حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

شروط بوتين و«الدولة العميقة» الأميركية... وتحسين العلاقات

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.


مقالات ذات صلة

«قمة فلسطين» محطة أولى في مسار طويل لصد التهجير

حصاد الأسبوع من القمة (رويترز)

«قمة فلسطين» محطة أولى في مسار طويل لصد التهجير

«محطة أولى في مسار طويل»، هكذا وصف الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط «قمة فلسطين» غير العادية التي استضافتها القاهرة، الثلاثاء الماضي، التي عكست توافقاً عربياً واضحاً على رفض «التهجير» أياً كان شكله أو اسمه، مع التأكيد على أن السلام خيار استراتيجي للمنطقة. جاءت قرارات القمة لتلبي الكثير من التوقعات والآمال، لا سيما مع تبينها «خطة عربية جامعة» لـ«إعمار دون تهجير». إلا أنها في الوقت نفسه قرارات تحتاج إلى «خطوات إجرائية» لتنفيذها على أرض الواقع، مستفيدة من حالة الزخم الحالية بشأن القضية الفلسطينية، وإلا انتهت ككثير من القرارات والمبادرات السابقة في الصدد نفسه «حبراً على ورق».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة جامعة للقادة العرب المشاركين قي القمة (إكس)

قمم عربية تاريخية دعمت فلسطين

تعدُّ القضية الفلسطينية «قضية العرب المركزية»، ومنذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945 كانت القضية الفلسطينية بنداً رئيساً على جدول أعمال القمم العربية.

حصاد الأسبوع ياسين جابر... شاغل «حقيبة التحديات» في الحكومة اللبنانية الجديدة

ياسين جابر... شاغل «حقيبة التحديات» في الحكومة اللبنانية الجديدة

بدّد تشكيل الحكومة اللبنانية وحصولها على ثقة البرلمان في الأسبوع الماضي، كل الاعتراضات السابقة على تعيين ياسين جابر وزيراً للمالية. فالاعتراض لم يتخطَّ «تكريس…

نذير رضا (بيروت)
حصاد الأسبوع د غازي وزني (أ ف ب/غيتي)

وزير المال... «التوقيع الثالث» في السلطة التنفيذية اللبنانية

استحوذت عقدة وزارة المال، على ثلاثة أسابيع من النقاشات والاتصالات خلال فترة تشكيل الحكومة اللبنانية الأخيرة، ويعود ذلك إلى إصرار «الثنائي الشيعي» (حزب الله.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
حصاد الأسبوع الاجتماع التاريخي العاصف بين زيلينسكي وترمب وأركان إدارته (رويترز)

رهان الكرملين على سياسة ترمب في أوكرانيا يصطدم بالتحدي الأوروبي

فتحت خطوات الرئيس الأميركي دونالد ترمب للضغط على سلطات كييف، بهدف حملها على الانخراط في تسوية سياسية للصراع في أوكرانيا، «شهية» موسكو لتسريع تطبيع العلاقات مع واشنطن، واستغلال الوضع الذي نشأ بعد الاستقبال المُهين للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، لحصد أكبر قدر ممكن من المكاسب قبل انطلاق العملية التفاوضية المحتملة. ومع تصعيد اللهجة الروسية، بالتوازي مع خطوات ترمب السريعة والحادة تجاه كييف، بما في ذلك على صعيد توسيع الحديث عن ضرورة إطاحة زيلينسكي كشرط ضروري لإطلاق حوار فعّال يفضي إلى تسوية سياسية نهائية، بدا أن التحدي الأكبر الذي يواجه الكرملين ينطلق من القارة الأوروبية. وفي مقابل مشهد تراجع الحماسة الأوروبية لدعم كييف قبل أسابيع قليلة، يخشى الكرملين من أن تسفر سياسة الضغط الأقصى التي يمارسها ترمب عن تحوّلات تعزّز تماسك الموقف الأوروبي. الأمر الذي يضع عراقيل إضافية أمام مسار الحل النهائي الذي يتطلع إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

رائد جبر (موسكو)

مرحلة حساسة في تعايش أميركا اللاتينية مع العهد «الترمبي»

