عبد الفتاح مورو محامٍ وبرلماني في السباق نحو رئاسة تونس

يدافع عن «الإسلام التونسي والمغاربي» وينتقد التطرف واستخدام العنف

عبد الفتاح مورو محامٍ وبرلماني في السباق نحو رئاسة تونس
TT

عبد الفتاح مورو محامٍ وبرلماني في السباق نحو رئاسة تونس

عبد الفتاح مورو محامٍ وبرلماني في السباق نحو رئاسة تونس

دخل عبد الفتاح مورو المحامي والقاضي المعزول في عهد الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة عالم السياسة منذ أكثر من 45 سنة، بعدما تعرّض إلى مضايقات بسبب محاضراته وخطبه العلمية والدينية في الجامعات والمساجد.
تلك المحاضرات والخطب جذبت بسرعة آلاف المتابعين من الشباب وموظفي الدولة والتجار نتيجة لفصاحته واستخدامه أسلوب الهزل والمزاح وانتقاد النظام التونسي بعمق عبر التلميح غالباً. ولكن، لم يتوقّع أحد وقتها أن تساهم تلك المضايقات في صنع زعيم سياسي معارض، وأحد أبرز الشخصيات العمومية في تونس وفي المنطقة، وأن يُنتخب عام 2014 نائباً أول لرئيس البرلمان، بدعم من ثلثي النواب، ثم أحد أبرز المرشحين في الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها المقررة ليوم 15 سبتمبر (أيلول) المقبل.

يُعتبر عبد الفتاح مورو، الزعيم التاريخي الثاني في حركة «الاتجاه الإسلامي» التونسية، بعد رئيسها راشد الغنوشي، وذلك منذ نشأتها في شكل «جماعة إسلامية».
لقد كانت أولويات الحركة ثقافية اجتماعية عام 1973. قبل أن تطغى عليها الصبغة السياسية أواخر السبعينات. ثم بعد تقدّمها في يونيو (حزيران) 1981 بمطلب رسمي للاعتراف بها في شكل حزب سياسي قانوني على غرار بقية الأحزاب اليسارية والليبيرالية.
مورو يعتبر أن تلك الخطوة كانت الأولى من نوعها في تاريخ الحركات الإسلامية العربية ضمن عدة مبادرات للقطع مع منهج «العمل السرّي»، والانخراط في العمل السياسي والحزبي القانوني.
إلا أن الصراعات داخل مؤسسات الحكم أواخر عهد الرئيس بورقيبة (1955 – 1987) والأعوام الأولى من عهد الرئيس بن علي (1987 – 2011) أجهضت تلك المبادرات، فأقحمت مورو ورفاقه منذ صيف 1981 في سلسلة من المحاكمات السياسية والمواجهات مع السلطات حتى اندلاع الانتفاضات الشبابية والثورات العربية مطلع 2011.

الانحياز للاحتجاجات الشبابية

كان مورو والقادة التاريخيون في حركة «الاتجاه الإسلامي» قد حوكموا لأول مرة في خريف 1981 بالسجن لمدد تراوحت بين سنتين و10 سنوات بتهم سياسية، أهمها الانتماء إلى حركة سياسية غير قانونية، وبالوقوف وراء التحركات الطلابية والاحتجاجات الشبابية في المعاهد والجامعات خلال شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) 1981.
يومذاك، تطوّرت التحركات لأول مرة إلى مظاهرات ضخمة في العاصمة تونس وغالبية مدن البلاد، وشارك فيها في الوقت نفسه طلاب الجامعات والثانويات وشباب من أبناء الجهات المهمشة والأحياء العمالية والشعبية. ويعتبر مورو أن تلك المحاكمات السياسية الأولى التي استهدفته وثلة من رفاقه أكدت «هيمنة جناح (الصقور) المعارضين للانفتاح السياسي في مؤسسات الدولة والحزب الحاكم على الجناح التحرّري».

