من الطرائف الغنائية

مواصلة للحديث عن الأيام الكريسماسية في الغرب وأحاديث المودة بين المسلمين والنصارى في الشرق، كنتُ قد أشرت إلى المشكلة التي أوقع المطرب محمد القبانجي نفسه فيها، عند التغني بالفتيات المسيحيات. لا بد لي أن أتوسع في الموضوع، فأتذكر إحالته للقضاء في هذا الموضوع بالذات. كان مقرئ المقام الشهير في العراق قد غنى هذه الأغنية التي قال فيها:
يا نصارى إش صار بيكم
ما تضيفون اللي يجيكم
لأصعد لعيسى نبيكم
وأسأله يسوي لي «جارة» (حل)
إلى آخر الأغنية التي اعتبرها البعض مسيئة للطائفة المسيحية، وتضمنت بعض الكفر. كان ذلك في العشرينات، أي في أول أيام استقلال العراق والعهد الملكي، وكانت هناك حساسية خاصة بالنسبة للطائفية، وأي تعرض للمكونات الدينية في العراق. قدم نفر من القوم شكوى للادعاء العام، مطالبين بمنع الأغنية ومعاقبة المغني الذي غناها. وبالفعل قبضت الشرطة على مقرئ المقام وأودعته السجن انتظارًا لسوقه إلى المحاكمة.
بادره القاضي باتهامه بالكفر: «يا كافر!»، فأجابه المتهم: «لا خير. أنا لست بكافر بل أنا مسلم، وأعتد بخدمة الإسلام، واسمي محمد على اسم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم». وأشار الادعاء العام إلى كفره بإشارته للصعود إلى السماء لمكالمة النبي عيسى ابن مريم عليه السلام، ومطالبته إياه بالتدخل بشأن هذه الفتاة المسيحية. أجاب محامي الدفاع فقال إن المتهم باعتباره مسلمًا من حقه دخول الجنة... إلى آخر الدفوعات التي قدمها.
وكان للقضية صدى في الأوساط العراقية، وتناقلت أخبارها الصحف. ثم تقدم بعض المسيحيين بمذكرة وقعوا عليها، وأشاروا إلى أنهم كمسيحيين لم يجدوا أي ضير في الأغنية، بل هي تعبر عن روح المودة بين المسلمين والنصارى ووقوع شاب مسلم في حب بريء مع شابة مسيحية.
ولكن حضرة القاضي كان رجلاً متعصبًا، وأوشك على الحكم بمعاقبة المطرب، غير أن الحظ كان في جانبه؛ إذ تغير القاضي أثناء ذلك وتسلم المنصب قاضي محكمة جزاء بغداد الأولى، السيد برهان الدين الكيلاني، الذي كان من عشاق فن المقام العراقي، فمال إلى جانب المتهم وسمح بالاستماع لعدد من الشهود النصارى، ومن ضمنهم أحد قساوسة الكنيسة الذين أكدوا عدم اعتراضهم قط على ما جاء في الأغنية، واعتبروها دليلاً على تبادل الود والمحبة بين الطوائف.
أصدر القاضي حكمه في الأخير في صالح المتهم، وأطلق سراحه في الحال. ولكنه عقد العزم على عدم إلقاء هذه الأغنية بعد ما جرى بصددها. امتنع محمد القبانجي عن غنائها أو تسجيلها في أسطوانة. غير أن كلمات الأغنية وألحانها شاعت بين الشعب العراقي، فراح الناس يغنونها في المجالس، وشاع ذكرها بين العراقيين، وانتشرت حتى منطقة الخليج.