إبراهيم فتحي يغادر فضاء الكتابة

ترجم لماركوز وهيغل وبوردو ولوفيفر وأهم من كتب عن نجيب محفوظ

إبراهيم فتحي
إبراهيم فتحي
TT

إبراهيم فتحي يغادر فضاء الكتابة

إبراهيم فتحي
إبراهيم فتحي

كان نجيب محفوظ إذا سئل عن أهم كتاب نقدي صدر عن أعماله الروائية، يجيب بتلقائية شديدة «كتاب إبراهيم فتحي»، ويقصد به كتاب «العالم الروائي عند نجيب محفوظ»، وهو الكتاب الذي أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب وأعيدت طباعته أكثر من مرة، وقدم فيه إبراهيم فتحي بصيرة نقدية لافتة، جمعت بين منهجية الرصد والتحليل لعالمين يكمل بعضهما الآخر ويمثلان العالم الروائي لنجيب محفوظ، عالم ينتهي بـ«الثلاثية» وتبلور شخصية كمال عبد الجواد برمزيته الممثلة لعالم الطبقة الوسطى، وعالمه الجديد أو مرحلته الجديدة التي شاعت تسميتها بالمرحلة الفلسفية والفكرية، وبلغت تجليها الأعمق في رواية «أولاد حارتنا». ويناقش الكتاب من خلال هذه المرحلة العلاقات الجدلية المتشابكة بين الشكل الروائي وتقنياته والأثر الاجتماعي والافتراضات الفلسفية في الوقت نفسه فتنكشف حيرة الشخصيات ومأساة الإنسان أمام الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها الواقع ويبحث معها السرد الروائي عن أشكال جديدة للتعبير ويظل السؤال حول القضية الفكرية والشكل الروائي لا ينتهي.
يوم الخميس الماضي وبعد زيارة قصيرة لمصر، كانت بمثابة تلويحة وداع لتراب الوطن والأصدقاء والذكريات، طوى إبراهيم فتحي صفحات كتابه في الحياة، حيث غيبه الموت في العاصمة البريطانية لندن عن عمر يناهز 89 عاماً بعد صراع مع المرض، لتفقد الحياة الثقافة المصرية والعربية واحداً من كبار نقاد جيل الستينيات، الذي ساهم بدور بارز في الحركة النقدية المصرية والعربية، ودافع عن قيم الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية. وفور إعلان خبر وفاته نعته وزارة الثقافة المصرية في بيان لها، ووصفته بأنه أحد العلامات المضيئة في مجال النقد والترجمة، ومن أهم نقاد جيل الستينيات، وأبرز المساهمين في إثراء الحياة السياسية والفكرية في مصر والعالم العربي. كما أصدر اتحاد كتاب مصر بياناً مماثلاً نعى فيه إلى الوسط الثقافي العربي والمصري ببالغ الحزن وعميق الأسى رحيل إبراهيم فتحي، لافتاً إلى أنه يعد واحداً من أهم نقاد جيل الستينيات وأبرزهم تأثيراً، ونشاطاً، وكتابة.
وقال الناقد الدكتور يسري عبد الله إن إبراهيم فتحي علامة حقيقية من علامات الثقافة الوطنية، ليس فحسب لمواقفه الفكرية والسياسية، ولكن لعطائه الممتد لأجيال متعاقبة، لعب معها دور الرائد والملهم، فكان جهده تكريساً لفكرة المثقف العضوي، الملتزم بواقعه، والمنغمس فيه، والساعي لجعله أكثر جمالاً وإنسانية. أدرك إبراهيم فتحي مبكراً جدل البعدين السياسي والثقافي، ودفع أثماناً باهظة في هذا السياق، لكنه لم تفتر عزيمته، وظل معنياً بهموم ناسه، فاعلاً في الحركة الثقافية عبر مؤلفاته المختلفة وترجماته النوعية ومقالاته في النقد التطبيقي التي قدمت أسماء مهمة ولامعة في الرواية المصرية، كما كشف فتحي عن جوانب مغايرة في المشاريع الإبداعية الكبرى في ثقافتنا العربية مثلما صنع في كتابيه «العالم الروائي عند نجيب محفوظ»، و«نجيب محفوظ بين القصة القصيرة والرواية الملحمية». ويلاحظ عبد الله أن فتحي قرأ مشروع محفوظ قراءة مغايرة. فرغم منطلقات الراحل الفكرية من النقد الاجتماعي والتحليل الماركسي للأدب فإنه كان متخلصاً من القوالب الجاهزة التي سجن فيها بعض نقاد اليسار أدب محفوظ، حيث تحررت الدلالة النقدية لديه أثناء القراءة من أسر المقولات الجاهزة والمصطنعة. ومثلت كتابات فتحي في هذا السياق حالة من التأمل الخلاق في أعمال نجيب محفوظ الروائية والقصصية. قدم إبراهيم فتحي أيضاً مؤلفاً مهماً هو الخطاب الروائي والخطاب النقدي في مصر، حوى قراءة لجوانب متعددة من الخطاب الجمالي والمعرفي في مصر سرداً ونقداً. وربما مثلت الترجمة لدى إبراهيم فتحي بعداً أصيلاً في مشروعه الفكري الذي يعد متناً حقيقياً في الثقافة الوطنية المصرية. امتلك إبراهيم فتحي أسلوباً يخصه في الكتابة ولم يكن نقده غارقاً في التنظير، بل سعى إلى خلق تلك المساحة المشتركة دائماً بين النظرية وتطبيقاتها.
