ألمانيا تعيش هاجس التعايش مع مطامح ترمب وماسك

مع العد التنازلي لانتقال السلطة في واشنطن

الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)
الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)
TT

ألمانيا تعيش هاجس التعايش مع مطامح ترمب وماسك

الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)
الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)

لم يدخل الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب البيت الأبيض بعد... ومع ذلك تعيش أوروبا منذ أسابيع على وقع الخوف من الزلزال الآتي. وكلما اقترب موعد الـ20 من يناير (كانون الثاني)، يوم تنصيب ترمب، يزداد منسوب القلق في القارة العجوز. منذ أشهر تعيش دول أوروبية على هوى تصريحات ترمب «غير المفهومة»، بوصف المستشار الألماني أولاف شولتس، وتغريدات إيلون ماسك، مالك منصة «إكس» والمغرد سراً في أذن الرئيس ترمب. وفي حين اختار قادة أوروبا «تجاهل» الملياردير الأميركي في البداية خوفاً من زيادة رصيده، سرعان ما بدأت الانتقادات له تتسارع. إذ ما كان في البداية مجرد تغريدات سطحية من أغنى رجل في العالم، تنتقد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر وتدعم حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف في ألمانيا، تطور ليصبح «تدخّلاً مباشراً في السياسات الداخلية» بات يهيمن على الأخبار في الدولتين الأوروبيتين اللتين تحولتا عند ماسك إلى ما يشبه الهوس. وبدوره، أضاف ترمب إلى هذا الأرق، إطلاقه تصريحات حول ضم كندا وغرينلاند التابعة للدنمارك، إلى الولايات المتحدة. ثم يتبعها بما يبدو وكأنه بداية هجوم على الدول الأوروبية، وألمانيا خاصة، بمطالبته دول حلف شمال الأطلسي «ناتو» بزيادة الإنفاق العسكري من 2 في المائة (التي يوصي بها الحلف) من الناتج العام لكل دولة عضو إلى 5 في المائة.

لم تنسَ أوروبا، خاصة ألمانيا، الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترمب. فهي، ومستشارتها - آنذاك - أنجيلا ميركل، تحوّلتا إلى محط تركيز، بل «هدف» لترمب الذي دأب على توجيه انتقادات لا متناهية لميركل حول أي شيء وكل شيء... بدءاً من الإنفاق العسكري لألمانيا، مروراً بشراء الغاز من روسيا وتجارتها مع الولايات المتحدة... وصولاً إلى سياستها المتعلقة بالهجرة.

يومذاك، وجدت ميركل ذلك التركيز «من رئيس أميركي على مستشار ألماني مذهلاً»، بحسب وصفها في مذكراتها «حرية» التي نشرت في بداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بالتزامن مع فوز ترمب بولايته الثانية. إذ كتبت عن علاقتها في حينه بترمب بأنه كان باستطاعتها طمأنة نفسها بشعار «كلما زادت المعارضة، زادت الهيبة»، لكنها استنتجت لاحقاً أن «الفكاهة الساخرة لن تساعد كثيراً» وأن من واجبها «بذل كل المستطاع للحرص على علاقة مريحة بين بلدينا من دون الرد على الاستفزازات».

من ميركل إلى شولتس

قد يكون المستشار الألماني الحالي أولاف شولتس قد قرأ كتاب ميركل والتحدي الذي لاقته في التعامل مع ترمب أو لا. غير أنه من دون شك اختار أن يسلك طريقاً مختلفاً في التعامل مع الرئيس الأميركي. وهو عوضاً عن خيار «تجنّب الرد على الاستفزازات»، اختار المواجهة.

وفعلاً، خرج يوم الأربعاء ليقرأ بياناً دعا الصحافيين إليه قبل ساعة من دون تحديد الموضوع، وانتقد فيه تصريحات ترمب حول غرينلاند وكندا، وأعطاه درساً في القانون الدولي. ومن دون أن يسميه، تكلّم شولتس عن «تصريحات غير مفهومة نسمعها من الولايات المتحدة بالنسبة لي ولشركائي الأوروبيين» فيما يتعلق بمبدأ حرمة حدود الدول. وأضاف أن هذا المبدأ «الذي يشكل أساس القانون الدولي ينطبق على كل دولة، بغض النظر عما إذا كانت في شرقنا أو غربنا»، في إشارة إلى روسيا وحربها على أوكرانيا.

