معركة دير الزور: «داعش» خسر الغطاء القبلي

«براغماتية» العشائر دفعتها لحماية نفسها من المواجهة

معركة دير الزور: «داعش» خسر الغطاء القبلي
TT

معركة دير الزور: «داعش» خسر الغطاء القبلي

معركة دير الزور: «داعش» خسر الغطاء القبلي

تلتقي التقارير عن تبدد المئات من مقاتلي «داعش» في البادية السورية، إثر الحملات التي شنها النظام السوري بدعم من حلفائه وداعميه الروس والإيرانيين منذ مطلع العام الحالي ضده، على رؤية تفيد بأن بعض هؤلاء العناصر، هم مقاتلون عشائريون ومزارعون ورعاة اضطروا لمهادنة التنظيم المتطرف بعد سيطرته على المنطقة، كما فعلوا في وقت سابق مع النظام، أو مع فصائل المعارضة. فالمسلحون في هذه البقعة الجغرافية الواسعة من سوريا، يهادنون «السلطة» التي تبسط نفوذها على المنطقة، منعاً للاصطدام معها، وخوض معارك غير متكافئة، تنتهي مثلما انتهت إليه المواجهة بين عشيرة الشعيطات ومقاتلي «داعش»، إذ أسفرت عن مقتل نحو 800 شاب من العشيرة.
دير الزور، المحافظة الغنية بالنفط، التي تمثل السلة الغذائية الأهم لسوريا منذ السبعينات، تتمتع فيها العشائر بنفوذ واسع، وتسيطر على مفاصلها. ولا سبيل لأي طرف بالدخول إليها إلا بمهادنة العشائر له، سواءً عبر «تنظيم الخلاف» أو التوصل إلى اتفاقات. ومن غيره، سيُعامل الطرف المقبل إلى المنطقة على انه «محتل»، ما يشرّع قتاله.

يمثل المواطنون السوريون من ذوي الخلفية القبلية نسبة تزيد عن 30 في المائة من عدد السكان، وهؤلاء يعيشون في مناطق تزيد مساحتها عن 43 في المائة من مساحة سوريا البالغة 185.180 كيلومتراً مربعاً، إذا احتسبت فقط مساحة المحافظات ذات الغالبية العشائرية المطلقة وهي دير الزور والحسكة والرقة ودرعا.
أدرك النظام السوري، منذ السبعينات، أهمية دور العشائر التي يتركز ثقلها في شرق سوريا وشمالها. فسارع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى مهادنتها، بالنظر إلى أنها عشائر مقاتلة، وقادرة على حشد المؤيدين للنظام أو الانفكاك عنه بسبب التركيبة الاجتماعية لها. ومن ثم، عمل الأسد الأب على تقريب شيوخ العشائر منه، وأوصل بعضهم إلى الندوة البرلمانية في مجلس الشعب.
وراهناً، تحظى القبائل في مجلس الشعب بستة مقاعد محجوزة لممثلي قبائل معينة. وشهدت سوريا خلال السنوات الأخيرة زيادة في عدد الممثلين المنتخبين عن أولئك الستة ليشمل ممثلين عن قبائل أخرى. ويشكل العرب غالبية سكان مدينة دير الزور مع وجود بسيط للأكراد والأرمن، والقسم الأكبر من العرب يتحدّرون من خلفيات عشائريّ، أبرزها البكّارة (البقّارة) والعكيدات (العقيدات). وتعتبر قبيلة العكيدات من أكبر القبائل، إذ يبلغ عدد أفرادها أكثر من مليوني نسمة ومنهم جماعات تعيش في محافظات حمص وحماه وحلب، لكن أكثرهم يعيش على ضفاف نهر الفرات في محافظة دير الزور. أما العشيرة التي تأتي بعدها فعشيرة البكّارة وشيخهم المعارض نواف راغب البشير، ويبلغ عدد أفراد هذه العشيرة نحو مليون نسمة ويتزعمهم حالياً الشيخ فواز البشير وتسكن العشيرة في محافظات الحسكة ودير الزور وحلب.