ويرى الناقد عبد الناصر حنفي أن النصف الثاني من القرن العشرين في مصر شهد عدداً قليلاً من العقول التي احتفظت حتى النهاية بالقدرة والرغبة في مطاردة العالم إلى حدوده القصوى ومساءلته وتحليله فلسفياً، وإبراهيم فتحي كان أحد هذه العقول التي سعت دائماً إلى إعادة النظر إلى العالم والسعي إلى استيعابه من جديد، بعيداً عن التعثر في منظومة الالتزامات السياسية والاجتماعية والأكاديمية أحياناً.
أما الكاتب والمترجم أشرف راضي فيقول إن فتحي اعتزل العمل السياسي بعد خروجه من المعتقل في أوائل السبعينيات، ليتفرغ للنقد الأدبي والترجمة والكتابات الثقافية والفكرية، واكتشف في هذا الميدان الجديد وسيلة أخرى للتأثير وتشكيل العقل، وإحداث ثورة في مجال الفكر والتفكير. ولم يكتف بالكتابة والتأليف والترجمة ولكنه ساهم أيضاً في تأسيس حركات فكرية وثقافية لعل أبرزها تجربة مجلة «جاليري 68»، التي ساهم فيها مع آخرين، وقدمت تياراً جديداً في النقد الأدبي والأدب ولعبت دوراً بارزاً في الحركة الثقافية والنقدية المصرية.
كذلك، قدم إبراهيم فتحي عدداً من الروائيين المرموقين، منهم إبراهيم أصلان وبهاء طاهر وجمال الغيطاني ومحمد البساطي. وكان له تأثير كبير في عشرات المثقفين، خصوصاً الذين مارسوا العمل السياسي في تيارات اليسار المصري في الستينات والسبعينات.
ولفت راضي إلى أن هناك جانبين مهمين في المشروع الفكري والنقدي للناقد الكبير الراحل. الأول هو الكتابات النقدية عن أدب نجيب محفوظ، أما الجانب الثاني فيكمن في تنوع كتاباته، سواء في موقع الحوار المتمدن وغيره من الصحف والمجلات بين السياسة والأدب والفن. فقدم قراءات نقدية لكتابات عدد من المثقفين المصريين مثل يوسف إدريس وعلي الشوباشي وجميل عطية إبراهيم. ويتجلى في إبداعاته المؤلفة والمترجمة اهتمامه المستمر بقضايا اليسار، خصوصاً اليسار الجديد في أوروبا. وكان متابعاً للأحداث والاتجاهات الجديدة فكتب عن الشعبوية ومخاطرها.
كما قدم الناقد الراحل إبراهيم فتحي للمكتبة العربية مفكرين مثل هربرت ماركوز الذي ترجم له كتاب «نظرية الوجود عند هيغل»، وترجم أيضاً كتاب «قواعد الفن» لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بوردو، والمادية الجدلية للمفكر الفرنسي هنري لوفيفر، وترجم كتاباً نقدياً عن أعمال شاعر العامية بيرم التونسي. كانت كتاباته علامات في النقد الأدبي والسياسة، كما في «كوميديا الحكم الشمولي»، و«الخطاب الروائي والخطاب النقدي في مصر» فضلاً عن كتابه الهام عن سول بيلو: «انفصام شخصية الروائي اليهودي»، عن الكاتب الأميركي اليهودي الأصل الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1976.
تخرج إبراهيم فتحي في كلية الطب بجامعة القاهرة، لكنه ترك الطب متفرغاً للترجمة والكتابة الأدبية، وبدأ مشواره العملي بترجمة رواية «الهزيمة» للكاتب الروسي فانسسيف ثم كتب مئات المقالات والأبحاث التي نشرت في دوريات عدة، بالإضافة إلى مساهمته في تأسيس مجلة «غاليري 68» التي قدمت ثقافة نوعية شارك فيها عدد من الكتاب والشعراء والمثقفين، وكذلك جمعية «كتاب الغد» التي كان لها أثر ملحوظ في الحياة الثقافية والفكرية والسياسة منذ نهاية الستينيات، ومن أشهر ترجماته، بالإضافة إلى الكتب التي أشرنا إليها سابقاً، «قواعد الفن» لبيير بورديو، و«أزمة المعرفة التاريخية» لبول فيين، و«المنطق الجدلي» لهنري لوفيفر، و«موسوعة النقد الأدبي» و«الرومانسية»، ومن مؤلفاته الفكرية «الماركسية وأزمة المنهج»، «هنري كورييل ضد الحركة الشيوعية العربية».
وفي 8 فبراير (شباط) من العام الماضي كرمته زارة الثقافة ممثلة في المجلس الأعلى للثقافة عن مجمل أعماله التي أثرت الحياة الفكرية، بحضور عدد من أساتذة الأدب والفلسفة ومن المتخصصين من تلامذة ورفقاء دربه ومحبيه.