ولكن، مع أن شولتس أشار إلى مشاورات أجراها مع نظرائه الأوروبيين حول تصريحات ترمب، لم يخرج بعد أي زعيم أوروبي آخر، باستثناء الدنمارك، للرد على ترمب... على الأرجح تفاديا لتعقيد العلاقات أكثر قبل أن تبدأ.

وما صدر من ردود لاحقاً جاء في سياق أسئلة من صحافيين، ولم تكن ردوداً معدة مسبقاً. وهنا قد يكون سبب عدم تردد شولتس بانتقاد ترمب، أنه لم يعد لديه الكثير ليخسره، لأن أيامه في السلطة باتت معدودة. ومن شبه المؤكد أنه لن يعود مستشاراً بعد الانتخابات المبكرة التي ستجرى يوم 23 فبراير (شباط) المقبل، بل سيترك مهمة ترميم العلاقات مع واشنطن للمستشار القادم والمرجح أن يكون فريدريش ميترز، زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي كانت تقوده ميركل.

«ليست تصريحات ترمب فقط التي تثير القلق الأوروبي، بل هناك أيضاً مواقف إيلون ماسك الذي يبدو أنه يركّز كامل اهتمامه على أوروبا»

القلق المتصاعد أوروبياً

في أي حال، ومع أن باقي الزعماء الأوروبيين لم يردوا بالشكل نفسه على تصريحات ترمب، كان واضحاً أن قلقهم يتصاعد. فقد علّق وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو على الموضوع عندما سئل بالقول: «من الواضح أن الاتحاد الأوروبي لن يدع أية دولة في العالم تعتدي على حدوده السيادية»، أما رئيسة وزراء الدنمارك ميته فريدريكسن فردت بالقول إن غرينلاند «ليست للبيع».

ولكن كلام ترمب ليس جديداً عن هذه الجزيرة الأكبر في نصف الكرة الأرضية الشمالي، والتي تتمتع بموقع استراتيجي بين الولايات المتحدة وروسيا. بل طرح الفكرة إبان فترته الأولى، ويومذاك رفضتها الدنمارك كذلك. وغرينلاند نفسها ترفض الدخول في النقاشات بين الدنمارك والولايات المتحدة حول مستقبلها، وقد عبر رئيس وزراء الجزيرة موتي إيغيدي عن ذلك بالقول: «غرينلاند لشعبها، ومستقبلنا وكفاحنا للحصول على الاستقلال هو من شأننا».

وسط هذا الجو، يأخذ المسؤولون الدنماركيون طرح ترمب جديَّاً، خاصة أنه رفض استبعاد استخدام القوة العسكرية لضم الجزيرة. وقد نقلت قناة الـ«سي إن إن» عن مسؤولين في الدنمارك أن ترمب «يبدو جاداً هذه المرة»، وقد يكون من الأفضل فتح نقاش صريح معه حول مستقبل غرينلاند عوضاً عن تجاهل كلامه. وبالفعل، لمح وزير الخارجية الدنماركي لوكي راسموسن قبل أيام إلى أن بلاده تريد فتح هذا النقاش مع إدارة ترمب لبحث كيف يمكن «زيادة التعاون أكثر لتأمين طموحات الولايات المتحدة». وللعلم للولايات المتحدة قاعدة عسكرية كبيرة في الجزيرة وثمة اتفاقية تعاون اقتصادي قديمة مع غرينلاند. ولكن طموح الجزيرة بالاستقلال عن الدنمارك قد يعرض الاتفاقيات مع الولايات المتحدة للخطر، خاصة إذا قررت الانسحاب من «الناتو» ووقعت تحت تأثير روسيا والصين.

كندا... وقناة بنما

من جهة ثانية، معلوم أن كلام ترمب «التوسعي» لا يقتصر على غرينلاند، بل يشمل أيضاً كلاً من قناة بنما وكندا، التي يكرّر أنها يجب أن تصبح الولاية الأميركية الـ51. ومع أن كلامه بدأ بمزحة أطلقها أمام رئيس الوزراء المستقيل جاستن ترودو عندما التقاه قبل بضعة أسابيع في منتجعه مارالاغو في ولاية فلوريدا، فإن تكرارها بدأ فعلاً يزعج الكنديين، ودفع المبعوث الخاص للعلاقات الكندية - الأميركية دومينيك لو بلان للقول: «المزحة انتهت!».

