محمد عفيفي مطر شاعر الطمي والأساطير السلالية واللاوعي الجمعي

آثر الإقامة في الظل بعيداً عن المنابر والأضواء

محمد عفيفي مطر
محمد عفيفي مطر
TT

محمد عفيفي مطر شاعر الطمي والأساطير السلالية واللاوعي الجمعي

محمد عفيفي مطر
محمد عفيفي مطر

لعل أكثر ما يميز الشعر العظيم هو كونه مصنوعاً من مواد وعناصر غير قابلة للتلف. فالنصوص الشعرية العالية لا تكف عن رفدنا بالمزيد من الإيحاءات، مهما تكررت قراءاتها. ولأنها مصنوعة من مادة الجمال نفسها فهي تزداد توهجاً مع كل قراءة، بما يذكّرنا بقول أبي نواس «يزيدك وجهه حسناً\ إذا ما زدته نظرا». وبما أن المعاصرة حجاب، على ما يرى البعض، فقد تتعرض بعض التجارب المهمة، بسبب طابعها المغاير والحدسي، إلى الإهمال وسوء الفهم لفترة غير قليلة من الزمن، ولكن سرعان ما يتم تلقفها والانتباه إليها، ولو بعد حين، فتستعيد ما خسرته من تقدير. أما النصوص التي تبهت مع تكرار قراءتها، فهي تلك التي لا يتعدى جمالها الخلبي زخارف اللغة ودغدغة المشاعر العابرة، ورطانة الحماس الخطابي. وإذا كنت أزعم في هذه المقالة بأن محمد عفيفي مطر ينتمي إلى الصنف الأول من الشعراء، فليس ذلك بداعي المجاملة، وقد بات الشاعر الآن على الضفة الأخرى من الوجود، بل لأن عودتي إلى قراءته بعد سنوات من الانقطاع أتاحت لي أن أكتشف من جديد ثراء تجربته واتساع لغته وثقافته، فضلاً عن فرادة عوالمه ومناخاته التي تربط الشعر بكل ما هو طازج وبدئي في عوالم الريف المفتوحة على الدهشة والسحر والأسطورة.
لا تختلف قصائد محمد عفيفي مطر المبكرة، بخاصة في مجموعته الأولى «من مجمرة البدايات»، عن بدايات معاصريه أو مَن سبقه قليلاً من الرواد، سواء من حيث التصاقه الرومانسي بالتراب الأول، وما تختزنه الأرض الأم في داخلها من براءة وطهْر ووعود مترعة بالخصب، أو من حيث تمرده على السائد وتبرمه بالواقع الآسن والمرير الذي يبقي بلاده وأمته رهينتين للفقر والغربة والعجز عن التقدم. واللافت في تلك البدايات هو حرص الشاعر على التوأمة بين عفوية التأليف وغواية الإيقاعات الموسيقية من جهة، وبين الإلحاح على المعنى وتقصي أغوار نفسه، من جهة أخرى. كما يتضح في تلك المرحلة تأثر الشاعر الواضح بعوالم بدر شاكر السياب الريفية والمشوبة بالحزن الرومانسي، كما بخياراته الوزنية التي يعتمد معظمها على بحر «الوافر»، ذي الشحنة الغنائية العالية. وهو ما يظهر جلياً في نصّ من مثل «صبي ضائعٌ في الريف ينهش صدره الداءُ\ وحيد القلب مهجورٌ وفارغتان كفّاهُ\ غريق الأمس، ليت الأمس يهجره وينساه\ غريب اليوم، دوّخ عمرَه الطوفان والألمُ». لكن الشاعر سرعان ما يغادر خانة الشكوى ليدخل في خانة التساؤل والبحث عن الحقيقة، فيتابع القول في القصيدة نفسها. «أحدّق في سكون الليل منهوماً بأغواري\ سؤالٌ زئبقي الروح: أين أرى فؤاد الحكمة العاري؟\ لأقبس جمرة منه لأشعاري\ تُريني في الدجى لوني، حقيقة قلبي الضاري».
إن أكثر ما يستوقفنا في تجربة محمد عفيفي مطر وأعماله المختلفة، هو كون هذه التجربة تتغذى من مصادر ريفية وترابية، وما يتفرع عنها من عناصر تكوينية وطقوس ومعتقدات. فهذه «المجمرة» التي نعت بها بواكير قصائده، التي تنصهر في داخلها روح الشاعر ولغته، لم تنطفئ جذوتها مع الزمن. وإن اتخذت أشكالاً متعددة من العلاقة بالمكان وتقاليده وخفاياه. وفي عمله اللاحق «الجوع والقمر» تشكل الطفولة، ببعديها المشهدي والنفسي، العمود الفقري للنصوص، وتتداخل العناصر الواقعية المحضة بالعناصر السحرية، وبعوالم الخرافات التي يختلط فيها البشر بالجن والغيلان والعفاريت. كما يرتفع الحجاب