مخزون الصور العائلية يُلهم فناناً سودانياً في معرضه القاهري الجديد

صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
TT

مخزون الصور العائلية يُلهم فناناً سودانياً في معرضه القاهري الجديد

صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)

«زهوري اليانعة في داخل خميلة»... كلمات للشاعر الجاغريو، وهي نفسها الكلمات التي اختارها الفنان التشكيلي السوداني صلاح المر، لوصف السنوات التي قضاها في مصر، والأعمال الإبداعية التي قدّمها خلالها، وضمنها في البيان الخاص بأحدث معارضه بالقاهرة «احتفالية القرد والحمار».

تنقل المر خلال 15 عاماً قضاها في مصر ما بين حواري الحسين، ومقاهي وسط البلد، وحارات السبتية، ودروب الأحياء العتيقة، متأثراً بناسها وفنانيها، ومبدعي الحِرف اليدوية، وراقصي المولوية، وبائعي التحف، ونجوم السينما والمسرح؛ لتأتي لوحاته التي تضمنها المعرض سرداً بصرياً يعبّر عن ولعه بالبلد الذي احتضنه منذ توجهه إليه.

لوحة لرجل مصري مستلهمة من صورة فوتوغرافية قديمة (الشرق الأوسط)

يقول المر لـ«الشرق الأوسط»: «أعمال هذا المعرض هي تعبير صادق عن امتناني وشكري البالغين لمصر، ويوضح: «جاءت فكرة المعرض عندما وقعت عقد تعاون مع إحدى الغاليريهات المعروفة في الولايات المتحدة، وبموجب هذا العقد لن أتمكن من إقامة أي معارض في أي دول أخرى، ومنها مصر التي عشت فيها أجمل السنوات، أردت قبل بدء الموعد الرسمي لتفعيل هذا الاتفاق أن أقول لها شكراً وأعبّر عن تقديري لأصحاب صالات العرض الذين فتحوا أبوابهم لأعمالي، والنقاد الذين كتبوا عني، والمبدعين الذين تأثرت بهم وما زلت، وحتى للأشخاص العاديين الذين التقيت بهم مصادفة».

اللوحات تقدم مشاهد مصرية (الشرق الأوسط)

استلهم الفنان 25 لوحة بخامة ألوان الأكريلك والأعمال الورقية من مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية والـ«بوستال كارد» المصرية القديمة، التي تعكس بدورها روعة الحياة المصرية اليومية، ودفء المشاعر والترابط المجتمعي فيها وفق المر: «لدي نحو 5 آلاف صورة مصرية، جمعتها من (الاستوديوهات) وتجار الروبابكيا، ومتاجر الأنتيكات، ومنا استلهمت لوحاتي».

ويضيف: «مصر غنية جداً باستوديوهات التصوير منذ عشرات السنين، ولديها قدراً ضخماً من الصور النادرة المُلهمة، التي تحكي الكثير عن تاريخها الاجتماعي».