وهنا، مع أن كلام ترمب عن كندا قد يكون مزحة لكونه استبعد استخدام القوة العسكرية، فإن الاتجاه العام الذي يبدو بأن إدارته العتيدة ستسلكه في السنوات الأربع المقبلة، يثير مخاوف كثيرة وكبيرة.

إيلون ماسك... يخوض معارك قوى اليمين المتطرف في أوروبا (رويترز)

تدخّلات ماسك

بل، ليست تصريحات ترمب فقط التي تثير القلق الأوروبي، بل هناك أيضاً مواقف إيلون ماسك الذي يبدو أنه يركّز كامل اهتمامه على أوروبا، وبالذات بريطانيا وألمانيا. فمنذ أسابيع وهو يهاجم رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر وينعته بأوصاف دونية، ويدعوه للاستقالة. وبعدما قرر ستارمر تجاهله في البداية، لكنه رد لاحقاً بعد تزايد الضغوط الداخلية عليه في قضية الخليّة المؤلفة من رجال من أصول باكستانية اغتصبوا فتيات بريطانيات. إذ اتهمه ستارمر بنشر الأكاذيب واختلاق الأضاليل. ومع هذا، لم يرتدع ماسك، بل ضاعف هجومه على رئيس الوزراء البريطاني، داعياً حتى الملك تشارلز للتدخل وحلّ البرلمان وإقالة الحكومة، الأمر الذي يخالف الأعراف في بريطانيا، حيث يلعب الملك دوراً رمزياً ولا يتدخل في السياسات الحزبية.

في سياق متصل، نشرت صحيفة «الفاينانشيال تايمز» موضوعاً حول مساعي ماسك للإطاحة بستارمر قبل نهاية ولايته التي بدأها قبل أشهر قليلة. وذكرت الصحيفة أن ماسك ناقش «مع حلفاء له» إمكانيات التخلص من ستارمر كونه رئيس الحكومة، نقلاً عن أشخاص قالت إنهم اطلعوا على النقاشات. وتابعت أن النقاشات شملت كيف يمكن زعزعة استقرار الحكومة العمالية في بريطانيا بوسائل أبعد من مجرد نشر تغريدات على منصة «إكس» تنتقد رئيس الحكومة.

وأيضاً، نقلت عن أحد المطلعين على النقاشات قوله إن «وجهة نظر ماسك أن الحضارة الغربية نفسها في خطر». وإن ماسك مهتم بمساندة حركة سياسية بديلة في السياسة البريطانية من خلال دعم «حزب الإصلاح» اليميني الذي يقوده حالياً نايجل فاراج، وهو الذي اجتمع مراراً بماسك وقال إنه ناقش معه تبرعات مالية كبيرة لحزبه.

ولكن في الأيام الماضية، بدا أن ماسك ما عاد راضياً حتى عن فاراج، إذ كتب تغريدة دعا فيها لتغييره كزعيم للحزب، على الأرجح بسبب الخلاف حول تومي روبنسون، اليميني المتطرف البريطاني الذي يقبع في السجن، الذي يطالب ماسك بإطلاق سراحه بينما يلقبه فاراج بـ«المجرم».

فايدل زعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف (أ.ب)

اهتمامات ماسك الألمانية

مع هذا، اهتمام ماسك الأكثر خطورة قد يكون ذلك الذي يبديه في سياسات ألمانيا الداخلية. وهو منذ أسابيع يتحمّس علناً لدعم حزب «البديل من أجل ألمانيا» المصنّف يمينياً متطرفاً إلى درجة أن كل الأحزاب الألمانية استبعدت فكرة التحالف معه بسبب تطرفه. وللعلم، تورط عدد كبير من أعضاء «البديل» بفضائح في السنوات الماضية لترويجهم لأفكار نازية، كما حوكم أحد قادة الحزب في شرق ألمانيا وأدين لاستخدامه شعارات وتعابير نازية محظورة.

ولكن بالنسبة لماسك، الذي دأب على مهاجمة المستشار الألماني، فإن حزب «البديل من أجل ألمانيا» هو الوحيد القادر على إنقاذ البلاد.