الفاصل بين ما هو أرضي وما هو سماوي، ويتكفل القمر والشمس والأمطار والنجوم بحمل الرسائل المتبادلة بين البشر المتعبين والجوعى، وبين عوالم الماوراء. وإذ يرتبط الجوع ارتباطاً وثيقاً بالموت في تلك المرحلة، تعكس صورة الطفل الميت خوف الشاعر العميق من خسارة طفولته أو تزويرها، بما يعني خسارة العنصر الأهم الذي يرفد حياته بأسباب البراءة، وشعره بأسباب التفجر والتخييل. على أن الموت ليس سوى الوجه الآخر للحياة أو القيامة عند الشاعر، الذي رأى في الطمي الذي يتسبب به النيل ما يجسد الرمزية نفسها والتناقض إياه. وليس من المستغرب أن يطلق البعض على عفيفي لقب «شاعر الطمي»، وهو الذي أفرد لهذه المادة المترعة بالخصب مجموعة كاملة بعنوان «يتحدث الطمي»، كما أن تلك المفردة تتكرر بشكل دائم في تعابيره وصوره واستعاراته. وقد يتخذ الطمي صورة الريح - الأنثى التي يهتف بها الشاعر «ويا ريحنا المقمرة\ ضعي ساعديك الرقيقين حول المدينة\ لكي تُسمعيها صدى قبلة الطمي والشمس\ والغيمة العابرة».
قد يكون محمد عفيفي مطر، من جهة أخرى، أحد أكثر الشعراء الذين يمكن لشعرهم أن يكون مادة خصبة للتحليل النفسي، أو لما تمكن تسميته بالتفسير النفسي للأدب، وفق دراسة متميزة للناقد المصري عز الدين إسماعيل. وأنا أميل إلى الاعتقاد بأن نتاج الشاعر يصالح إلى حد بعيد بين مدرسة سيغموند فرويد التي تعتبر الدافع الجنسي العنصر الأساس في تكوين شخصية الإنسان وتحديد أنشطته وسلوكياته، وبين نظرية يونغ حول ربط السلوك البشري بعناصر أخرى مرتبطة باللاوعي الجمعي والأساطير والأديان والمكونات الثقافية البدائية. ففي الجهة الأولى، تبدو العلاقة الوثيقة بالأم محوراً للعديد من القصائد. وهي إذ تتحد مع الأرض واللغة في بعضها، تتخذ في بعضها الآخر بعداً أوديبياً يسهل اكتشافه من خلال النكوص النفسي إلى زمن الطفولة، كما من خلال الصور الحسية الواضحة، كقول الشاعر «خذي رأسي على ساقيكِ يا أمّاه\ ضعي رأسي على أرجوحة العطر التي تهتزّ في الزنّار والجلبابْ\ضعي ثدييكِ في كفي يا أماه\ دعيني مرة أندسّ بين حدائق اللبنِ\ وأرقص عارياً وأطير تحت سمائها البيضاء». أما في الجهة الثانية، فإن شعر مطر يتغذى من عوالم أسطورية، وما قبل دينية، بقدر ما ينهل من ينابيع دينية وإسلامية، تتمظهر في صورتها الشعبية عبر الإيمان الفطري والاعتقاد بكرامات الأولياء، فضلاً عن نزعته الصوفية المتماهية مع رموز تراثية بارزة، كابن عربي والسهروردي والنفري وغيرهم. كما تعكس بعض القصائد نوعاً من النزوع الطوطمي من جهة، ونزوعاً إلى الحلولية، ووجدة الوجود من جهة أخرى. فالناس يتبادلون الأدوار مع الأشجار والحيوانات، ويتحدون معاً في سلالة واحدة. وهو ما تفصح عنه قصيدة «شجرة الأسلاف»، حيث يقول مطر «فهذا توتنا الأبيضْ\ يمدّ جذوره ويمصّ ما بصدور موتانا\ يصير يمامة ويصير سنبلة وإنسانا». ويقول في مكان آخر: «وغداً سأخرج آخر الليلِ\ لأرجع طينة وأذوق طعم تحوّلي وأصير جميزة».
غير أن أي قراءة نقدية عميقة لتجربة محمد عفيفي مطر يصعب أن تستقيم دون الالتفات إلى كونه أحد الشعراء القلائل الذين اعتبروا الشعر مشروعاً معرفياً ورؤيوياً، وليس مجرد تطريزٍ جمالي أو تنفيسٍ بالغناء عن وحشة الكائن. أما ميله الواضح إلى الربط بين الشعر والفلسفة، فهو على الأرجح ناجم عن تخصصه بهذه الأخيرة، وتدريسه لها لعقدين من الزمن. وهو ما نتلمس ظلالاً له في مجموعته «ملامح من الوجه الأمبيذوقليسي»، حيث لا ينحصر تأثر مطر بالفيلسوف اليوناني الشهير، بالتركيز على العناصر الأربعة التي يتكون منها الخلق، بل بالتأكيد على عنصري