أوراق سياسية أمضى من القوة العسكرية

استكمالاً لموضوع إدارة الأزمات الدولية، حيث تواجهنا مشكلة تحوّل المفوضية الأوروبية (ولنفرق بينها وبين بلدان الاتحاد الأوروبي، حيث غالبية الناخبين في أكثرها تتعاطف معنا في بريطانيا) إلى خصم يريد، في عبارات قيادته الأوتوقراطية الآيديولوجية «معاقبة» الناخب البريطاني لتجرئه على ممارسة حقه الديمقراطي بترك منظومة تتجه نحو ما يشبه الاتحاد السوفياتي السابق. مفوضية تريد إفزاع ناخبي بلدان أخرى من التصويت لأحزاب ترفع راية الاستقلال عن بروكسل. المفوضية، مثل المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي، غير منتخبة، لن تخسر شيئاً مهما تعنتت في مفاوضات الخروج، ولن تدفع شيئاً من الثمن الاقتصادي للصراع مع بريطانيا؛ لأن الفاتورة النهائية يتحملها دافعو الضرائب البريطانيون وحدهم، (يدفعون أكثر من 50 مليون جنيه يومياً لخزانة المفوضية).
إلى جانب المعارضة الداخلية التي ذكرناها الأسبوع الماضي، فإن حكومة المحافظين بزعامة تيريزا ماي تواجه صحافة حرة مستقلة، بينما الـ«بي بي سي» والشبكات التلفزيونية بجبروتها كلها مع بروكسل ضد الحكومة المنتخبة.
أي أن الصراع يقع بين قوتين غير متكافئتين؛ ولذا تحتاج حكومة السيدة ماي إلى الدهاء السياسي التشرشلي لمواجهة خصوم كانوا شركاء، ثم قلبوا ظهر المجن ووظفوا أساليب الأعداء.
خطاب بروكسل إلى الدول الأعضاء بشأن المفاوضات لا يتضمن تدخلاً غير مقبول في الشؤون الداخلية للمملكة المتحدة، كإثارة قضية حدود آيرلندا الشمالية مع الجنوبية فحسب، بل لجأ إلى صلافة دبلوماسية غير مسبوقة بمحاولة افتعال نزاع حول أرض بريطانية هي جبل طارق. «جبل طارق» وقعت تحت السيادة البريطانية في 1704، واعترف العالم بها تابعة للتاج البريطاني في معاهدة «أوتريخت» الموقّعة بين إسبانيا والبرتغال وبريطانيا وفرنسا وسردينيا وهولندا عام 1713. بروكسل تريد إشراك إسبانيا في مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حول مصير جبل طارق، التي هي جزء من الأمن الاستراتيجي للبحرية الملكية. إسبانيا تطالب بالسيادة على جبل طارق رغم أنها حكمته لـ242 عاماً (من 1462 إلى 1704) مقارنة بـ317 عاماً كان الجبل فيها أرضاً بريطانية، سكانها من رعايا التاج البريطاني. بروكسل تلعب بأوراق غير نظيفة بإقحام الإسبان، الذين يثيرون المتاعب لسنوات طويلة منذ عهد الديكتاتور الراحل فرانكو، ويستفزون الصيادين في مياه جبل طارق؛ بل ويتصيدون الفرصة عندما تضطر الظروف الجوية طائرة إلى الهبوط في مطار مالاغا القريب (ممر مطار جبل طارق قصير، ويصعب هبوط الطائرات فيه أثناء الرياح القوية)، وتشترط على حاملي جوازات السفر من خارج الاتحاد الأوروبي، ومنطقتي التجارة الأوروبية والجمركية، الحصول على فيزا إسبانية؛ مما يسبب عرقلة للسفر وتعطيل الحافلة الناقلة لبقية الركاب.
في لقائها مع رئيس المجلس الأوروبي هذه الأسبوع، أوضحت رئيسة الوزراء ماي رفض مجرد ذكر جبل طارق على أجندة أي محادثات. وكان رئيس المجلس طلب المقابلة ليشتكي من حملة الصحافة وصناع الرأي العام ضد المفوضية الأوروبية.
استفزاز بروكسل للرأي العام البريطاني، الذي كان أحد أهم أسباب التصويت بالخروج، تكرر الأسبوع الماضي؛ فأدى إلى زيادة النعرة الوطنية المعادية لإسبانيا والاتحاد الأوروبي في الصحافة الشعبية، وهي مرآة حقيقية للرأي العام بخلاف شبكات التلفزيون التي لا تعطي مؤشراً دقيقاً لموقف المواطن. فقارئ الصحيفة يدلي بصوته كل صباح بشرائها بصفته (ناخباً إيجابياً)، بينما مشاهد التلفزيون يصله البث مجاناً.