روبيو ملتقياً بالرئيس الغواتيمالي برناردو أريفالو في غواتيمالا سيتي خلال فبراير (شباط) الماضي (آ ب)
روبيو ملتقياً بالرئيس الغواتيمالي برناردو أريفالو في غواتيمالا سيتي خلال فبراير (شباط) الماضي (آ ب)
TT

مرحلة حساسة في تعايش أميركا اللاتينية مع العهد «الترمبي»

روبيو ملتقياً بالرئيس الغواتيمالي برناردو أريفالو في غواتيمالا سيتي خلال فبراير (شباط) الماضي (آ ب)
روبيو ملتقياً بالرئيس الغواتيمالي برناردو أريفالو في غواتيمالا سيتي خلال فبراير (شباط) الماضي (آ ب)

بعد مرور شهرين على انطلاق الولاية الثانية لدونالد ترمب، ما زال ملف العلاقات بين واشنطن وجوارها الأميركي اللاتيني موضع تساؤلات وتخمينات حول موقعه في تراتبية أولويات الإدارة الأميركية الجديدة. إنه ما زال كذلك رغم المؤشرات الكثيرة التي وردت في خطاب القَسَم الرئاسي أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي، وما تلاها من خطوات بشأن ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، وإعلان الحرب على التنظيمات الإجرامية الناشطة في تجارة المخدرات، وفرض حزمة من الرسوم الجمركية الإضافية على البضائع والسلع الواردة من المكسيك، أحد الشركاء التجاريين الأساسيين للولايات المتحدة، ناهيك من التوعد باسترجاع السيطرة على قناة بنما، وإطلاق التهديدات باتجاه كولومبيا وكوبا وفنزويلا.

على الرغم من اختيار الرئيس الأميركي دونالد ترمب السيناتور ماركو روبيو، أبرز «صقور» الدياسبورا الأميركية اللاتينية في واشنطن، لمنصب وزير الخارجية، فإن الرئيس العائد لم يكشف حتى الآن عن نياته الحقيقية، ولا عن تفاصيل برنامجه بشأن ما تُوصف تقليدياً بـ«الحديقة الخلفية» لواشنطن ودائرة نفوذها العميق منذ عقود طويلة.

السبب في ذلك هو أن جلّ اهتمام ترمب حتى الساعة يبدو منصبّاً على تحقيق وعده الأكبر في السياسة الخارجية بإنهاء الحرب في أوكرانيا، والتفرغ لاحقاً للملفات الرئيسة الأخرى، التي ما زال التركيز عليها دون ما هو على الحرب الأوكرانية.

فقط المكسيك وبنما

في الخطاب الذي افتتح به ترمب ولايته الرئاسية الثانية لم يشر إلى أي منطقة أو دولة في العالم سوى الحدود الجنوبية للولايات المتحدة وبنما. إلا أنه إبان ولايته الأولى، كان ترمب أول رئيس أميركي منذ 7 عقود لا يزور أي دولة في أميركا اللاتينية، باستثناء مشاركته لساعات معدودة في «قمة مجموعة العشرين» التي استضافتها الأرجنتين عام 2018. وفي حملته الانتخابية الأخيرة، كما في حملة عام 2016، لم يذكر أميركا اللاتينية إلا من باب كونها المصدر الرئيس للهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة، وبؤرة للمنظمات الإجرامية التي تغرق السوق الأميركية بالمخدرات والعنف، متوعداً بتضييق الحصار على كوبا، وإسقاط نظام مادورو في فنزويلا.

يعود ترمب إلى البيت الأبيض وفي جعبته إحباط لما تعذّر عليه تحقيقه خلال الولاية الأولى من وعود بشأن أميركا اللاتينية، ويبدي مزيجاً من الغضب وعدم الاكتراث بهذه المنطقة التي، رغم أهميتها الاستراتيجية التاريخية بالنسبة للولايات المتحدة ، ينحو إلى التعامل معها بأسلوب الوصاية والتبعية والقدرة الواثقة من فرض الشروط عليها، لا من باب المصالح المشتركة والحرص على استقرارها السياسي والاجتماعي.