إنقاذها ممن تحديداً؟

ولكن الأرجح من اللاجئين والمهاجرين. إذ إن هذا الحزب المتطرف يروج لسياسات هجرة شديدة التطرف، ويدعو للخروج من الاتحاد الأوروبي الذي يعتبره أنه يقيد ألمانيا بقوانين تضرّها. ومع أن الحزب يحرص على تحاشي الترويج علناً لما قد يعدُّ مخالفاً للقوانين، شارك عدد من أعضائه في اجتماع سرّي نهاية عام 2023 ناقش ترحيل الملايين من ألمانيا، من المهاجرين... وحتى الألمان من أصول مهاجرة.


مقالات ذات صلة

«قمة فلسطين» محطة أولى في مسار طويل لصد التهجير

حصاد الأسبوع من القمة (رويترز)

«قمة فلسطين» محطة أولى في مسار طويل لصد التهجير

«محطة أولى في مسار طويل»، هكذا وصف الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط «قمة فلسطين» غير العادية التي استضافتها القاهرة، الثلاثاء الماضي، التي عكست توافقاً عربياً واضحاً على رفض «التهجير» أياً كان شكله أو اسمه، مع التأكيد على أن السلام خيار استراتيجي للمنطقة. جاءت قرارات القمة لتلبي الكثير من التوقعات والآمال، لا سيما مع تبينها «خطة عربية جامعة» لـ«إعمار دون تهجير». إلا أنها في الوقت نفسه قرارات تحتاج إلى «خطوات إجرائية» لتنفيذها على أرض الواقع، مستفيدة من حالة الزخم الحالية بشأن القضية الفلسطينية، وإلا انتهت ككثير من القرارات والمبادرات السابقة في الصدد نفسه «حبراً على ورق».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة جامعة للقادة العرب المشاركين قي القمة (إكس)

قمم عربية تاريخية دعمت فلسطين

تعدُّ القضية الفلسطينية «قضية العرب المركزية»، ومنذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945 كانت القضية الفلسطينية بنداً رئيساً على جدول أعمال القمم العربية.

حصاد الأسبوع ياسين جابر... شاغل «حقيبة التحديات» في الحكومة اللبنانية الجديدة

ياسين جابر... شاغل «حقيبة التحديات» في الحكومة اللبنانية الجديدة

بدّد تشكيل الحكومة اللبنانية وحصولها على ثقة البرلمان في الأسبوع الماضي، كل الاعتراضات السابقة على تعيين ياسين جابر وزيراً للمالية. فالاعتراض لم يتخطَّ «تكريس…

نذير رضا (بيروت)
حصاد الأسبوع د غازي وزني (أ ف ب/غيتي)

وزير المال... «التوقيع الثالث» في السلطة التنفيذية اللبنانية

استحوذت عقدة وزارة المال، على ثلاثة أسابيع من النقاشات والاتصالات خلال فترة تشكيل الحكومة اللبنانية الأخيرة، ويعود ذلك إلى إصرار «الثنائي الشيعي» (حزب الله.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
حصاد الأسبوع الاجتماع التاريخي العاصف بين زيلينسكي وترمب وأركان إدارته (رويترز)

رهان الكرملين على سياسة ترمب في أوكرانيا يصطدم بالتحدي الأوروبي

فتحت خطوات الرئيس الأميركي دونالد ترمب للضغط على سلطات كييف، بهدف حملها على الانخراط في تسوية سياسية للصراع في أوكرانيا، «شهية» موسكو لتسريع تطبيع العلاقات مع واشنطن، واستغلال الوضع الذي نشأ بعد الاستقبال المُهين للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، لحصد أكبر قدر ممكن من المكاسب قبل انطلاق العملية التفاوضية المحتملة. ومع تصعيد اللهجة الروسية، بالتوازي مع خطوات ترمب السريعة والحادة تجاه كييف، بما في ذلك على صعيد توسيع الحديث عن ضرورة إطاحة زيلينسكي كشرط ضروري لإطلاق حوار فعّال يفضي إلى تسوية سياسية نهائية، بدا أن التحدي الأكبر الذي يواجه الكرملين ينطلق من القارة الأوروبية. وفي مقابل مشهد تراجع الحماسة الأوروبية لدعم كييف قبل أسابيع قليلة، يخشى الكرملين من أن تسفر سياسة الضغط الأقصى التي يمارسها ترمب عن تحوّلات تعزّز تماسك الموقف الأوروبي. الأمر الذي يضع عراقيل إضافية أمام مسار الحل النهائي الذي يتطلع إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