ابتعادها عن النظام
لكن هذه العشائر، لم تبقَ إلى جانب النظام السوري إثر اندلاع الاحتجاجات ضده في العام 2011. وفضلاً عن أن بعضها أيّد المعارضة، تحوّلت بعض معاقلها إلى أماكن آمنة لنشوء تنظيمات متطرفة مثل «جبهة النصرة» التي قضى «داعش» عام 2015 على نفوذها في دير الزور، كما كانت تمثل مركز انطلاق لتنظيم «داعش» بعدما تسرّب عناصر داعش من العراق، ليعلنوا عاصمتهم في مدينة الرقّة.
ولا يخفى على المراقبين الأجانب أن دير الزور (وهي كبرى مدن شرق سوريا) مدينة ذات غالبية سنّية، ولا أن عدداً من المناطق التي خسرها داعش يوم الثلاثاء الماضي ظلت موالية لنظام بشار الأسد طوال الحرب التي انطلقت منذ ست سنوات. إذ ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» يوم الخميس الماضي، أن قسماً كبيراً من السنّة في البلاد دعموا الثورة التي انخرطت فيها إلى حد كبير الغالبية السنّية، وليست محافظة دير الزور استثناءً من تلك القاعدة، إلا أنها تنقل عن مراقبين قولهم إن «نجاح» قوات النظام هناك «سيعزز أيضاً جهود حكومته المكثفة خلال الأشهر الأخيرة لتوظيف دعم القبائل والعشائر في المنطقة، ما يعزز بدوره محاولتها لاستعادة بقية المحافظة لاحقاً».

تهم احتضان المتشددين
وجّهت اتهامات للعشائر السورية في شرق البلاد منذ العام 2012، باحتضانها الجماعات المتشددة لأسباب يراها بعض أبناء تلك العشائر مختلفة، بينما يدّعي مَن انتفض على «داعش» من أبناء العشائر، إنه لقي تجاهلاً من قبل المعارضة السورية والمجتمع الدولي، وتُرك وحيداً ليقارع التنظيم المتطرف. ولعل القرب الجغرافي مع العراق، والانتماء إلى بيئة قبلية واحدة عزّزت الروابط العشائرية، كانا سببين أساسيين في وجود التنظيم في سوريا، وأيضاً في اندحاره أخيراً.
عبد الناصر العايد، الباحث السياسي السوري في ملف العشائر، قال لـ«الشرق الأوسط» إن البيئة القبلية في دير الزور «كان لها دور أساسي في ظهور الحركات الراديكالية المتشددة». وأردف أن تنظيم القاعدة دخل إلى سوريا عن طريق شبكة قبلية «عبر الشباب الذين ذهبوا إلى العراق للقتال ضد الغزو الأميركي بنزعة عربية قومية، وبعض المؤدلجين من أبناء العشائر»، مستطرداً «حين انهار حكم صدام حسين وبقيت التنظيمات المتشددة، تحول معظمهم نحو الفكر القاعدي، وهم أنفسهم أدخلوا (القاعدة) إلى سوريا».
وتشير تقارير إلى أن تنظيم «جبهة النصرة»، الذي يعتبر أول التنظيمات السورية المتشددة ظهوراً في سوريا، انطلق في بلدة الشحيل بمحافظة دير الزور، عبر مقاتلين عائدين من العراق. وكانت الشحيل التي تمثل ثقل «النصرة» في سوريا، آخر البلدات التي سيطر عليها «داعش» وطرد غريمته منها، في مطلع عام 2015.
أيضا، لعبت الروابط القبلية دوراً أساسياً في تجنيد المقاتلين لصالح التنظيمات المتشددة، هي «النصرة» يليها «داعش»، بحسب ما يشير العايد الذي تحدث عن «دور للشبكات التضامنية والاجتماعية في الانتساب لتلك الجماعات»، لافتاً إلى أن «داعش حاول التخلص من الصفة كي لا يواجه القبائل المنافسة، ورفض سمة التمركز ضمن القبيلة، لكنه اضطر في النهاية للعمل مع مشايخ من القبائل ويعترف بالقبلية قليلاً».
وكما سبقت الإشارة تعد قبيلتا العكيدات (العقيدات) والبكّارة (البقّارة)، أكبر القبائل في شرق سوريا، وتمتد عشائر الأولى وأفخاذها من دير الزور إلى مدينة القائم العراقية وقرى وبلدات غرب الفرات في العراق، بينما تمتد عشائر البكّارة وأفخاذها شمالاً إلى محيط الموصل، ولها وجود كبير في المدينة وقراها. ورغم ضعف الروابط الاجتماعية بين أفخاذ القبيلتين على الضفتين الحدوديتين إبّان حكم صدام حسين، بسبب الخلاف بين فرعي حزب البعث العراقي والسوري، تعرفت القبائل بعضها إلى بعض بعد الغزو الأميركي للعراق في 2003، ومتنت روابطها وعلاقاتها، وهو ما أسهم لاحقاً في انتقال سلس للمقاتلين المتشددين على ضفتي الحدود، وانتشار سلس لـ«داعش» في سوريا.

