فلاسفة مقاهٍ وصعاليك حالمون كتبوا أسطورة 1968

50 عاماً على {ثورة} الطلاب الفرنسيين التي غيَّرت شرق أوروبا لاحقاً

جانب من {ثورة} الطلبة الفرنسيين 1968
جانب من {ثورة} الطلبة الفرنسيين 1968
TT

فلاسفة مقاهٍ وصعاليك حالمون كتبوا أسطورة 1968

جانب من {ثورة} الطلبة الفرنسيين 1968
جانب من {ثورة} الطلبة الفرنسيين 1968

بينما كان العالم يترنح من ثقل صراعات الحرب الباردة انسل الفرنسيون بأناقتهم المعهودة ليصادروا العام 1968 من الآخرين، فضمّوه إلى تاريخهم أيقونة تكاد تداني في ألقها مجموعة أيقوناتهم الموروثة الأثمن: الثورة الفرنسيّة 1789 وكميونة باريس 1871 ومعركة تحرير باريس 1944 خلال الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من أن أحداث ليلة 11 - 12 مايو (أيار) من ذلك العام في باريس، عندما حاصرت قوات الأمن الفرنسيّة الطلّاب المتظاهرين في مربع حول بوليفار سانت ميشيل ليتصدى لها هؤلاء ببناء متاريس على حدود منطقة أعلنوها محررة، قد انتهت سريعاً، وأن العمال المُضربين تضامناً مع الطلاب قد توصلوا إلى اتفاق مع السلطة خلال ثلاثة أسابيع من ليلة المتاريس تلك، إلا أن المشاهد المصورّة التي وثّقت تلك المرحلة صارت كما سجلّ ذاكرة للعالم أجمع، تستدعي كلما عُرضت مشاعر متناقضة لجيل كامل عبر الكوكب استيقظ ذات صيف ليجد نفسه في مواجهة خاسرة مع هيكليات السلطة جميعاً: جيل الآباء، والطغم اليمينية الحاكمة، والثقافات الذكورية والعنصريات المتجذرة. لكن الحقيقة أن ليلة المتاريس الباريسيّة تلك لم تكن واقعاً سوى رمز اختصر عقداً كاملاً من الصراعات المحلية بين القلة وبين الأكثرية في المجتمعات الرأسمالية عبر الغرب وفي أميركا اللاتينية أيضاً، حتى عُرف عند المؤرخين بـ«العقد الأحمر».
أحداث 1968 وجدت طريقها سريعاً إلى عشرات الكتب والدراسات والمذكرات، لا سيّما أن أغلبية المنخرطين في المواجهات داخل فرنسا - وبريطانيا كذلك - كانوا طلاباً نخبويين أو فلاسفة مقاهٍ أو صعاليك حالمين، وهؤلاء كتبوا أسطورة 1968 من وجهة نظرهم المتعالية، فصارت سرديتهم عن لحظة تكوين ذهبيّة كانوا أبطالها المزعومين. لكن أغلب تلك المصادر تجاهل الغليان الموازي في ألمانيا المقسّمة حينذاك وفي شرقي أوروبا عموماً، ربما باستثناء الإضاءة المكثفة على أحداث «ربيع براغ»، بوصفها فرصة لإدانة الاتحاد السوفياتي العدو الكامل للغرب. فهناك عبر الحدود في الشمال الشرقي لفرنسا يَعتبر الألمان بدورهم عام 1968 وكأنه لحظة قطع استثنائيّة في تاريخهم المعاصر، وبداية روح جديدة سرت في الجسد المقطّع حتى بثت فيه الحياة بعد ربع قرن تقريباً أخذت صورها الأكثر رمزية لحظة سقوط الجدار الفاصل بين شطري برلين، وتوحيد الألمانيتين الشرقية والغربية.
في أجواء 1968 أشعل طلاب برلين الغربية مظاهرات عاصفة استمرت لوقت أطول بكثير من أحداث مايو الفرنسية، وربما أعمق منها تأثيراً في طرائق العيش وثقافة المجتمع الألماني بعامة، وأفرزت تجارب يسار متطرف انخرطت في نضالات عنيفة عالمية الطابع أحياناً. كما أنها وبغير تجارب دول أوروبا الغربية الأخرى، لم تشهد تضامناً فاعلاً من قبل الطبقة العاملة الألمانية أو المنظمات السياسية اليسارية التي تجنبت التورط في أي إضرابات أو احتلال مصانع، أو حتى المشاركة في مظاهرات الطلاب الفوضويين.
السلطات على الجانب الألماني الشرقي كانت تهنئ نفسها بوجود الجدار العازل (أنشأته عام 1961)، الذي كان يُفترض به أن يمنع انتقال عدوى تمرد الطلاب تلك من برلين الغربية. كما أن الطلبة الألمان الشرقيين رغم بعض التجارب المغردة ضد النسق الستاليني الصارم في الحكم كانوا يفتقدون بالفعل إلى قضية للتحرك، فهم نظرياً في الجانب الذي انتصر على الفاشية والنازية، وهو ذات الجانب الذي يتصدى للإمبرياليّة العالمية، ويدعم نضالات الشعوب، ويمنح المرأة حقوقاً لم تكن تنالها من قبل. كما ولا يمكن الادعاء حينها بوجود فجوة فكرية بين الأجيال، تتسبب في صراع أو قطيعة.