رائد جبر (موسكو)

مرحلة حساسة في تعايش أميركا اللاتينية مع العهد «الترمبي»

روبيو ملتقياً بالرئيس الغواتيمالي برناردو أريفالو في غواتيمالا سيتي خلال فبراير (شباط) الماضي (آ ب)
روبيو ملتقياً بالرئيس الغواتيمالي برناردو أريفالو في غواتيمالا سيتي خلال فبراير (شباط) الماضي (آ ب)
TT

مرحلة حساسة في تعايش أميركا اللاتينية مع العهد «الترمبي»

روبيو ملتقياً بالرئيس الغواتيمالي برناردو أريفالو في غواتيمالا سيتي خلال فبراير (شباط) الماضي (آ ب)
روبيو ملتقياً بالرئيس الغواتيمالي برناردو أريفالو في غواتيمالا سيتي خلال فبراير (شباط) الماضي (آ ب)

بعد مرور شهرين على انطلاق الولاية الثانية لدونالد ترمب، ما زال ملف العلاقات بين واشنطن وجوارها الأميركي اللاتيني موضع تساؤلات وتخمينات حول موقعه في تراتبية أولويات الإدارة الأميركية الجديدة. إنه ما زال كذلك رغم المؤشرات الكثيرة التي وردت في خطاب القَسَم الرئاسي أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي، وما تلاها من خطوات بشأن ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، وإعلان الحرب على التنظيمات الإجرامية الناشطة في تجارة المخدرات، وفرض حزمة من الرسوم الجمركية الإضافية على البضائع والسلع الواردة من المكسيك، أحد الشركاء التجاريين الأساسيين للولايات المتحدة، ناهيك من التوعد باسترجاع السيطرة على قناة بنما، وإطلاق التهديدات باتجاه كولومبيا وكوبا وفنزويلا.

على الرغم من اختيار الرئيس الأميركي دونالد ترمب السيناتور ماركو روبيو، أبرز «صقور» الدياسبورا الأميركية اللاتينية في واشنطن، لمنصب وزير الخارجية، فإن الرئيس العائد لم يكشف حتى الآن عن نياته الحقيقية، ولا عن تفاصيل برنامجه بشأن ما تُوصف تقليدياً بـ«الحديقة الخلفية» لواشنطن ودائرة نفوذها العميق منذ عقود طويلة.

السبب في ذلك هو أن جلّ اهتمام ترمب حتى الساعة يبدو منصبّاً على تحقيق وعده الأكبر في السياسة الخارجية بإنهاء الحرب في أوكرانيا، والتفرغ لاحقاً للملفات الرئيسة الأخرى، التي ما زال التركيز عليها دون ما هو على الحرب الأوكرانية.

فقط المكسيك وبنما

في الخطاب الذي افتتح به ترمب ولايته الرئاسية الثانية لم يشر إلى أي منطقة أو دولة في العالم سوى الحدود الجنوبية للولايات المتحدة وبنما. إلا أنه إبان ولايته الأولى، كان ترمب أول رئيس أميركي منذ 7 عقود لا يزور أي دولة في أميركا اللاتينية، باستثناء مشاركته لساعات معدودة في «قمة مجموعة العشرين» التي استضافتها الأرجنتين عام 2018. وفي حملته الانتخابية الأخيرة، كما في حملة عام 2016، لم يذكر أميركا اللاتينية إلا من باب كونها المصدر الرئيس للهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة، وبؤرة للمنظمات الإجرامية التي تغرق السوق الأميركية بالمخدرات والعنف، متوعداً بتضييق الحصار على كوبا، وإسقاط نظام مادورو في فنزويلا.

يعود ترمب إلى البيت الأبيض وفي جعبته إحباط لما تعذّر عليه تحقيقه خلال الولاية الأولى من وعود بشأن أميركا اللاتينية، ويبدي مزيجاً من الغضب وعدم الاكتراث بهذه المنطقة التي، رغم أهميتها الاستراتيجية التاريخية بالنسبة للولايات المتحدة ، ينحو إلى التعامل معها بأسلوب الوصاية والتبعية والقدرة الواثقة من فرض الشروط عليها، لا من باب المصالح المشتركة والحرص على استقرارها السياسي والاجتماعي.