كبار المحافظين من جيل رئيسة الوزراء الحديدية الراحلة الليدي ثاتشر، لوحوا بالعزيمة في حماية شعوب Crown Dependencies توابع التاج، ويضربون المثل بثاتشر عندما وقفت بحسم ضد احتلال الأرجنتين جزر الفوكلاند، وأرسلت قوة عسكرية لاستردادها عام 1982. اللورد مايكل هاورد، زعيم حزب المحافظين الأسبق ووزير الداخلية في حكومة ثاتشر، ذكر لمستمعي الـ«بي بي سي» أنه «هذا الأسبوع منذ 35 عاماً أرسلت سيدة في (داوننغ ستريت) قوة بحرية لحماية شعب تابع للتاج ضد تهديد بلد آخر يتحدث الإسبانية، ولا شك أن السيدة الموجودة اليوم في (داوننغ ستريت) لديها العزيمة نفسها لحماية شعب جبل طارق».
المتحدث باسم «داوننغ ستريت» لم يستنكر أو يرفض موقف اللورد هاورد وتصريحاته التي أثارت امتعاض الصحافة اليسارية بزعامة الـ«بي بي سي» و«الغارديان». «داوننغ ستريت»، أي مكتب رئيسة الوزراء، اكتفى بالتأكيد على أهمية المفاوضات الدبلوماسية، وأن جبل طارق خارج المفاوضات. وكررت رئيسة الوزراء التأكيدات لفابيان ريكاردو، كبير وزراء جبل طارق.
مكتب رئيسة الوزراء لم يرفض تصريحات اللورد هاورد، والسبب طبعاً أن المفاوض الماهر لا يستبعد أي خيار، بما فيها العمل العسكري؛ فلا نفع للقوة العسكرية إذا لم يكن المفاوض مستعداً لتوظيفها. في سؤال العام الماضي في مجلس العموم عما إذا كانت رئيسة الوزراء مستعدة لضغط زر الحرب النووية إذا تعرضت بريطانيا لتهديد نووي، أجابت ماي بكلمة واحدة «نعم».
عملياً، لا مجال للقوة العسكرية؛ إذ لدى بريطانيا أوراق كثيرة اليوم تفوق أسلحة إسبانيا والمفوضية الأوروبية.
ورقة القانون الدولي وحق تقرير المصير، حيث صوت «الجبلطارقيون» بنسبة 96 في المائة للبقاء رعايا التاج البريطاني. والسبب هو الورقة الثانية، وهي الاقتصاد. فمستوى المعيشة في جبل طارق مرتفع ضعفي مستوى معيشة جنوب إسبانيا، التي يعيش فيها كثير من الأثرياء البريطانيون المتقاعدون يخلقون رواجاً ووظائف في إسبانيا، وخروج هؤلاء والمصطافين البريطانيين (كثير منهم يمتلكون دياراً هناك) سيدمر اقتصاد جنوب إسبانيا. كما يعمل يومياً في جبل طارق أكثر من 12 ألف إسباني ينتقلون يومياً إلى الصخرة التي هي مركز مالي كبير يتمتع بإعفاءات ضريبية، وهؤلاء يرعون أسراً، وبالتالي فقدان أعمالهم سيعني كارثة على المنطقة.
أما الورقة الكبيرة، فيمكن لعبها بدعوة زعماء حركة استقلال كتالونيا (تناضل للاستقلال منذ ألغى الديكتاتور الراحل فرانكو الحكم الذاتي فيها عام 1938) إلى عقد اجتماع لعرض قضيتهم على مجلس العموم وعلى الرأي العام البريطانيَين، ودعمهم في أوروبا وفي المحافل الدولية من أجل حقهم في تقرير المصير.
أما إعلان حركة الباسك الانفصالية إلقاء السلاح والتخلي عن العنف وخوض الطريق القانوني، فيعني إمكانية التعامل معها ودعوة ممثليها إلى لندن.
أوراق كثيرة في لعبة بدأتها مفوضية بروكسل، بإقحام أرض بريطانية في الموضوع، وستجد مدريد نفسها الخاسر الأكبر، وغالباً ما ستطلب من بروكسل «تهدئة اللعب»... الطلب الذي توسلت فيه بروكسل إلى رئيسة الوزراء ماي، وغالباً ستستمر الصحافة الشعبية في اللعب الساخن. لعبة دهاء سياسي تتقنها السياسة البريطانية لأكثر من ثلاثة قرون.