روابط عشائرية سهلت انتشار {الدواعش}
لقد حاول «داعش» استقطاب عشائر شرق سوريا ومحاولته تشكيل تحالفات على غرار ما فعله في الأنبار بالعراق. واستطاع بالفعل، استغلال التركيبة العشائرية في سوريا لمصلحته، واستفاد من الخلافات بين العشائر على النفط والنفوذ، ومن نهج بعض العشائر التي توالي الأقوى. ومن ثم، تمكن مستفيداً من انتصاراته في العراق بالتنسيق مع العشائر العراقية، من فرض سيطرته شبه المطلقة على محافظة دير الزور، لا سيما أن هناك تداخلاً بين العشائر في المحافظة وعشائر العراق.
سهولة انتشار «داعش» على الجانب السوري من الحدود، مرده إلى أن القبلي بالأساس، «براغماتي»، بحسب ما يقول العايد، وينسج عادةً تحالفات سياسية هدفها حمايته، لكن القول إن «داعش» انحسر بسبب تخلي الروابط القبلية عنه، تعوزه الدقة. فحسب العايد «عناصر (داعش) عقائديون، إذ جند التنظيم أبناء القبائل على أساس عقائدي وليس على أساس تحالف، ويعتبر أبناء العشائر رعايا وليس مبايعين»، لافتاً إلى أن انسحاب «داعش» واندحاره في الصحراء «يعود إلى أسباب عسكرية مرتبطة بإعادة التموضع في ظل عجزه عن مواجهة الطائرات».
العايد كان أشار في دراسة أعدها لصالح «مبادرة الإصلاح العربي» إلى أنه «يمكن وصف العلاقة اليوم بين القبائل والتنظيمات المتطرفة، خصوصاً (داعش)، بأنها «علاقة هيمنة من الثاني على الأول، تتضمن محاولة إلغاء الهوية العشائرية، مع المحافظة على إمكانية الاستفادة من شبكة العلاقات التي توفرها، ودون أن تتحول تلك الشبكة إلى قيد أو إطار تحتجز داخله». وحسب العايد من الملاحظ اليوم أن قبائل كثيرة وكبيرة نأت بنفسها عن الراديكاليين، بينما ارتبطت بهم قبائل أخرى بشدة، ولم تجد دعوتها سوى استجابات فردية ومحدودة خارج القبائل التي ينتمي إليها قادة عسكريون أو دينيون.
ومن اللافت أن العشائر الصغيرة المضطهدة في محيطها، هي الأكثر إقبالاً على الراديكاليين، كما أن الخلافات الكثيرة بين العشائر دفعت بعضها إلى حضن التنظيم للاستقواء به.
ويقدر نشطاء في المنطقة الشرقية أن حصة أبناء تلك المنطقة من الجسد العسكري لـ«داعش» تبلغ نحو 70 في المائة، لكن وفقاً لنشطاء ذاتهم فإن نسبة المتعاطين مع التنظيم من مجمل السكان لا تتجاوز الخمسة في المائة، جُلُّهم من المرتبطين نفعياً به، فهو يقدم رواتب وإعانات وفرص عمل في قطاع النفط، الذي يقدرون عدد الأسر المستفيدة من العمل به بنحو 30 ألف عائلة.

مصالح حكمت الارتباط
رغم ذلك، ثمة مصالح حكمت التحالف مع «داعش»، أو مقارعته. لا تخفي مصادر سورية في شرق البلاد أن الصراع الذي اندلع بين عشيرة الشعيطات، وهي فخذ من العكيدات، مع «داعش»، يعود إلى صراع على آبار النفط. فالتنظيم الذي بايعته العشيرة لمدة عشرين يوماً، رفضت التنازل له عن بئر نفطية ليستثمرها وأرسلت 23 شاباً منها إلى البئر، بادر «داعش» إلى قتلهم وتبدأ المعارك بينهما، بعدما رفع أبناء العشيرة شعار «من قدم لقتالنا في ديارنا أتى ليسرق خيراتنا».
وأفاد «المرصد السوري لحقوق الإنسان» بأن «داعش» أعدم خلال أسبوعين أكثر من 700 سوري غالبيتهم العظمى من المدنيين، في بادية الشعيطات وفي بلدات غرانيج وأبو حمام والكشكية التي يقطنها مواطنون من أبناء الشعيطات. واعتبر التنظيم عشيرة الشعيطات «طائفة كفر يجب تكفيرها وقتالها قتال الكفار». وجرى إعدام المئات بعد أَسْرهم، وبعضهم لوحقوا وأعدموا داخل قرى وبلدات نزحوا إليها خارج بادية الشعيطات بريف دير الزور الشرقي.