ومع ذلك فإن نوعاً مختلفاً من العقلية الثورية كان بالفعل في طور التكوّن بين الشبيبة الألمانية الشرقية تأثراً بربيع براغ 1968 أكثر من تأثره بالمتاريس الباريسيّة. فقد راقب الجميع الدبابات السوفياتية وهي تحتل العاصمة التشيكوسلوفاكية خلال ساعات، لتسحق محاولة التصحيح داخل السلطة الشيوعية في البلاد. لكن المواجهة في ألمانيا الشرقية هنا لم تكن ساحتها الجامعات والشوارع، بل كانت في ملعب الثقافة. فالشعراء والموسيقيون والأدباء والفنانون صاروا طليعة مواجهة غير معلنة ضد السلطات في فضاء البحث عن تمثيلات نقيضة للحقيقة، بديلاً عن تلك التي يسمح بها النموذج الرسمي للواقعية الاشتراكيّة الذي أرسى قواعده الأدبيّة - بدعم من الاتحاد السوفياتي - المفكر الهنغاري المعروف جورج لوكاش.
إحدى نوافذ التمرد كانت تَذوّق ما سماه بعضهم بـ«الثمرات المحرمة» للمدارس الأدبية والفنية الحديثة التي ما لبثت تتوالد في أوروبا الغربيّة، وكان على رأسها المدرسة السوريالية في الفن وأعمال الروائي اليهودي الألماني فرانز كافكا. أصابت أعمال الأخير وتراً حساساً في قلب الشباب الأوروبي الشرقي عامة الذي قرأ بشغف معالجته للصّراعات الداخلية للفرد داخل المجتمعات الصناعية المعاصرة، ووصفه لحال التغريب الذي ينتهي إليه الجميع فيها، وهجومه اللاذع على كل سلطة بيروقراطية جامدة عديمة المشاعر، إضافة إلى التوتر الدائم بين جيلي الآباء والأبناء. وتبدو المصادر التاريخية من تلك الفترة حافلة بالإشارات إلى كافكاويات شكلت جزءاً من ثقافة المتعلمين والمثقفين في أنحاء شرق أوروبا، لاسيّما ألمانيا الشرقيّة، وكانت تتداول بين الحانقين على النظام الاشتراكي وكأنها بيانات ثوريّة.
كان لوكاش واضحاً في معاداته للسورياليّة وكافكا معاً. وكانت اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعي السوفياتي الحاكم وقتها قد توصلت إلى قناعة بأن كتابات كافكا تحديداً كانت المشترك الوحيد تقريباً بين الشباب المعارضين للحكومات الاشتراكية فوجهت بمنعها، وعقدت مؤتمراً لممثلين رسميين من دول الكتلة الاشتراكيّة - في ليبليسي قرب براغ عام 1963 - بغرض التداول في طرائق لمحاربة التأثير السيئ لأعماله على الشبيبة الاشتراكية، لكن الوفد الألماني الشرقي قلل من قيمة كتاباته، واعتبرها غير ذات تأثير على جيل الكتاب الألمان الجدد، فبقيت أعماله قيد التداول وأعيد طبعها غير مرّة. لقد تسبب هؤلاء الموظفون المثقفون البيروقراطيون بعنجهيتهم تلك وتعاليهم عن الاستماع للخبراء المختصين بالأدب الكافكاوي بفتح البوابات أمام تيار كافكا الجارف، لينتشر كما جرثومة معدية بين جيل الشباب الأوروبي الشرقي خلال «العقد الأحمر».
1968 كان العام الذي انتصر فيه كافكا على لوكاش نهائياً، رغم أن أعمال عنف رئيسية لم تندلع في أوروبا الشرقيّة وقتها ضد السلطات باستثناء العشرات الذين قضوا في أحداث ربيع براغ. كان عتاة المتمردين شرق القارة يعرفون بـ«الكافكاويين»، وكثير منهم اختار الحياة الهبيّة كاحتجاج سلبي ضد السلطات، وانخرط في حوار ندّي مع جيل الآباء حول تجربة الوجود الإنساني بعامة في مجتمع كانت سلطته الحاكمة تريد تواصلاً باتجاه واحد مع مواطنيها. هذا الجيل هو صانع المناخ الذي سمح بذلك السقوط المدوي لجدار برلين العازل دون مقاومة تذكر.
الذّكرى الخمسون لتراكم الأحداث التاريخيّة في العام 1968 ربما تمنح المؤرخين اليوم قراءة أهدأ وأكثر توازناً للتحولات التي عصفت بجيل الستينات في أوروبا والأميركيتين، بدلاً من النصوص المنفعلة والصور الرومانسية التي غلبت على الكتابات الأولى المتسرعة. قراءة مثل تلك قد تنتهي بصورة لفرانز كافكا كأيقونة للمرحلة التاريخية الساطعة بدلاً من صور الطلاب الفرنسيين وراء متاريس باريس وهم يلقون بحجارة الأرصفة على رجال الأمن، وتلك مسألة قد تعيد الاعتبار للشعوب الأخرى غير الفرنسيين، التي ترى أنها بدورها تستحق حصة وازنة من 1968، وإن كانت ستتسبب لجورج لوكاش بموجة غضب عاصف لو طال به العمر.