وليس أدلّ على نظرته الفوقية إلى هذه المنطقة، وعلى المخاوف التي تساور «الدائرة الضيقة» النافذة التي دعمت وصوله إلى البيت الأبيض، من القرار التنفيذي الذي أصدره بعد أيام من جلوسه في المكتب البيضاوي بإعلان «الإنجليزية» اللغة الرسمية الوحيدة في الولايات المتحدة. وبذا تجاهل أن الإسبانية هي اللغة الأم لما يزيد على 45 مليوناً من سكانها، وأنها منتشرة على نطاق واسع ليس فحسب في المدن الكبرى مثل لوس أنجليس وميامي ونيويورك، بل أيضاً في العمق الأميركي والمناطق الزراعية الشاسعة.

للتذكير، في عام 1823 أطلق الرئيس الأميركي (يومذاك) جيمس مونرو في خطاب أمام الكونغرس شعاره الشهير «أميركا للأميركيين». ولقد بنيت على هذا الشعار إحدى أقدم السياسات الخارجية الأميركية التي صارت تُعرف بـ«شرعة مونرو»، التي كانت عملياً تحذيراً موجهاً إلى الدول الأوروبية الكبرى (يومذاك) بألا تتدخل في شؤون القارة الأميركية، بعدما «كرّت سبحة» استقلال البلدان الأميركية اللاتينية عن الأنظمة الملكية في إسبانيا وفرنسا والبرتغال.

بيد أن هذه العقيدة، التي بدت في ظاهرها «وقفة تضامنية» مع بلدان المنطقة الظافرة باستقلالها بعد حروب طويلة ومدمِّرة مع القوى الاستعمارية، تحوَّلت سريعاً إلى سياسة توسُّعية لحماية مصالح واشنطن الاقتصادية، وأداة للتدخل السياسي والعسكري والاقتصادي في شؤون دول الجوار.

وبالفعل، لم تتردد واشنطن يومها في اعتبار أي محاولة أوروبية للتدخل في شؤون بلدان المنطقة اعتداءً على المصالح الأميركية، والتأكيد على أن واشنطن ستتولى الدفاع عن «سيادة القارة» الأميركية.

بين الأمس واليوم

لم يكن تنفيذ تلك السياسة سهلاً في تلك الفترة؛ لأن الولايات المتحدة يومذاك ما كانت القوة العظمى التي نعرفها اليوم، بل كانت دولةً ضعيفةً مقصورةً على ساحلها الشرقي بعد أقل من 50 سنة على استقلالها. لكن تلك «الشرعة» بقيت راسخة بوصفها واحداً من الأسس التي قامت عليها السياسة الخارجية الأميركية، وبدأت تظهر تجليّاتها العملية أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين. واستمرَّت بعد ذلك إلى أن كان أخطر فصولها «أزمة الصواريخ الروسية في كوبا» التي وضعت العالم على شفا مواجهة نووية.

مع أن «شرعة مونرو» لم تعد قابلة للتطبيق اليوم كما في الماضي، فإنها ترسَّخت على مرّ العقود في الذهنية السياسية الأميركية تجاه البلدان المجاورة، وتحوَّلت إلى الهاجس الرئيس لهذه البلدان في علاقاتها مع واشنطن التي لا تزال تلعب دوراً فاعلاً جداً في سياسات هذه البلدان.

من جهة ثانية، بعدما كانت تلك «الشرعة» أساساً لسياسة واشنطن وجهوزيتها لاستخدام القوة العسكرية من أجل منع تمدّد نفوذ الدول الأوروبية إلى مستعمراتها السابقة، تجد الولايات المتحدة نفسها اليوم في مواجهة تحدٍّ مختلف يهدد مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة.

إنه تحدّي التغلغل الصيني في حديقتها الخلفية، الذي بات يهدد هيمنتها الاقتصادية التاريخية على جوارها الإقليمي. وما يزيد من خطورة هذا التحدي أنه يتزامن مع بداية انحسار الهيمنة الأميركية، وتراجع النفوذ الأوروبي، وازدياد الثقة الذاتية لدى القوى الاقتصادية الناشئة.

العملاق الصيني

لسنوات عديدة لم يكترث الأميركيون كثيراً لخطورة التغلغل الصيني البطيء - والبعيد غالباً عن الأضواء - في أميركا اللاتينية، وتحوُّل بكين شريكاً تجارياً واستثمارياً في المرافق الحيوية.

ولكن خلال السنوات الخمس الأخيرة، وحدها، وقَّعت الصين اتفاقات واسعة للشراكة الاستراتيجية مع كل من الأرجنتين والبرازيل وتشيلي والإكوادور والمكسيك وبيرو وفنزويلا. وغدت منذ عام 2017 الشريك التجاري الأول لبلدان المنطقة على صعيد الصادرات، بعدما سجَّلت المبادلات التجارية بين الطرفين نمواً بنسبة 30 في المائة ذلك العام.

في موازاة ذلك، بلغ مجموع الاستثمارات الصينية في أميركا اللاتينية نهاية العام الماضي 241 مليار دولار. وأعلن الرئيس الصيني تشي جينبينغ أخيراً أن استثمارات بلاده في المنطقة ستتضاعف في السنوات الخمس المقبلة، إذ ستتجاوز نسبة نمو الاستثمارات الصينية المباشرة في أميركا اللاتينية بكثير نسبة نمو الاستثمارات الأميركية والأوروبية.

هذا، ومنذ عودة ترمب إلى البيت الأبيض، كرّر المسؤولون الصينيون في مناسبات عدة أن لأميركا اللاتينية أهميةً استراتيجيةً بالنسبة لنمو الاقتصاد الصيني، وأن التزامات الحكومة الصينية تجاه بلدان المنطقة التزامات طويلة الأمد. وتَبدَّى هذا الأمر غير مرة في المنتدى الذي يجمع الصين وبلدان أميركا اللاتينية وحوض الكاريبي، الذي كان من قرارات دورته الأخيرة التي انعقدت في تشيلي، وضع خطة عمل تمتد لخمس سنوات، وإنشاء خط للنقل البحري امتداداً إقليمياً لمشروع «طريق الحرير».

وبعدما كانت الاستثمارات الصينية جميعها في السابق تركّز على البُنى التحتية واستخراج المعادن في أميركا اللاتينية، انتقل التركيز الآن إلى القطاعات التصنيعية. وما يزيد من مخاوف واشنطن الاستراتيجية الآن، أن رغبة الصين في إرساء دورها قوةً بديلةً في النظام العالمي لم تواجه أصواتاً معترضةً في أميركا اللاتينية.

يعود ترمب وفي جعبته إحباط لما تعذّر عليه تحقيقه خلال الولاية الأولى من وعود بشأن أميركا اللاتينية

لا تصدير للنموذجين السياسي والاقتصادي

ثمة مسألة أساسية أخرى تجعل بلدان أميركا اللاتينية أكثر انفتاحاً على التعاون مع الصين في علاقاتها الثنائية والمتعددة الأطراف، هي أن بكين لا تبدي أي اهتمام لتصدير نموذجها السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي إلى هذه البلدان، كما يحصل مع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي.

والحقيقة أن هذه البلدان ترفض، بطرق مختلفة، الانتقادات الغربية لنموذجيها الاقتصادي والاجتماعي، وتعدها انتهاكاً لسيادتها. ولقد تسبب ذلك غير مرة في اتجاه دول أميركية لاتينية حليفة تقليدياً للولايات المتحدة إلى تفضيل التعاون مع الصين على حساب علاقاتها مع واشنطن.

لا شك في أن هذا الواقع دفع بالإدارة الأميركية الجديدة إلى تغيير جذري في أسلوبها للتعامل مع دول الجوار الأميركي اللاتيني، كالتهديد باستعادة السيطرة على قناة بنما، واستخدام القوة العسكرية إذا استدعى الأمر، أو الترحيل القسري للمهاجرين غير الشرعيين إلى كولومبيا وفنزويلا، أو إبعاد آخرين إلى الإكوادور والسلفادور، وتجاوز الأحكام القضائية التي منعت ذلك، أو دفع المكسيك - تحت وطأة التهديد بفرض زيادة كبيرة على الرسوم الجمركية - إلى نشر قواتها المسلحة على امتداد الحدود المشتركة لمنع تسلل عصابات الاتجار بالمخدرات إلى الولايات المتحدة... بل والتلميح إلى إرسال قوات أميركية خاصة لملاحقة هذه العصابات في حال امتنعت حكومة المكسيك عن التجاوب.