النظام بعد دير الزور
حالياً يسارع نظام دمشق لفك الحصار عن مدينة دير الزور وإبعاد «داعش» عن المحافظة التي تحتوي على 40 في المائة من مخزون النفط السوري. ويفسَّر وجود النفط في المحافظة اتجاه النظام لاستعادة السيطرة عليها، في ظل سباق بينه وبين الميليشيات المدعومة أميركياً لبسط سيطرتها على المنطقة على حساب «داعش». ومع ان مدينة دير الزور كانت دائماً هدفاً لجيش النظام، فإنه لم يبدأ هجومه نحوها إلا بعد تحقيقه تقدماً على جبهات أخرى بدعم من الطيران الروسي، في حين تشهد مناطق عدة اتفاقات «خفض توتر» ووقف لإطلاق النار. ويوم الثلاثاء نجح جيش النظام في كسر حصار فرضه «داعش» بشكل محكم على مدينة دير الزور منذ مطلع العام 2015 تمهيدا لطرده من المدينة، في هزيمة جديدة تضاف إلى سجل الراديكاليين.
ويشكل تقدم الجيش نحو دير الزور وفق محللين هزيمة كبيرة ل«داعش» الذي مُني في الأشهر الأخيرة بسلسلة خسائر ميدانية في سوريا والعراق المجاور. إذ بدأ جيش النظام منذ أسابيع عدة عملية عسكرية واسعة باتجاه محافظة دير الزور، وتمكن - بدعم روسي مباشر - من دخولها من ثلاثة محاور رئيسية هي جنوب محافظة الرقة، والبادية جنوباً من محور مدينة السُّخنة في ريف محافظة حمص الشرقي، فضلا عن المنطقة الحدودية مع العراق من الجهة الجنوبية الغربية. ودخلت القوات المتقدمة من محور الرقة الثلاثاء الماضي، إلى قاعدة اللواء 137.
وتوجَد تلك المتقدمة من جبهة السخنة على بعد نحو 35 كيلومتراً من المطار العسكري بعدما اضطرت للتراجع الثلاثاء على وقع هجمات التنظيم، وفق «المرصد». ومن المتوقع أن يخوض جيش النظام مواجهات شرسة في الأيام المقبلة لطرد الجماعات التي تطوق المطار العسكري وعدداً من الأحياء المحاذية له. وبالتالي، من شأن سيطرة الجيش على كامل مدينة دير الزور حرمان التنظيم من أحد أبرز معاقله وهذا بعد خسارته أكثر من ستين في المائة من مساحة مدينة الرقة، معقله في سوريا، منذ يونيو (حزيران) الماضي على وقع تقدم ميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» (ذات الغالبية الكردية) بدعم أميركي.
وبعد هذا التقدم، فان السؤال الأكبر هنا هو أين ستتوجه قوات نظام الأسد الآن، وهل تخطط للضغط على بقية مدينة دير الزور أو أنها ستوجه انتباهها إلى الشرق والجنوب، نحو أجزاء أخرى من المحافظة التي تجهز الولايات المتحدة فيها مجموعة من القوات؟

