ما أتعس العالم معهما

لا ينسى الدكتور محمود محيي الدين، النائب الأول لرئيس البنك الدولي، أنه قارئ محترف، ولا ينسى وهو يمارس احترافه أن يتيح لغيره، ما يُتاح له من الكتب، قدر إمكانه... لقد فعلها فيما قبل 25 يناير (كانون الثاني) 2011، عشر مرات، وحين عاوده الحنين إلى تلك الأيام، فإنه عاد ليفعلها هذا العام!
قبل 25 يناير كان وزيراً للاستثمار، ولكنه غادر الوزارة إلى البنك الدولي، بينما الأحداث التي هزت مصر ابتداء من ذلك اليوم، تلوح بوادرها في الأفق من بعيد، وعندما ألقى عصا الوزارة، مغادراً، كان قد ترك وراءه عشرة كتب تبنت وزارته نشرها، وأتاحتها لقارئها للمرة الأولى!
كانت الكتب العشرة للمؤلف الأستاذ مصطفى بيومي، وكانت عن رواد الاستثمار في مصر، ممن عاشوا في السنوات السابقة على ثورة عبد الناصر ورفاقه الضباط، وكانت الكتب التي بدأت بطلعت حرب، ومرت بعبود باشا، وانتهت بفرغلي باشا، وغيرهم، تحمل رسالة مشتركة تقول إن الاستثمار ليس عملاً من جانب صاحبه، بلا هدف، وإن هدفه هو أن يظل يمثل، كعمل، قيمة مضافة إلى اقتصاد البلد، وأن رأس المال الوطني لا بديل أمامه عن أن يؤدي دوره وفق تقاليد مرعية!
هذه المرة كان الدكتور محيي الدين ينتظر طائرته في مطار فرنكفورت، فوقعت عيناه على كتاب لمؤلف أسترالي، فاقتناه، وعلى متن الطائرة إلى واشنطن، كان قد فرغ منه تقريباً، ولأنه وجد فيه متعة، ومع المتعة فائدة، قرر أن ينقله إلى العربية فصدر في القاهرة قبل أسابيع!
الكتاب عنوانه «أوروبا.. تاريخ وجيز»... أما مؤلفه جون هيرست، فقد عاش منذ عام 1946 إلى أن رحل العام الماضي، ولكنه أبى أن يغيب عن الدنيا، إلا وقد ترك كتاباً يروي فيه لأبناء بلده سيرة موجزة لأوروبا، وكيف أنها كانت سيرة مُجزأة إلى ثلاثة عصور: عصر قديم فيما قبل عام 476 من ميلاد المسيح، وهو العام الذي سقطت فيه الإمبراطورية الرومانية، ثم عصر وسيط امتد إلى عام 1000 من الميلاد، وأخيراً عصر حديث عاشته القارة العجوز بعد هذا العام الألف، وصولاً من بعده إلى اليوم!
لا أعرض للكتاب في هذه السطور، ولكن فقط أشير إليه، لأن ما يهمني فيه هنا، إنما هو جُملة عابرة، ورغم أنها كذلك، فإنها استوقفتني طويلاً، لأن لها في ظني ما بعدها، على نحو ما سوف نرى حالاً... الجملة تقول إن مارتن لوثر لم يكن ليقود تياره الإصلاحي الواسع في تاريخ ألمانيا، أولاً، ثم في تاريخ أوروبا كلها من بعدها، ثانياً، لولا اختراع ظهر لأول مرة وقتها اسمه المطبعة!
السؤال الذي شغلني كان على النحو الآتي: إذا كان ظهور مارتن لوثر أيامها قد وظف المطبعة في اتجاه صالح أوروبا، وفي اتجاه صالح البشر عموماً من ورائها، فهل تحقق ذلك، فيما بعد، مع مخترعات العلم التي تتالى ظهورها في العالم؟!
قبل أن يظهر مارتن لوثر في بلده، كان الإنجيل مكتوباً باللغة اللاتينية، وكان من شأن ذلك أن يجعل الاطلاع عليه شبه مستحيل، إلا على البابا ودائرته الضيقة وحدها، وكان البابا يأمر فيطاع دون نقاش، ظناً ممن يسمعه أن ما يقول به رأس الكنيسة موجود في الإنجيل، وأن طاعته واجبة بالتالي، ولكن المطبعة أتاحت ترجمته إلى الألمانية، ثم أتاحت طباعته وتوزيعه على أوسع نطاق أوروبي، وكانت هذه هي البداية إلى قراءته بعيون أخرى غير عين البابا، وكانت البداية أيضاً إلى إنهاء سطوته، وسطوة الدين على العقل الأوروبي!
انطلق العقل الأوروبي من قبضة عقال البابا، فبلغت أوروبا ما بلغته الآن، ولولا مارتن لوثر، ولولا المطبعة، ما كانت أوروبا القرن الحادي والعشرين، هي أوروبا التي نعرفها ونراها... لولاهما: لوثر والمطبعة، ما كانت أوروبا التي نراها أمامنا في هذا العصر!.. وفي آخر الكتاب سطر عابر يذكر أن هتلر خاطب جماهيره الألمان بالإذاعة، وبالإذاعة وحدها، ونجح بها في ممارسة نوع من التنويم المغناطيسي، لم يمارسه رجل بعده على الجماهير، بتلك القوة، ولا بذلك السحر، لنجد أنفسنا أمام توظيف واحد من مخترعات العلم، في تطويع الجمهور، وفي توجيه الفرد وهو مسلوب الإرادة! ولم تكن تجربة هتلر فريدة من نوعها، لأن القرن العشرين الذي وظف فيه الزعيم الألماني، الراديو، على نحو ما وظفه، لم يكد يبلغ ثلثه الأخير، حتى كان على موعد مع توظيف آخر لمخترع جديد من مخترعات العلم في قيادة الملايين، على يد خميني!.. لقد كان شريط الكاسيت هو أداته في حشد مؤيديه، وفي نقل مواعظه إليهم، ولم يكن يفعل ذلك لوجه الله، ولا لأجل سواد عيون مؤيديه، ولكن من أجل التأسيس لثورة قسمت المنطقة منذ يومها الأول، قسمين، وأقامت الحاجز بين المسلم، والمسلم، منذ قامت، رغم أن كليهما يعبد رباً واحداً، ويتبع رسولاً واحداً، ويؤمن بكتاب واحد!
مخترعات العلم كالسكين، يمكن أن تهيئ بها طعاماً، أو تقتل بها إنساناً، وما أتعس العالم إذا ما تلقف هتلر مخترعاً منها في يده، أو تلقفه خميني!.. ما أتعسه!.. وما أسعده لو جاء حظ اختراعات العلم فيه، على نحو ما جاء حظها مع مارتن لوثر قبل خمسة قرون!