التآلف والتنافر، أو الحب والكراهية، اللذين يتصارعان على الدوام في دواخل البشر. والحقيقة أن رؤية مطر إلى العالم لا تشير إلى الأشياء والكائنات، وحتى إلى القيم والمواقف والمعتقدات، بوصفها ثابتة ونهائية، بل هي في حالة انزلاق وتحول مستمر. فضلاً عن الطابع الجدلي الذي يخلق من صراع الأضداد دينامية للتجدد والانبثاق. فإلى عالم الفساد والموت والقسوة المعتمة، الذي تعكسه مفردات من مثل: البومة والغراب والسم والرماد والفصد والتابوت والعقم، ثمة معجم مقابل للأمل والتجدد والخصب وانتصار الحياة. كما أن الشاعر في تلك المرحلة يغادر مناخات البواكير ذات الظلال السيابية، ليتقاطع مع شذرات أدونيس القصيرة ذات الإيقاع المتوتر «الليل حينما زُوّج بالفجيعة\ أولدها مدّاً من الحبائل اللفظية التي تصعد عالياً فعالياً\ ليدخل الأبكم في الأصمّ\ يصبح الوباء نكتة في رحم الذريعة». وقد نرى في أماكن أخرى ظلالاً لنيتشه، تظهر من خلال صورة الأنا المتفوقة والمتسمة بالجبروت والقادرة على تغيير العالم «فأنا أُفطر في الصبح بغابة\ أتغدى بسحابة\ ألبس الأفقَ على رأسي شالاً، وأدير العاصفة\ خاتماً في إصبعي\ والبحرَ خفّاً، والكتابة\ معجماً تصرخ فيه لغة الخلق وتنشقّ وجوه الكائنات».
لا يبدو العالم سويّاً ومعافى في أعمال محمد عفيفي مطر، بل هو يبدو عالماً مريضاً ومعوجّاً ومكتنفاً بالكدر والسواد الموحش. وعلى غرار الأحيمر السعدي، الذي يجزع من أصوات البشر ويستأنس بعواء الذئب، لا يتوانى الشاعر في مجموعته «البكاء في زمن الضحك» عن القول «أبتهل إلى الكلمات - الحرية\ والإيقاع الطعنة\ والفاصلة الحادة كالسكينْ\ أن تقطع ما يربطني بالإنسان\ أن تجعل مني ذئباً يعوي في ظلمات الوحشة والبريّة». وهو في مجموعة أخرى يخترع ملاكاً للعتمة وانطفاء الروح يسميه «ظلمائيل». وإذ ينبغي أن تشي مجموعته «رباعية الفرح» بشيء من التفاؤل، فإن ما يشيع بين ثنايا القصائد هو أقرب إلى الكآبة وألم النفس منه إلى أي شيء آخر. والأمر نفسه يتكرر في ديوان «أنت واحدها وهْي أعضاؤك انتثرتْ»، حيث لا يجد الشاعر من يحاوره سوى الموتى، وحيث تؤم اللغة مناطق ورؤى «أبوكاليبسية» قريبة من جحيم دانتي، بقدر ما تقترب أكثر فأكثر من وعورتها: «أقوم أكلّم الموتى\ وأنظر ما تَصاهَر من دم تتقلّب الأنسابُ فيه\ بصبْوة العشق المبرّح\ أنظر الأكفان والعظم الرميمَ توشّجتْ منه القبيلة\ أشهد الأمشاج أعراقاً وألوية تَذاوبُ\ والصنوجُ تدقّ بالصدأ الكظيمْ». اللافت أن الشاعر الذي لم يتخلل تجربته الطويلة والغزيرة إلا القليل من النصوص النثرية، كان يدرك تماماً أن البقاء في دائرة الوزن الواحد لا بد أن يوقعه في ربقة التكرار، ويحد من اتساع معجمه اللغوي، لذلك فهو يتجه لاحقاً نحو بحور «الرمل» و«المتقارب» و«الرجز»، موفراً لقصيدته عصباً مختلفاً وفضاءات أكثر اتساعاً. إلا أن مطر الذي نجح في أعماله الأولى في المؤالفة بين انسياب القصيدة الغنائي، وبين محمولها المعرفي، فضلاً عن كبحه الحاذق لجماح اللغة، يستسلم في بعض قصائده المتأخرة للإطالة والإطناب والدوران غير المبرر حول الفكرة نفسها والمعنى إياه. لا بل إن بعض القصائد تبدو بلا مقدمات ولا خواتيم وقابلة للتمدد إلى ما لا نهاية. ومع ذلك فإن تجربة محمد عفيفي مطر تمتلك من الفرادة والثراء ما يضعها في موقع متقدم بين التجارب الشعرية الحديثة في العالم العربي. وإذا كان صاحبها قد آثر العزلة والإقامة في الظل طيلة حياته، فإنه يستحق بعد رحيله أن يحظى بالمزيد من الدراسة والقراءة والاهتمام.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.