بين بورقيبة وأصدقائه العرب

إلا أن بورقيبة أفرج عن عبد الفتاح مورو بعد نحو سنتين من محاكمته تفاعلاً مع مساعٍ ووساطات قامت بها لفائدته شخصيات تونسية وعربية وعالمية. وكان من بين الوسطاء أصدقاء بورقيبة عندما كان لاجئاً سياسياً في القاهرة لمدة 5 سنوات، وعندما زار المملكة العربية السعودية والتقى قادتها وعلى رأسهم الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود مرتين ولقي دعماً سياسياً ومالياً منهم لنضال الوطنيين التونسيين وبلدان شمال أفريقيا من أجل الاستقلال عن فرنسا.
لكن بورقيبة فرض، في المقابل، على مورو الإقامة الجبرية في بيته حتى الإفراج عن كل أعضاء القيادة التاريخية للحركة في صيف 1984، مع أنه سمح بوساطات معه عبر رئيس الوزراء (يومذاك) محمد مزالي وعدد من الحقوقيين والمحاميين، بينهم محمد النوري وفتحي عبيد ومصطفى المنيف والأمين العام للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان حمودة بن سلامة.
ومن ثم، أسفرت الوساطات التي قام بها مورو، عن الإفراج عن كل مساجين القيادة التاريخية وعودة اللاجئين السياسيين من منافيهم، وهو ما أبرزه في مظهر الزعيم البراغماتي المعتدل التي يسعى لمعالجة الأزمات عبر الحوار مع السلطات والأطراف السياسية التي سبق أن اضطهدته، وليس عبر المواجهة والصدام.

يتيم من الأحياء الشعبية

وُلِد عبد الفتاح مورو في يناير 1948، ونشأ في حي شعبي بمنطقة باب سويقة في قلب مدينة تونس القديمة، غير بعيد عن جامع الزيتونة. ولكن، سرعان ما تُوفي والده، فربّته والدته مع إخوته وكانت تعمل في مهنة الخياطة في بيتها، مثلما أورد في شهادته إلى «الشرق الأوسط».
هنا شاءت الأقدار أن يكون أحد جيران العائلة الزعيم الوطني والنقابي والعلامة الكبير الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، نجل العلاّمة والمفكّر محمد الطاهر بن عاشور. ولقد أعجب بن عاشور بالطفل عبد الفتاح مورو لما لاحظه فيه من حفظ للشعر والنصوص الأدبية وللقرآن وولع بالمطالعة، وكان يصطحبه معه أحياناً مشياً على الأقدام إلى جامع الزيتونة، وهو ما أثّر في شخصية الطفل وميوله.
وبعدما حصل مورو على شهادة الثانوية من معهد الصادقية، الذي تخرج فيه عدد من مشاهير مثقفي تونس وساستها، مثل الحبيب بورقيبة، والباجي قائد السبسي، تابع دراساته العليا في كلية الحقوق والعلوم القانونية بتونس باللغتين العربية والفرنسية وتخرّج فيها قاضياً عام 1970.
كذلك، حصل بصفة موازية على شهادة في اللغة الألمانية من المركز الثقافي الألماني وعلى شهادة أخرى في الموسيقى. وأُسنِدَت إليه شهادة في الدراسات الإسلامية من كلية الشريعة وأصول الدين التي كان الشيخ محمد الفاضل بن عاشور عميداً لها. ولعل هذه الثقافة المخضرمة أسهمت في نحت شخصية مورو وخطاباته الداعية إلى التوفيق بين الحداثة الغربية مع التأكيد على خصوصيات التيار الوطني التونسي والمغاربي.