أهمية دير الزور الاستراتيجية
محافظة دير الزور، التي تعتبر ثاني المحافظات السورية من حيث المساحة، تمثل نقطة اتصال بالغة الأهمية بين العراق والشمال السوري من جهة، وحمص والساحل السوري من جهة ثانية. ولقد تحولت دير الزور إلى ممر آمنٍ في حركة انتقال القوافل من حلب إلى بغداد عبر مسكنة والضفة اليمنى للفرات، من جهة وبين حلب - أورفة والموصل عبر منبج من جهة ثانية، ما أدى إلى انطلاق عملية استثمار تجار حلب للأرض في الجزء الأعلى من نهر البليخ في وادي الفرات.
ويشير تقرير (الفقر في سوريا 1996 - 2004) الذي أعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2005 إلى أن «المناطق الشمالية والشرقية (محافظات إدلب وحلب والرقة ودير الزور والحسكة) سواء كانت ريفية أو حضرية، شهدت أعلى معدلات الفقر سواء من حيث انتشاره أو من حيث شدته أو عمقه»، ويضيف: «باستخدام الخط الأدنى للفقر تصل معدلات الفقر إلى أعلى درجاتها في المناطق الريفية للشمال الشرقي (17.9 في المائة) تليها المناطق الحضرية في الشمال الشرقي (11.2 في المائة) حيث «تبلغ نسبة الفقراء 35.8 في المائة» و«يزداد الفقر المدقع في الإقليم الشمالي الشرقي أربع مرات عن الإقليم الساحلي».

اكتشاف النفط
ورغم هذه الوقائع، فإن اكتشاف النفط في دير الزور ضاعف أهمية المحافظة، وأسهم في تغيير أحوال سكانها ورفدهم بمصدر اقتصادي رديف للتجارة والزراعة. فلقد اكتشفت في ثمانينات القرن العشرين في المحافظة وعلى مقربة من المدينة، كميات ضخمة من النفط والغاز، وأكبر الحقول القريبة من دير الزور هو حقل التيم الذي يبعد عن مركزها نحو 6 كيلومترات. كذلك فقد اكتشف حقلي الطيانة والتنك على ضواحي المدينة عام 1989. وتستثمر في هذه الحقول، شركات وطنية ومشتركة وأجنبية، وتنتشر على مقربة من المدينة محطات تجميع وضخ النفط، واستخراج ومعالجة الغاز الطبيعي وضخه عبر شبكة الأنابيب، ولا تزال عمليات التنقيب تجري لاستكشاف آبار وحقول نفطية جديدة.
وشهدت محافظة دير الزور نمواً ملحوظاً في ثمانينات القرن الماضي بعد اكتشاف النفط ودخول كثير من شركات الأجنبية العاملة في مجال النفط، ما أدى إلى خلق فرص عمل جديدة لأبناء المدينة وزاد من حجم الأسواق ونشاطها. واليوم يعتمد اقتصاد مدينة دير الزور على النشاط الزراعي في أريافها، فتمتاز الأراضي الممتدة على ضفتي نهر الفرات بالخصوبة العالية ويعتبر كل من القمح والقطن المحصولين الأكثر إنتاجاً في المحافظة، كما يوجد في المدينة بعض الأنشطة الصناعية المتواضعة، التي تعتمد بشكل أساسي على القطاع العام وتتركز في معظمها على الصناعات الغذائية والتحويلية مثل شركة الفرات للغزل والشركة العامة للورق وشركة سكر دير الزور، وللعلم، كانت السلطات قد توجهت عام 2007 لتعزيز القطاع الصناعي في المدينة من خلال إنشاء المدينة الصناعية. وتعتبر المدينة مركزاً سياحياً لا سيّما مع انتشار المدن والمواقع الأثريّة في ريفها، غير أن ضعف الخدمات العامة ومناخها القاسي، خصوصاً في فصل الصيف، أثرت سلباً على تطور نشاطها السياحي.