«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)

يجيب معرض «الجمل عبر العصور»، الذي تستضيفه مدينة جدة غرب السعودية، عن كل التساؤلات لفهم هذا المخلوق وعلاقته الوطيدة بقاطني الجزيرة العربية في كل مفاصل الحياة منذ القدم، وكيف شكّل ثقافتهم في الإقامة والتّرحال، بل تجاوز ذلك في القيمة، فتساوى مع الماء في الوجود والحياة.

الأمير فيصل بن عبد الله والأمير سعود بن جلوي خلال افتتاح المعرض (الشرق الأوسط)

ويخبر المعرض، الذي يُنظَّم في «مركز الملك عبد العزيز الثقافي»، عبر مائة لوحة وصورة، ونقوش اكتُشفت في جبال السعودية وعلى الصخور، عن مراحل الجمل وتآلفه مع سكان الجزيرة الذين اعتمدوا عليه في جميع أعمالهم. كما يُخبر عن قيمته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لدى أولئك الذين يمتلكون أعداداً كبيرة منه سابقاً وحاضراً. وهذا الامتلاك لا يقف عند حدود المفاخرة؛ بل يُلامس حدود العشق والعلاقة الوطيدة بين المالك وإبله.

الجمل كان حاضراً في كل تفاصيل حياة سكان الجزيرة (الشرق الأوسط)

وتكشف جولة داخل المعرض، الذي انطلق الثلاثاء تحت رعاية الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة؛ وافتتحه نيابة عنه الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي، محافظ جدة؛ بحضور الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»؛ وأمين محافظة جدة صالح التركي، عن تناغم المعروض من اللوحات والمجسّمات، وتقاطع الفنون الثلاثة: الرسم بمساراته، والتصوير الفوتوغرافي والأفلام، والمجسمات، لتصبح النُّسخة الثالثة من معرض «الجمل عبر العصور» مصدراً يُعتمد عليه لفهم تاريخ الجمل وارتباطه بالإنسان في الجزيرة العربية.

لوحة فنية متكاملة تحكي في جزئياتها عن الجمل وأهميته (الشرق الأوسط)

وفي لحظة، وأنت تتجوّل في ممرات المعرض، تعود بك عجلة الزمن إلى ما قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، لتُشاهد صورة لعملة معدنية للملك الحارث الرابع؛ تاسع ملوك مملكة الأنباط في جنوب بلاد الشام، راكعاً أمام الجمل، مما يرمز إلى ارتباطه بالتجارة، وهي شهادة على الرّخاء الاقتصادي في تلك الحقبة. تُكمل جولتك فتقع عيناك على ختمِ العقيق المصنوع في العهد الساساني مع الجمل خلال القرنين الثالث والسابع.