القضاء والمحاماة والسياسة

بدأ عبد الفتاح مورو مسيرته المهنية في موفّى عام 1972 قاضياً. وكانت له طوال 5 سنوات أنشطة سياسية ونقابية في الجمعية التونسية للقضاة الشبان مع نخبة من الحقوقيين الوطنيين، بينهم عميد المحامين لاحقاً البشير الصيد. بيد أن توتر المناخ السياسي العام في تونس، وتوالي انتقادات مورو للحكومة في خطبه في الجوامع دفعا السلطات إلى الضغط عليه، فاستقال من القضاء عام 1978، وانتقل إلى ممارسة المحاماة على غرار كثير من النشطاء والمعارضين السياسيين.
شهدت تونس، خلال عقد السبعينات، إضرابات وتحرّكات احتجاجية شبابية ونقابية في الجامعة وخارجها، تطورت إلى مواجهات بين الحكومة وقيادات نقابات العمال وحركات اليسار، وإلى إضراب عام ومواجهات دامية يوم 26 يناير 1978.
وتسببت المحاكمات السياسية لقيادات النقابات العمالية وحملات القمع لقيادات الحركة الطلابية اليسارية في مراجعة مورو ورفاقه لمنهجهم السياسي وأولوياتهم. وتأكدت المراجعة بعدما انخرط شباب «الاتجاه الإسلامي في الجامعة» في الحراك الشبابي الاجتماعي السياسي، فصار مورو ورفاقه ينظّمون تجمّعات ضخمة في الجوامع والجامعات عن حقوق العمال والعدالة الاجتماعية في الإسلام وعن الاستجابة إلى مطالب السياسية للطبقات الشعبية.
كذلك، في هذه الأثناء انخرط شباب «الاتجاه الإسلامي في الحركة الطلابية» في الحراك الاجتماعي الشبابي المعارض للسلطات، وتبنى بعض شعارات اليسار الطلابي والنقابي والحركات الثورية في العالم، وأصبح الطرف الرئيسي في قيادة الحركة الطلابية والشبابية في أغلب الجامعات وجهات البلاد. ولكن رغم ذلك، حافظ مورو على دعواته للبراغماتية والخصوصية التونسية، وإلى رفض منهج العنف في التغيير واحتكار أي طرف سياسي الحديث باسم الإسلام.

التحكم في شباب الجامعة والمعاهد

أعطى تزايد شعبية الطلاب الإسلاميين في الجامعة والمعاهد الثانوية، وتحكّمهم في المظاهرات الاحتجاجية خارجها، أبعاداً وطنية جديدة لزعماء حركة «الاتجاه الإسلامي» بزعامة المحامي عبد الفتاح مورو ورفيقه أستاذ الفلسفة راشد الغنوشي وأنصارهم، إلا أن هذه الشعبية كلفت مورو ورفاقه مضايقات أدَّت إلى إيقافهم مراراً من قبل قوات الأمن، ثم إلى محاكماتهم خلال صيف 1981.
من ناحية ثانية، كان مورو الشخصية الإسلامية البارزة الوحيدة التي وقّعت مع 100 مثقف وسياسي علماني وثيقة سياسية تاريخية عام 1977 طالبت الرئيس بورقيبة باحترام المجتمع المدني والحريات والتعددية السياسية والمنظومة الدولية لحقوق الإنسان. كذلك بنى مورو علاقات مع عدد من وزراء بورقيبة السابقين ورفاقهم القدامى المطرودين من الحزب الحاكم في 1974، الذين أسّسوا عام 1978 أول حزب ليبرالي معارض سموه «حزب الديمقراطيين الاشتراكيين» وأصدروا صحفاً معارضة ناطقة باسمهم، بينها «الرأي» و«المستقبل».

بين خيارين

وتقلب مورو ورفاقه منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي بين خيارين متناقضين: الأول يناصر الحوار السياسي مع السلطات والمعارضة الليبرالية. والثاني يدعو إلى المواجهة ويتبنّى «المنهج الثوري للتغيير»، بعدما تأثر باليسار التونسي الراديكالي والنقابات.
دعم مورو دوماً الخيار الأول، وعارض بقوة «سيناريو» المظاهرات والتصعيد ضد السلطات الذي كلّف الآلاف من أنصار حركته أحكاماً قاسية في محاكمات بالجملة استهدفتهم، أبرزها في أعوام 1981 و1987 و1992. كذلك عارض مورو تصعيد حزب «حركة النهضة» ضد السلطات عام 1991. وبذل وساطات مع بعض وزراء بن علي ومستشاريه لاحتواء الأزمة. ولكن عندما فشلت تلك المساعي جمّد عضويته في «النهضة» عام 1992... ولم يتراجع عن قراره إلا أواخر عام 2012.

علاقات عربية ودولية

أكثر من هذا، استبق مورو الصراعات العنيفة التي شهدتها تونس تمهيداً لإخراج بورقيبة من قصر قرطاج عام 1987. فهاجر وأمضى في المنفى 3 سنوات، ومن هناك ربط علاقات متطوّرة بعدد من كبار الرسميين العرب والأوروبيين ومن زعماء العالم، ولم يعُد إلى تونس إلا بعدما دعاه بن علي.
تفرغ عبد الفتاح مورو طوال عهد بن علي لمهنة المحاماة وللنشاط الحقوقي السياسي العادي، وبقي محاصَراً سياسياً وإعلامياً وممنوعاً من السفر، رغم المساعي التي بذلها لفائدته عدد من السياسيين العرب والأجانب الذين أعلنوا تقديرهم لاعتداله ولبعض مواقفه الدولية، من بينها معارضته الاجتياح العراقي للكويت خلال أغسطس (آب) 1990، في حين انحازت فيه غالبية النخب التونسية والمغاربية إلى النظام العراقي.
ثم بعد «انتفاضة يناير» 2011 وسقوط بن علي، أحجم مورو عن العودة إلى «النهضة» وتزعّم قوائم مستقلة منافسة لها في انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2011، تحت شعار «طريق السلامة». غير أن هذه القوائم لم تفز بأي مقعد لأن رفاقه السابقين حاربوها واعتبروها محاولة لتقسيم حركتهم وأنصارها وناخبيها.
أيضاً، انتقد مورو قيادات «النهضة» بعنف، وحاول تأسيس أحزاب منافسة لها مع شخصيات ليبرالية وعلمانية وإسلامية مختلفة، لكنه عاد إلى حركته الأم بعد مؤتمرها الذي عقدته عام 2012 ودخل البرلمان مرشحاً عنها في انتخابات عام 2014، وهو ما أهّله، بعد فوزه، ليُنتخَب في رئاسة البرلمان، ثم يغدو طوال 5 سنوات من أبرز الشخصيات السياسية الرسمية الوطنية التي تستقبل كبار المسؤولين العرب والأجانب. لقد سهّل موقع مورو في رئاسة البرلمان زيارة عدد من دول العالم. وبعدما عُين عام 2016 نائباً أول لرئيس «حركة النهضة» ومسؤولاً عن العلاقات الدولية فيها، توسّعت أكثر شبكة علاقاته داخل تونس، وفي العالم أجمع، بالأحزاب والحكومات والبرلمانات والمجتمع المدني. فهل تسهم هذه الشبكة في أن يكون مورو أحد أبرز المرشحين للدور الثاني في الانتخابات الرئاسية المبكّرة... أم يكون مجرّد «ورقة» لتحسين شروط تفاوض «النهضة» مع منافسيها حول دورها في مؤسسات الدولة بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة؟


مقالات ذات صلة

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

حصاد الأسبوع من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع صورة مركبة لبوتين وترمب (أ.ف.ب)

لقاءات بوتين وترمب... كثير من الوعود وقليل من التقارب

فور إعلان الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب استعداده لعقد لقاء سريع مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين فور توليه السلطة، برزت ردود فعل سريعة تذكر بلقاءات سابقة

حصاد الأسبوع تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

أدَّى دانيال تشابو، الأربعاء الماضي، اليمين الدستورية رئيساً لموزمبيق، مركِّزاً على اعتبار استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي «أولوية الأولويات».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة للعاصمة الموزمبيقية مابوتو (رويترز)

موزمبيق و«فريليمو»... لمحة تاريخية وجيو ـــ سياسية

منذ ما يقرب من خمسين سنة يتربع حزب «فريليمو»، أو «جبهة تحرير موزمبيق»، على سدة الحكم في موزمبيق، مرسّخاً نظام الحزب الواحد، مع أن دستور البلاد المعدل عام 1992

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)

ألمانيا تعيش هاجس التعايش مع مطامح ترمب وماسك

لم يدخل الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب البيت الأبيض بعد... ومع ذلك تعيش أوروبا منذ أسابيع على وقع الخوف من الزلزال الآتي. وكلما اقترب موعد الـ20 يناير

راغدة بهنام (برلين)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.