بلاد الرافدين... ثوابت الجغرافيا وصور التعايش

بلاد الرافدين... ثوابت الجغرافيا وصور التعايش
TT

بلاد الرافدين... ثوابت الجغرافيا وصور التعايش

بلاد الرافدين... ثوابت الجغرافيا وصور التعايش

يصدر قريباً عن «دار لندن» كتاب «بلاد الرَّافدين... ثوابت الجغرافيا وصور التعايش» للباحث العراقي رشيد الخيون. يقول المؤلف في تقديمه: «إن هذا الكتاب بُني على روايات وقصص وجدت متفرقة بين صفحات الكُتب التراثية، جُمعت تحت هدف واحد، هو محاولة تكريس التعايش، الذي اهتز تحت وطـأة أحداث كبرى، فاقت طاقة الناس، أتينا بقدر المستطاع على نصوص وحكايات مِن التراث والأدب. يعذرني القارئ اللبيب أنه لم يكن كتاباً نظرياً أو فكرياً، بمعنى التحليل واستخلاص النتائج، بقدر ما جاء كتاباً تُراثياً، في مادته وأسلوبه، لذا لا يتأمل مِنه أكثر مما في صفحاته».
ويحتوي الكتاب على تمهيد و9 فصول وخاتمة... في الجغرافيا والسياسة، كوامن المذهبية والعرقية، الناس شُركاء في الأوطان، العامة أحوالها و«فراهيدها»، التعايش الديني، التعايش بين المذاهب، الهاجس القومي، البصرة بوابة العراق البحرية ونعمته، أهوار العراق، مع ملحق إحصاءات رسمية.
هنا مقتطفات وافية من مقدمة المؤلف...
لا تستقر البلدان المختلطة، قومياً ودينياً ومذهبياً، إلا بتكريس فكرة التعايش (coexistence)، ذلك بما فيها من أحداث مثقلة بالخصومة الدّينية الطّائفية والوئام على حد سواء، وبما فيها من نصوص دينية وفقهية وقومية، لا تساعد في الغالب من الأحيان على سلاسة العيش، والتضامن والتكافل الاجتماعي، على اختلاف القوميات والأديان والمذاهب، لكن لو خلا تاريخ تلك البلدان مِن حالات وئام ساعد على التعايش لانتهت تلك الشّراكة، وتصحرت اجتماعياً، وظلت للدين والمذهب والقوم الأقوى. إلا أنه بعد قراءة تاريخ العراق، الفترة الإسلامية على الأقل، تبرز السّياسة عاملاً مهماً في اضطراب التعايش بين أهل الجغرافيا الواحدة. كذلك تبرز في التقارب بين المكونات الاجتماعية، على شاكلة ما حدث بين الشّيعة والسنة عام «442 هـجرياً 1050 ميلادية» عندما اقتضت المصلحة الجماعية لأهالي بغداد أن يكون جمعاً واحداً ضد والي شرطتها، مثلما سيأتي ذكر ذلك لاحقاً.
تكرست معوقات للتعايش في الثّقافة الدّينية والقومية، وتشتد تأثيراتها بدوافع سياسية. فالجماعات الدّينية السّياسية، شيعية كانت أم سُنَّية، عندما تصدرت الواجهة في السّياسية والسّلطة ليس بإمكان شخوصها الاستغناء عن ذلك الإرث، وعلى وجه الخصوص إذا وجدته وسيلة لجذب وتأييد الأتباع، فتداوم على إبرازه والتذكير به بين فترة وأخرى، خشية تخلخل الصّف الطّائفي خلف قيادتها.
الأخطر من هذا، ما كان يصرح به ويفتي رجل الدّين ضد الأديان أو المذهب الآخر في مجلس محدود، من منبر خطبة جمعة أو حديث مِن على منبر مجلس حسيني، أخذ يبث الآن عبر الفضائيات، التي تمتلكها جماعات وكيانات متنفذة، ويسمعه الملايين.
استهل الكتاب، قبل المقدمة هذه، بمقالٍ كنتُ كتبته عشية سقوط النّظام السّابق، بدخول الدبابتين الأميركيتين إلى وسط بغداد (9 أبريل - نيسان 2003)، ونُشر بعد 3 أيام في صحيفة «المؤتمر» (11 أبريل، العدد 245)، وفيه تذكير بالانتقام العباسي مِن الأمويين، الذّي ارتبط ببيت من الشّعر، فالمقال نُشر تحت عنوان «لا تسمعوا لسُّديف بن ميمون الشّاعر»، على أنه حسب ما ورد في التاريخ حرض على الانتقام الذّي وصل إلى نبش القبور، مع عدم إغفال ما فعله الأمويين أنفسهم بخصومهم، لكن مَن يريد بناء وطن خالٍ مِن الاستحواذ والهيمنة عليه الشّح عن سُديف الشّاعر. لكنني وجدتُ المقال كأنني كتبته داخل كهف، فـ15 عاماً مِن ممارسات لا تليق بالوطن ولا بالمواطن. نظرتُ في لغة المقال وجدته محلقاً بالأماني والخيالات، فسديف أقوى مما نطلب ألا يُتبع، وإذا بالثّأر صار شعاراً.