الفنان صلاح المر (الشرق الأوسط)

يستطيع زائر المعرض أن يتعرف على الصور الأصلية التي ألهمت الفنان في أعماله؛ حيث حرص المر على أن يضع بجوار اللوحات داخل القاعة الصور المرتبطة بها، ولكن لن يعثر المتلقي على التفاصيل نفسها، يقول: «لا أقدم نسخة منها ولا أحاكيها، إنما أرسم الحالة التي تضعني فيها الصورة، مجسداً انفعالي بها، وتأثري بها، عبر أسلوبي الخاص».

لوحة مأخوذة عن صورة لطفل مصري مع لعبة الحصان (الشرق الأوسط)

تأتي هذه الأعمال كجزء من مشروع فني كبير بدأه الفنان منذ سنوات طويلة، وهو المزج ما بين التجريد التصويري والموضوعات ذات الطابع العائلي، مع الاحتفاء بالجماليات الهندسية، والرموز التراثية، والاستلهام من الصور، ويعكس ذلك ولعه بهذا الفن، تأثراً بوالده الذي عشق الفوتوغرافيا في شبابه.

يقول: «بدأ تعلقي بالفوتوغرافيا حين عثرت ذات يوم على كنز من الصور في مجموعة صناديق كانت تحتفظ به الأسرة في مخزن داخل المنزل بالسودان، وكانت هذه الصور بعدسة والدي الذي انضم إلى جماعة التصوير بكلية الهندسة جامعة الخرطوم أثناء دراسته بها».

لوحة مستلهمة من صورة قديمة لعروسين (الشرق الأوسط)

هذا «الكنز» الذي عثر عليه المر شكّل جزءاً مهماً من ذاكرته البصرية ومؤثراً وملهماً حقيقياً في أعماله، والمدهش أنه قرر أن يبوح للمتلقي لأول مرة بذكرياته العزيزة في طفولته بالسودان، وأن يبرز دور والده في مشواره الفني عبر هذا المعرض؛ حيث يحتضن جدران الغاليري مجسماً ضخماً لـ«استوديو كمال»؛ وهو اسم محل التصوير الذي افتتحه والده في الستينات من القرن الماضي.

لوحة تعكس تفاصيل مصرية قديمة (الشرق الأوسط)

يقول: «أقنع والدي جدي، بإنشاء استوديو تصوير بمحل الحلاقة الخاص به في (سوق السجانة) بالخرطوم، وتم تجهيز الاستوديو مع غرفة مظلمة من الخشب للتحميض، وذلك في الجزء الخلفي من الدكان».

وجوه مصرية (الشرق الأوسط)

وداخل المجسم تدفع المقتنيات الخاصة المتلقي للتفاعل مع ذكريات المر، والمؤثر الفني الذي شكل أعماله؛ ما يجعله أكثر تواصلاً، وتأثراً بلوحات المعرض؛ فالمتلقي هنا يستكشف تفاصيل تجربة الوالد في التصوير، بل يمكنه التقاط صور لنفسه داخل محله القديم!

وأثناء ذلك أيضاً يتعرف على جانب من تاريخ الفوتوغرافيا، حيث المعدات، وهي عبارة عن الكاميرا YASHIKA التي تستخدم أفلام مقاس 621 وEnlarger والستارة التي تعمل كخلفية وأدوات أخرى للتحميض والطباعة، وتجفيف الفيلم والصور بواسطة مروحة طاولة، وقص الصور بمقص يدوي: «استمر العمل لمدة سنة تقريباً، وأغلق الاستوديو قبل أن أولد، لكن امتد تأثير هذه التجربة داخلي حتى اللحظة الراهنة».

مجسم لاستوديو والد الفنان في الغاليري (الشرق الأوسط)

«احتفالية القرد والحمار» هو اسم «بوستال كارد» عثر عليه الفنان لدى تاجر روبابكيا، ويجسد مشهداً كان موجوداً في الشارع المصري قديماً؛ حيث يقدم أحد الفنانين البسطاء عرضاً احتفالياً بطلاه هما القرد والحمار، ومنه استلهم الفنان إحدى لوحات معرضه، ويقول: «تأثرت للغاية بهذا الملصق؛ وجعلت اسمه عنواناً لمعرضي؛ لأنه يجمع ما بين ملامح الجمال الخفي في مصر ما بين الفن الفطري، والسعادة لأكثر الأسباب بساطة، وصخب المدن التي لا تنام».