وليس أدلّ على نظرته الفوقية إلى هذه المنطقة، وعلى المخاوف التي تساور «الدائرة الضيقة» النافذة التي دعمت وصوله إلى البيت الأبيض، من القرار التنفيذي الذي أصدره بعد أيام من جلوسه في المكتب البيضاوي بإعلان «الإنجليزية» اللغة الرسمية الوحيدة في الولايات المتحدة. وبذا تجاهل أن الإسبانية هي اللغة الأم لما يزيد على 45 مليوناً من سكانها، وأنها منتشرة على نطاق واسع ليس فحسب في المدن الكبرى مثل لوس أنجليس وميامي ونيويورك، بل أيضاً في العمق الأميركي والمناطق الزراعية الشاسعة.

للتذكير، في عام 1823 أطلق الرئيس الأميركي (يومذاك) جيمس مونرو في خطاب أمام الكونغرس شعاره الشهير «أميركا للأميركيين». ولقد بنيت على هذا الشعار إحدى أقدم السياسات الخارجية الأميركية التي صارت تُعرف بـ«شرعة مونرو»، التي كانت عملياً تحذيراً موجهاً إلى الدول الأوروبية الكبرى (يومذاك) بألا تتدخل في شؤون القارة الأميركية، بعدما «كرّت سبحة» استقلال البلدان الأميركية اللاتينية عن الأنظمة الملكية في إسبانيا وفرنسا والبرتغال.

بيد أن هذه العقيدة، التي بدت في ظاهرها «وقفة تضامنية» مع بلدان المنطقة الظافرة باستقلالها بعد حروب طويلة ومدمِّرة مع القوى الاستعمارية، تحوَّلت سريعاً إلى سياسة توسُّعية لحماية مصالح واشنطن الاقتصادية، وأداة للتدخل السياسي والعسكري والاقتصادي في شؤون دول الجوار.

وبالفعل، لم تتردد واشنطن يومها في اعتبار أي محاولة أوروبية للتدخل في شؤون بلدان المنطقة اعتداءً على المصالح الأميركية، والتأكيد على أن واشنطن ستتولى الدفاع عن «سيادة القارة» الأميركية.

بين الأمس واليوم

لم يكن تنفيذ تلك السياسة سهلاً في تلك الفترة؛ لأن الولايات المتحدة يومذاك ما كانت القوة العظمى التي نعرفها اليوم، بل كانت دولةً ضعيفةً مقصورةً على ساحلها الشرقي بعد أقل من 50 سنة على استقلالها. لكن تلك «الشرعة» بقيت راسخة بوصفها واحداً من الأسس التي قامت عليها السياسة الخارجية الأميركية، وبدأت تظهر تجليّاتها العملية أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين. واستمرَّت بعد ذلك إلى أن كان أخطر فصولها «أزمة الصواريخ الروسية في كوبا» التي وضعت العالم على شفا مواجهة نووية.

مع أن «شرعة مونرو» لم تعد قابلة للتطبيق اليوم كما في الماضي، فإنها ترسَّخت على مرّ العقود في الذهنية السياسية الأميركية تجاه البلدان المجاورة، وتحوَّلت إلى الهاجس الرئيس لهذه البلدان في علاقاتها مع واشنطن التي لا تزال تلعب دوراً فاعلاً جداً في سياسات هذه البلدان.

من جهة ثانية، بعدما كانت تلك «الشرعة» أساساً لسياسة واشنطن وجهوزيتها لاستخدام القوة العسكرية من أجل منع تمدّد نفوذ الدول الأوروبية إلى مستعمراتها السابقة، تجد الولايات المتحدة نفسها اليوم في مواجهة تحدٍّ مختلف يهدد مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة.

إنه تحدّي التغلغل الصيني في حديقتها الخلفية، الذي بات يهدد هيمنتها الاقتصادية التاريخية على جوارها الإقليمي. وما يزيد من خطورة هذا التحدي أنه يتزامن مع بداية انحسار الهيمنة الأميركية، وتراجع النفوذ الأوروبي، وازدياد الثقة الذاتية لدى القوى الاقتصادية الناشئة.

العملاق الصيني

لسنوات عديدة لم يكترث الأميركيون كثيراً لخطورة التغلغل الصيني البطيء - والبعيد غالباً عن الأضواء - في أميركا اللاتينية، وتحوُّل بكين شريكاً تجارياً واستثمارياً في المرافق الحيوية.

