرائيل واهتمامه المتزايد باليهودية مصدر قلق لبلاده؟

لقد أظهر الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، وهو كاثوليكي بالميلاد، اهتماماً عاماً متزايداً باليهودية، بل وأعرب حتى عن نيته في التحوّل إلى اليهودية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
آسيا رجال الشرطة يقفون للحراسة مع وصول المسلمين لأداء صلاة الجمعة في مسجد جيانفابي في فاراناسي 20 مايو 2022 (أ.ف.ب)

الهند: قوانين مقترحة للأحوال الشخصية تثير مخاوف المسلمين

من المقرر أن تطرح ولاية هندية يحكمها حزب رئيس الوزراء ناريندرا مودي قوانين الأحوال الشخصية العامة الجديدة المثيرة للجدل والتي ستطبَّق على جميع الأديان.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
آسيا رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال حفل الافتتاح (رويترز)

مودي يفتتح معبداً هندوسياً بُني على أنقاض مسجد تاريخي

افتتح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي اليوم معبداً هندوسياً، بني على أنقاض مسجد تاريخي، في خطوة تكتسي أهمية كبيرة في سياسته القومية المحابية للهندوسية.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم