كتاب فرنسي يكشف صفحات نادرة من تاريخ أجمل شوارع العالم

«الشانزليزيه» تحت حصار «كورونا»

شارع الشانزليزيه بعد «كورونا»
شارع الشانزليزيه بعد «كورونا»
TT

كتاب فرنسي يكشف صفحات نادرة من تاريخ أجمل شوارع العالم

شارع الشانزليزيه بعد «كورونا»
شارع الشانزليزيه بعد «كورونا»

ما بين عشية وضحاها، ووسط إجراءات احترازية استثنائية ولاهثة يبذلها العالم في مواجهة وباء «كورونا»، تحول شارع الشانزليزيه، أجمل شوارع باريس والعالم، إلى فضاء قفر من دبيب البشر والحياة، وقبعت فوق رف الذكريات مقولة شهيرة لطالما عبّرت عن مدى الحب والولع بهذا الشارع التاريخي «من زار باريس دون المرور بشارع الشانزليزيه كالذي ذهب إلى البحر دون الاستحمام فيه»... الشارع الذي يمثّل «قلب باريس النابض» تلقي الضوء على صورته المؤرخةُ الفرنسية ليدفين بانتيلى في كتابها الجديد «أجمل شوارع العالم - التاريخ الاجتماعي والسياسي للشانزليزيه»، ترصد من خلاله دوره التاريخي والتحولات التي مر بها على مر الزمان.
صدر الكتاب منذ بضعة أيام عن دار النشر الفرنسية «لا ديكوفرت» في 288 صفحة من القطع المتوسط، ومؤلفته علاوة على أنها أستاذة للتاريخ بجامعة «روان» الفرنسية ومتخصصة في تاريخ الحركات السياسية والاجتماعية فقد اعتمدت في كتابها هذا على أرشيفات ثرية متنوعة ونادرة، كما أجرت عدداً من اللقاءات والحوارات مع شخصيات رفيعة المستوى شاركت بشكل أو بآخر في تشكيل وصياغة شارع الشانزليزيه لتبحر بالقارئ في قلب حالة من الغموض والتفرد يتمتع بها أجمل شوارع العالم ذات الطابع الأرستقراطي والشعبي في الوقت ذاته.
بدايةً، تؤكد الكاتبة أن ما يمثله هذا الشارع من أهمية ليس عائداً فقط لما يضمه بين جنباته من عدد كبير لأرقى المحال التجارية وماركاتها المختلفة، وليس لعرضه البالغ 70 متراً وطوله الذي يقدّر بـ2 كم، بدايةً من ميدان الكونكورد أحد أكبر ميادين العالم الذي يطل على حدائق متحف اللوفر لينتهي بميدان قوس النصر الذي يتفرع منه 12 شارعاً تمثل شرايين باريس الرئيسية والذي بناه وشيّده نابليون بونابرت ليخلّد من خلاله معاركه وانتصاراته... ولكن لأنه يُعد ذاكرة الأمة الفرنسية وشاهد عيان على أيام مجدها، حيث سار فيه ملوك وأباطرة فرنسا في ذهابهم إلى الحروب وعودتهم منها، فاكتسب أهمية وطنية، إضافةً إلى أهميته الثقافية، ففيه تذوب جميع الثقافات حيث تسمع في جنباته جميع لغات العالم، إضافة إلى الفعاليات الرياضية مثل ماراثون باريس للدراجات والألعاب الأولمبية للأثقال. وشهد استقبال 1.5 مليون نسمة في احتفالات فرنسا بفوز فريقها القومي بكأس العالم في يوليو (تموز) 1998 و2018، وغيرها من المناسبات، ما جعل الشانزليزيه مصدر الفخر الوطني في عيون كثير من الفرنسيين، كما أن جميع الرؤساء الفرنسيين ارتادوه عقب فوزهم بالانتخابات الرئاسية بالسيارات الفارهة وسط احتفالات عسكرية مهيبة، بالإضافة إلى تخليد رموز الأمة الفرنسية، من مراسم جنازة فيكتور هوغو 1885 إلى مراسم جنازة المغنى والممثل والملحن الفرنسي جوهاني هوليداي في 2017.
وتذكر الكاتبة أن الشانزليزيه مثل مصدر إلهام لكثير من الشعراء والأدباء الفرنسيين، فوصفه الروائي الفرنسي إيميل زولا بـ«الشريان»، كما قال الجنرال ديغول في مذكراته في 26 أغسطس (آب) 1944 إن «الشانزليزيه يمثل المحور الأشهر في العالم» لأنه يعد «همزة وصل بين أمجاد الماضي والحاضر». بينما ذكر الروائي بلزاك أن للشانزليزيه «صفة إنسانية، تلهمنا بأفكار خاصة واستثنائية».
ثم تتحدث المؤلفة عن الطريقة التنظيمية التي يتمتع بها الشارع، فالأرقام الفردية مخصصة لمقرات البنوك والشركات والبوتيكات الفاخرة، بينما الأرقام الزوجية للمحال والمطاعم وسلاسل المتاجر الفخمة الشهيرة عالمياً، وبذلك فهو يجمع بين متناقضات عديدة.
وخصصت المؤلفة الفصل الأخير من كتابها لـ«السترات الصفراء» لترصد وبدقة بالغة تبدل حال «أجمل شوارع العالم» مؤخراً، بخاصة خلال عام 2019 من خلال المشاهد التي يطوّق فيها رجال الشرطة الشارع رداً على تحركات وتصرفات أعضاء حركة «السترات الصفراء» ذات الطابع الاجتماعي. وهي تذكر أن المحتجين دمّروا مقهى ومطعم «الفوكيه» الذي تم افتتاحه في 1899 ليمثل منذ ذلك الحين مقصداً سياحياً يضاف إلى قائمة المقاصد السياحية الفرنسية الطويلة، ويكتسب أهميته من تفرده سواء في ديكوراته الخاصة أو من خلال ما يقدمه من مشروبات ومأكولات متميزة ليصبح مقصداً ورمزاً مهماً يرتاده كل من يتنزه بالشانزليزيه، الأمر الذي دفع الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي إلى أن يتوجه إلى «الفوكيه» في 6 مايو (أيار) 2007 للاحتفال بفوزه في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، بالإضافة إلى ذلك.
وتذكر الكاتبة أن الكثير من الدول والشركات العالمية حتى وقت قريب كانت لا تزال تتهافت على امتلاك مكان في الشانزليزيه، فارتفع متوسط الإيجار السنوي للمتر المربع الواحد 14470 يورو، أي ما يربو على الألف يورو شهرياً لكل متر مربع، لتحتل باريس نتيجة ذلك المرتبة الرابعة في قائمة أغلى مدن العالم بعد هونغ كونغ ونيويورك ولندن.


مقالات ذات صلة

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد
TT

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. واسم العالم الإيطالي غاليليو؟ سرعة سقوط الأجسام واكتشاف أقمار كوكب المشترى وذلك باستخدام تلسكوب بدائي. واسم العالم الإنجليزي إسحق نيوتن؟ قانون الحركة. واسم عالم التاريخ الطبيعي الإنجليزي تشارلز دارون؟ نظرية التطور وأصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي. واسم عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد؟ نظرية التحليل النفسي ودراسة اللاشعور. نحن إذن نعرف هؤلاء الرجال من خلال اكتشافاتهم أو اختراعاتهم العلمية. ولكن كيف كانوا في حياتهم الشخصية؟ ما الجوانب البشرية، بكل قوتها وضعفها، في شخصياتهم؟ أسئلة يجيب عنها كتاب صادر في 2024 عن دار نشر «بلومز برى كونتنام» في لندن عنوانه الكامل: «رسائل من أجل العصور: علماء عظماء. رسائل شخصية من أعظم العقول في العلم».

Letters for the Ages: Great Scientists. Personal Letters from the Greatest Minds in Science.

غلاف الكتاب

أشرف على تحرير الكتاب جيمز دريك James Drake، ويقع في 275 صفحة ويمتد من «الثورة الكوبرنطيقية» إلى نظرية «الانفجار الكبير» التي تحاول تفسير أصل الكون. أي من عالم الفلك البولندي نيقولا كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، وقد أحدث ثورة علمية بإثباته أن الشمس تقع في مركز النظام الشمسي وأن الأرض وسائر الكواكب تدور حولها، وصولاً إلى عالم الطبيعة الإنجليزي ستيفن هوكنغ في القرن العشرين ونظرياته عن الدقائق الأولى من عمر الكون والانفجار الكبير والثقوب السوداء.

الكتاب مقسم إلى عشرة فصول تحمل هذه العناوين: الإلهام، النظرية، التجريب، المنافسة، الاختراق، الابتكار، خارج المعمل، العلم والدولة، العلم والمجتمع، على مائدة التشريح.

تسجل هذه الرسائل الصداقات والمنافسات التي حفلت بها حياة هؤلاء العلماء، دراما النجاح والإخفاق، ومضات الإلهام والشك، وكيف حققوا منجزاتهم العلمية: اللقاحات الطبية ضد الأوبئة والأمراض، اختراع التليفون، محركات السيارات والقطارات والطائرات، الأشعة السينية التي تخترق البدن، إلخ... وتكشف الرسائل عن سعي هؤلاء العلماء إلى فهم ظواهر الكون ورغبتهم المحرقة في المعرفة والاكتشاف والابتكار وما لاقوه في غمرة عملهم من صعوبات وإخفاقات وإحباطات، ولحظة الانتصار التي تعوض كل معاناة، ومعنى البحث عن الحقيقة.

مدام كيوري

إنهم رجال غيروا العالم أو بالأحرى غيروا فكرتنا عنه، إذ أحلوا الحقائق محل الأوهام وشقوا الطريق إلى مزيد من الاقتحامات الفكرية والوجدانية.

هذه رسالة من غاليليو إلى كبلر الفلكي الألماني (مؤرخة في 19 أغسطس 1610) وفيها يشكو غاليليو من تجاهل الناس – بمن فيهم العلماء - لنظرياته على الرغم من الأدلة التي قدمها على صحتها: «في بيزا وفلورنسا وبولونيا والبندقية وبادوا رأى كثيرون الكواكب ولكن الجميع يلزم الصمت حول المسألة ولا يستطيع أن يحزم أمره لأن العدد الأكبر لا يعترف بأن المشترى أو المريخ أو القمر كواكب. وأظن يا عزيزي كبلر أننا سنضحك من الغباء غير العادي للجموع. حقاً كما أن الثعابين تغمض أعينها فإن هؤلاء الرجال يغمضون أعينهم عن نور الحقيقة».

آينشتاين

وفي مطلع القرن العشرين أجرت ميري كوري – بالاشتراك مع زوجها جوليو كوري - أبحاثاً مهمة عن عنصر الراديوم. وقد كتب لها آينشتاين في 1911 يشد من عزمها ويعلن وقوفه بجانبها في وجه حملات ظالمة كانت قد تعرضت لها: «السيدة كوري التي أكن لها تقديراً عالياً... إنني مدفوع إلى أن أخبرك بمدى إعجابي بعقلك ونشاطك وأمانتك، وأعد نفسي محظوظاً إذ تعرفت على شخصك في بروكسل».

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كتب عالم الطبيعة الدنماركي نيلز بور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل (22 مايو 1944) عن التقدم الذي أحرزه بور وزملاؤه في صنع السلاح النووي: «الحق إن ما كان يمكن أن يعد منذ سنوات قليلة ماضية حلماً مغرقاً في الخيال قد غدا الآن يتحقق في معامل كبرى ومصانع إنتاج ضخمة بنيت سراً في أكثر بقاع الولايات المتحدة عزلة».

يونغ

وتبين الرسائل أن هؤلاء العلماء – على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم - كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة. فعالم الرياضيات الإنجليزي إسحق نيوتن، مثلاً، دخل في خصومة مريرة مع معاصره الفيلسوف الألماني لايبنتز حول: أيهما الأسبق إلى وضع قواعد حساب التفاضل والتكامل؟ وظل كل منهما حتى نهاية حياته يأبى أن يعترف للآخر بالسبق في هذا المجال.

وسيغموند فرويد دخل في مساجلة مع كارل غوستاف يونغ تلميذه السابق الذي اختلف معه فيما بعد وانشق على تعاليمه. وآذنت الرسائل المتبادلة بين هذين العالمين بقطع كل صلة شخصية بينهما. كتب يونغ إلى فرويد في 18 ديسمبر (كانوا الأول) 1912: «عزيزي البروفيسور فرويد: أود أن أوضح أن أسلوبك في معاملة تلاميذك كما لو كانوا مرضى خطأ. فأنت على هذا النحو تنتج إما أبناء أرقاء أو جراء (كلاباً صغيرة) وقحة. ليتك تتخلص من عقدك وتكف عن لعب دور الأب لأبنائك. وبدلاً من أن تبحث باستمرار عن نقاط ضعفهم، ليتك على سبيل التغيير تمعن النظر في نقاط ضعفك أنت».

تبين الرسائل أن هؤلاء العلماء ـــ على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم ــ كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة

وقد رد عليه فرويد من فيينا بخطاب مؤرخ في 3 يناير (كانوا الثاني) 1913 قال فيه: «عزيزي الدكتور: إن زعمك أنني أعامل أتباعي كما لو كانوا مرضى زعم غير صادق على نحو جليّ. وأنا أقترح أن ننهي أي صلات شخصية بيننا كلية. ولن أخسر شيئاً بذلك».

ما الذي تقوله لنا هذه الرسائل بصرف النظر عن الخصومات الشخصية العارضة؟ إنها تقول إن العلم جهد جماعي وبناء يرتفع حجراً فوق حجر فآينشتاين لم يهدم نيوتن وإنما مضى باكتشافاته شوطاً أبعد في مجالات المكان والزمان والجاذبية.

إن العلم ثقافة كونية عابرة للحدود والقوميات والأديان، والعلماء بحاجة دائمة إلى صحبة فكرية والحوار مع الأقران وإلى زمالة عقلية وتبادل للآراء والنظريات والاحتمالات. والعالم الحق يعترف بفضل من سبقوه. فنيوتن الذي رأيناه يخاصم لايبنتز يقر في سياق آخر بدينه لأسلافه إذ يقول في رسالة إلى روبرت هوك – عالم إنجليزي آخر – نحو عام 1675: «إذا كنت قد أبصرت أبعد مما أبصره غيري فذلك لأنني كنت أقف على أكتاف عمالقة» (يعني العلماء الذين سبقوه). وفى موضع آخر يقول – وهو العبقري الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية - ما معناه: «لست أكثر من طفل جالس أمام محيط المعرفة الواسع يلهو ببضع حصى ملونة رماها الموج على الشاطئ».