ولكن خلال السنوات الخمس الأخيرة، وحدها، وقَّعت الصين اتفاقات واسعة للشراكة الاستراتيجية مع كل من الأرجنتين والبرازيل وتشيلي والإكوادور والمكسيك وبيرو وفنزويلا. وغدت منذ عام 2017 الشريك التجاري الأول لبلدان المنطقة على صعيد الصادرات، بعدما سجَّلت المبادلات التجارية بين الطرفين نمواً بنسبة 30 في المائة ذلك العام.

في موازاة ذلك، بلغ مجموع الاستثمارات الصينية في أميركا اللاتينية نهاية العام الماضي 241 مليار دولار. وأعلن الرئيس الصيني تشي جينبينغ أخيراً أن استثمارات بلاده في المنطقة ستتضاعف في السنوات الخمس المقبلة، إذ ستتجاوز نسبة نمو الاستثمارات الصينية المباشرة في أميركا اللاتينية بكثير نسبة نمو الاستثمارات الأميركية والأوروبية.

هذا، ومنذ عودة ترمب إلى البيت الأبيض، كرّر المسؤولون الصينيون في مناسبات عدة أن لأميركا اللاتينية أهميةً استراتيجيةً بالنسبة لنمو الاقتصاد الصيني، وأن التزامات الحكومة الصينية تجاه بلدان المنطقة التزامات طويلة الأمد. وتَبدَّى هذا الأمر غير مرة في المنتدى الذي يجمع الصين وبلدان أميركا اللاتينية وحوض الكاريبي، الذي كان من قرارات دورته الأخيرة التي انعقدت في تشيلي، وضع خطة عمل تمتد لخمس سنوات، وإنشاء خط للنقل البحري امتداداً إقليمياً لمشروع «طريق الحرير».

وبعدما كانت الاستثمارات الصينية جميعها في السابق تركّز على البُنى التحتية واستخراج المعادن في أميركا اللاتينية، انتقل التركيز الآن إلى القطاعات التصنيعية. وما يزيد من مخاوف واشنطن الاستراتيجية الآن، أن رغبة الصين في إرساء دورها قوةً بديلةً في النظام العالمي لم تواجه أصواتاً معترضةً في أميركا اللاتينية.

يعود ترمب وفي جعبته إحباط لما تعذّر عليه تحقيقه خلال الولاية الأولى من وعود بشأن أميركا اللاتينية

لا تصدير للنموذجين السياسي والاقتصادي

ثمة مسألة أساسية أخرى تجعل بلدان أميركا اللاتينية أكثر انفتاحاً على التعاون مع الصين في علاقاتها الثنائية والمتعددة الأطراف، هي أن بكين لا تبدي أي اهتمام لتصدير نموذجها السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي إلى هذه البلدان، كما يحصل مع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي.

والحقيقة أن هذه البلدان ترفض، بطرق مختلفة، الانتقادات الغربية لنموذجيها الاقتصادي والاجتماعي، وتعدها انتهاكاً لسيادتها. ولقد تسبب ذلك غير مرة في اتجاه دول أميركية لاتينية حليفة تقليدياً للولايات المتحدة إلى تفضيل التعاون مع الصين على حساب علاقاتها مع واشنطن.

لا شك في أن هذا الواقع دفع بالإدارة الأميركية الجديدة إلى تغيير جذري في أسلوبها للتعامل مع دول الجوار الأميركي اللاتيني، كالتهديد باستعادة السيطرة على قناة بنما، واستخدام القوة العسكرية إذا استدعى الأمر، أو الترحيل القسري للمهاجرين غير الشرعيين إلى كولومبيا وفنزويلا، أو إبعاد آخرين إلى الإكوادور والسلفادور، وتجاوز الأحكام القضائية التي منعت ذلك، أو دفع المكسيك - تحت وطأة التهديد بفرض زيادة كبيرة على الرسوم الجمركية - إلى نشر قواتها المسلحة على امتداد الحدود المشتركة لمنع تسلل عصابات الاتجار بالمخدرات إلى الولايات المتحدة... بل والتلميح إلى إرسال قوات أميركية خاصة لملاحقة هذه العصابات في حال امتنعت حكومة المكسيك عن التجاوب.