تحوّلات وصراعات على دير الزور
بعد تحول حركة الاحتجاجات ضد النظام إلى انتفاضة مسلحة، سيطرت فصائل معارضة ومتشددة في عام 2012 على أجزاء واسعة من محافظة دير الزور وعاصمتها التي تحمل اسمها. ولكن مع تصاعد نفوذ تنظيم «داعش» وسيطرته على أجزاء واسعة من سوريا والعراق، فإنه استولى أيضاً على المناطق التي كانت تحت سيطرة الفصائل في دير الزور. وأحكم إثر ذلك حصاره تدريجياً على قوات النظام وعشرات آلاف المدنيين من سكان المدينة والمطار العسكري المجاور.
وخلال السنوات الماضية، استهدفت الطائرات النظامية السورية والروسية كما مقاتلات التحالف الدولي بقيادة واشنطن مواقع «داعش» في المحافظة. وشهدت المدينة منذ إطباق التنظيم حصاره عليها، معارك مع القوات المحاصرة داخلها.
وفي مطلع العام الحالي ورغم القصف الجوي الروسي والسوري الكثيف، ضيق التنظيم المتطرف الخناق أكثر على المدينة، وفصل مناطق سيطرة النظام إلى جزءين، شمالي وآخر جنوبي يضم المطار العسكري. وتقتصر سيطرة الجيش النظامي حالياً على المطار العسكري في جنوب غرب المدينة وبعض الأحياء المحاذية له فضلاً عن أجزاء في شمال المدينة ومقر اللواء 137 عند أطرافها الغربية.
هذا وكان تعداد سكان مدينة الزور قبل اندلاع الحرب يقدر بنحو 300 ألف نسمة، فيما يعيش حاليا في الأحياء تحت سيطرة قوات النظام أكثر من 90 ألف مدني، وفق تقديرات للأمم المتحدة تعود لبداية العام الحالي. ويقدر المرصد السوري لحقوق الإنسان بدوره عدد المدنيين في أحياء النظام بـ150 ألف شخص مقابل عشرة آلاف شخص في الأحياء تحت سيطرة {داعش}. كما يقدر خبراء عدد قوات النظام في المدينة والمطار والقاعدة العسكريين بسبعة آلاف جندي.
وتسبب حصار «داعش» للمدينة في تفاقم معاناة السكان مع النقص في المواد الغذائية والخدمات الطبية. ولم يعد الوصول إلى مناطق سيطرة النظام متاحاً وبات الاعتماد بالدرجة الأولى على مساعدات غذائية تلقيها طائرات سورية وروسية. وبدأ «برنامج الأغذية العالمي» عام 2016 أيضاً إلقاء مساعدات إنسانية من الجو. ويعاني المدنيون المقيمون في الأحياء تحت سيطرة المتشددين، وفق ناشطين، أيضاً من شح المواد الغذائية وانقطاع خدمات المياه والكهرباء.


مقالات ذات صلة

بوركينا فاسو تعلن القضاء على 100 إرهابي وفتح 2500 مدرسة

أفريقيا أسلحة ومعدات كانت بحوزة إرهابيين في بوركينا فاسو (صحافة محلية)

بوركينا فاسو تعلن القضاء على 100 إرهابي وفتح 2500 مدرسة

تصاعدت المواجهات بين جيوش دول الساحل المدعومة من روسيا (مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو)، والجماعات المسلحة الموالية لتنظيمَي «القاعدة» و«داعش».

الشيخ محمد (نواكشوط)
المشرق العربي حديث جانبي بين وزيري الخارجية التركي هاكان فيدان والأميركي أنتوني بلينكن خلال مؤتمر وزراء خارجية دول مجموعة الاتصال العربية حول سوريا في العاصمة الأردنية عمان السبت (رويترز)

تركيا: لا مكان لـ«الوحدات الكردية» في سوريا الجديدة

أكدت تركيا أن «وحدات حماية الشعب الكردية» لن يكون لها مكان في سوريا في ظل إدارتها الجديدة... وتحولت التطورات في سوريا إلى مادة للسجال بين إردوغان والمعارضة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الولايات المتحدة​ أحمد الشرع مجتمعاً مع رئيس حكومة تسيير الأعمال محمد الجلالي في أقصى اليسار ومحمد البشير المرشح لرئاسة «الانتقالية» في أقصى اليمين (تلغرام)

«رسائل سريّة» بين إدارة بايدن و«تحرير الشام»... بعلم فريق ترمب

وجهت الإدارة الأميركية رسائل سريّة الى المعارضة السورية، وسط تلميحات من واشنطن بأنها يمكن أن تعترف بحكومة سورية جديدة تنبذ الإرهاب وتحمي حقوق الأقليات والنساء.

علي بردى (واشنطن)
المشرق العربي فصائل الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا تدخل منبج (إعلام تركي)

عملية للمخابرات التركية في القامشلي... وتدخل أميركي لوقف نار في منبج

يبحث وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في تركيا الجمعة التطورات في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي مواطنون من عفرين نزحوا مرة أخرى من قرى تل رفعت ومخيمات الشهباء إلى مراكز إيواء في بلدة الطبقة التابعة لمحافظة الرقة (الشرق الأوسط)

ممثلة «مسد» في واشنطن: «هيئة تحرير الشام» «مختلفة» ولا تخضع لإملاءات تركيا

تقول سنام محمد، ممثلة مكتب مجلس سوريا الديمقراطي في واشنطن، بصفتنا أكراداً كنا أساسيين في سقوط نظام الأسد، لكن مرحلة ما بعد الأسد تطرح أسئلة.

إيلي يوسف (واشنطن)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.