ومن المفارقات الجميلة أن المعرض يقام بمنطقة «أبرق الرغامة» شرق مدينة جدة، التي كانت ممراً تاريخياً لطريق القوافل المتّجهة من جدة إلى مكة المكرمة. وزادت شهرة الموقع ومخزونه التاريخي بعد أن عسكر على أرضه الملك عبد العزيز - رحمه الله - مع رجاله للدخول إلى جدة في شهر جمادى الآخرة - ديسمبر (كانون الأول) من عام 1952، مما يُضيف للمعرض بُعداً تاريخياً آخر.

عملة معدنية تعود إلى عهد الملك الحارث الرابع راكعاً أمام الجمل (الشرق الأوسط)

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال الأمير فيصل بن عبد الله، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»: «للشركة رسالة تتمثّل في توصيل الثقافة والأصالة والتاريخ، التي يجهلها كثيرون، ويشكّل الجمل جزءاً من هذا التاريخ، و(ليان) لديها مشروعات أخرى تنبع جميعها من الأصالة وربط الأصل بالعصر»، لافتاً إلى أن هناك فيلماً وثائقياً يتحدّث عن أهداف الشركة.

ولم يستبعد الأمير فيصل أن يسافر المعرض إلى مدن عالمية عدّة لتوصيل الرسالة، كما لم يستبعد مشاركة مزيد من الفنانين، موضحاً أن المعرض مفتوح للمشاركات من جميع الفنانين المحليين والدوليين، مشدّداً على أن «ليان» تبني لمفهوم واسع وشامل.

نقوش تدلّ على أهمية الجمل منذ القدم (الشرق الأوسط)

وفي السياق، تحدّث محمد آل صبيح، مدير «جمعية الثقافة والفنون» في جدة، لـ«الشرق الأوسط» عن أهمية المعرض قائلاً: «له وقعٌ خاصٌ لدى السعوديين؛ لأهميته التاريخية في الرمز والتّراث»، موضحاً أن المعرض تنظّمه شركة «ليان الثقافية» بالشراكة مع «جمعية الثقافة والفنون» و«أمانة جدة»، ويحتوي أكثر من مائة عملٍ فنيّ بمقاييس عالمية، ويتنوع بمشاركة فنانين من داخل المملكة وخارجها.

وأضاف آل صبيح: «يُعلَن خلال المعرض عن نتائج (جائزة ضياء عزيز ضياء)، وهذا مما يميّزه» وتابع أن «هذه الجائزة أقيمت بمناسبة (عام الإبل)، وشارك فيها نحو 400 عمل فني، ورُشّح خلالها 38 عملاً للفوز بالجوائز، وتبلغ قيمتها مائة ألف ريالٍ؛ منها 50 ألفاً لصاحب المركز الأول».

الختم الساساني مع الجمل من القرنين الثالث والسابع (الشرق الأوسط)

وبالعودة إلى تاريخ الجمل، فهو محفور في ثقافة العرب وإرثهم، ولطالما تغنّوا به شعراً ونثراً، بل تجاوز الجمل ذلك ليكون مصدراً للحكمة والأمثال لديهم؛ ومنها: «لا ناقة لي في الأمر ولا جمل»، وهو دلالة على أن قائله لا يرغب في الدخول بموضوع لا يهمّه. كما قالت العرب: «جاءوا على بكرة أبيهم» وهو مثل يضربه العرب للدلالة على مجيء القوم مجتمعين؛ لأن البِكرة، كما يُقال، معناها الفتيّة من إناث الإبل. كذلك: «ما هكذا تُورَد الإبل» ويُضرب هذا المثل لمن يُقوم بمهمة دون حذق أو إتقان.

زائرة تتأمل لوحات تحكي تاريخ الجمل (الشرق الأوسط)

وذُكرت الإبل والجمال في «القرآن الكريم» أكثر من مرة لتوضيح أهميتها وقيمتها، كما في قوله: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (سورة الغاشية - 17). وكذلك: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ» (سورة النحل - 6)... وجميع الآيات تُدلّل على عظمة الخالق، وكيف لهذا المخلوق القدرة على توفير جميع احتياجات الإنسان من طعام وماء، والتنقل لمسافات طويلة، وتحت أصعب الظروف.