مِن الصّدف أن أكتب موضوعاً قبل أيام مِن سقوط بغداد، ويُنشر في «الشرق الأوسط» يوم 9 أبريل «العدد 8898» بلا تخطيط. كان تحت عنوان «نازلة النّوازل»! مع أنه لا محرر الصّفحة الثّقافية في «الشرق الأوسط»، الأديب والشّاعر فاضل السّلطاني، ولا أنا، نعلم أن يوم الأربعاء مِن ذلك التاريخ، كان «نازلة النّوازل»، ولم أختر العنوان لهذا الشّأن، إنما كان للمصادفة دورها، بل ليوم الأربعاء مصادفاته في النّكبات عبر التاريخ.
كان الأربعاء يوماً لاجتياح بغداد من قِبل المغول التتار، زحفوا عليها كالقوارض، من الأسوار والبوابات، واتفق أن يكون من أيام صفر، السّابع منه، وهو يوم منحوس كما تقدم، وشهر أنحس لدى العراقيين، في ذلك الزّمان، حتى جمع النّحسين أبو حيان التوحيدي بقوله، وهو يتحدث بلسان حال أحدهم: «يا يوم الأربعاء من آخر صفر، ويا لقاء الكابوس في وقت السّحر، يا حرَّ آب عند سكان العِراق، يا خَراجاً بلا غلة، يا سفراً مقروناً بعِلة»!
كان قتل الخليفة عبد اللّه المستعصم في الأربعاء التي تلتها، الرّابع عشر من صفر، وهو اليوم الذّي قرر فيه هولاكو ترك بغداد «بسبب عفونة الهواء»، وربما لنفس السّبب والغاية غادرها الغازي الأميركي الجنرال تومي فرانكس، فبعد فترة وجيزة من مكوثه في القصر الجمهوري هنّأ جيشه على الانتصار وغادر مصحوباً بألف سؤال وتساؤل!
حقاً أشعر، وأنا أخوض في البرهنة على بداهة اسم العراق ووجوده الجغرافي التاريخي، بالحرج، وكأني أرمي إلى جدل بيزنطي، مثلما يُقال، لا نتيجة منه. فمَنْ يصرّ على إنكار العراق وجوداً واسماً وكياناً وثقافة حتى أرضاً، لها حدود من الجهات الأربع، مثلما ذكرها البلدانيون القدماء، فأمام العقائد السّياسية والعصاب القومي والمذهبي تسقط الجغرافيا والتاريخ، ومثل هؤلاء لا يمكن إقناعهم بسفن من الإثباتات والبراهين، وهل تستطيع إثبات شروق الشّمس مِن المشرق أمام إصرار مَن يراها تشرق مِن الغرب؟!
تضمن الفصل بحثاً في اسم العراق عبر التاريخ، وبحثاً آخر عن ابتلاء العراق وأهله بعبارة «أهل شِقاق ونِفاق»، التي قالها عبد اللّه بن الزّبير (قُتل 73هـ)، وتمثلها الحجَّاج بن يوسف الثّقفي (ت 95 هـ)، دراسة تحت عنوان «مَن القائل...؟!».
يـأتي فصل «كوامن المذهبية والعِرقية» قراءة عامة عن العناصر التي تدفع بتفجير هذه الكوامن، والسّبب الأول سياسي، لما للسياسيين والأحزاب مِن دور في ذلك، وجاء على مرحلتين ما قبل 9 أبريل وما بعده، وانتقال أحزاب المعارضة الإسلامية إلى السّلطة. ويأتي الفصل الثّالثّ «التعايش... اختلاف ومساواة»، وما يسفر عنه أن النّاس «شُركاء في الأوطان».
جاء فصل «التعايش الدّيني» حافلاً بالإرث التاريخي، بين حدث ورواية وتصور، تمتد إلى حقبة زمنية غابرة، تارة وجد العراقيون فيها أنفسهم جنباً إلى جنب، على مختلف أديانهم، وتارة تكون الدّيانات الآخر مطاردة ومنكفئة على نفسها، بفعل السّياسة الرّسمية. إلا أن التجربة، السّابقة واللّاحقة، تؤكد أن ما جرى ويجري، خارج الوئام والتعايش السّلس، لا يتصدره ويمارسه غير عصبة من تلك الطّائفة وهذا الدّين أو ما تقتضيه مصلحة الحاكم، وليس الطّائفة بأبيضها وأسودها، أو قضها وقضيضها، مثلما يُقال. ركز الكتاب على نماذج التسامح والتكاره المذهبي بين الشّيعة والسنة، عبر التاريخ، وتبدو العلاقة متشابهة كثيراً على الرّغم من اختلاف الأزمنة. لم يشهد التاريخ العراقي مواجهات شاملة جامعة بين الأديان والمذاهب والقوميات؛ فلم يُعثر على حرب عربية كردية، أو كردية تركمانية شاملة، أو مواجهات شيعية سُنَّية شاملة، خارج سلطة أمير أو والٍ أو أغا. وما هو ملاحظ في الآونة الأخيرة أن هناك جيشاً يطرح نفسه مدافعاً وممثلاً عن السنة، وآخر يطرح نفسه ممثلاً ومدافعاً عن الشّيعة، ومع كل الإلحاح على مواجهة الجموع بالجموع فإنها لم تحدث، بل على العكس، وجد الجيشان أنفسهما في عزلة من قبل العشائر والطّبقات الاجتماعية العراقية الأخرى. كذلك صار بالضّرورة وتحت الاضطرار للمسيحية والأيزيدية مسلحوهم، الغرض منهم الحماية بالدّرجة الأولى.



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.