د. نجم كاظم: التحولات السياسية أنتجت طفرة روائية في العراق

الناقد العراقي عمل على رصد وتوثيق الرواية العراقية في مائة عام

د. نجم كاظم - غلاف فهرس
د. نجم كاظم - غلاف فهرس
TT

د. نجم كاظم: التحولات السياسية أنتجت طفرة روائية في العراق

د. نجم كاظم - غلاف فهرس
د. نجم كاظم - غلاف فهرس

مع سقوط بغداد تحت الاحتلال الأميركي - الغربي في أبريل (نيسان) 2003، اكتشف الناقد والأكاديمي العراقي الدكتور نجم عبد الله كاظم، معنى مختلفًا لـ«الآخر»، الذي ظلّ يدرسه باعتبار وجوده ضروريًا للوجود الإنساني برمته «من يعطيك ويزيدك ويضيف إليك، ومن يُريك نفسك هو الآخر، بل الذي يُمتعك هو الآخر»، هكذا يقول، لكن بعد الغزو أصبح مهتمًا أكثر بدراسة الآخر وصوره علميًا وأكاديميًا ونقديًا، وذلك في الأدب، وبشكل خاص في الرواية. وتمخض مشروعه في دراسة الآخر في الأدب عن أربعة مؤلفات وبضع أوراق بحثية والعشرات من المقالات والدراسات الأخرى، التي تصب في هذا الموضوع، من بين كتبه: «نحن والآخر في الرواية العربية المعاصرة»، و«الآخر في الشعر العربي الحديث».
مشروعه الآخر، كان العمل على رصد وتوثيق الرواية العراقية في مائة عام، عبر مؤلفه «فهرست الرواية العراقية 1919 - 2014» ضمن مشروع غير مكتمل لـ«الرواية العراقية في مائة عام 1919 - 2019».

> درستَ موضوع «الآخر» في الأدب والشعر، وحصلتْ بعضُ دراساتكَ عن هذا الموضوع على جوائز عربية.. ماذا يعني لك «الآخر»؟
- بعيدًا عن تمثّله في الأدب والإبداع، يمثّل «الآخر» لي مكمِّلاً، بل أشعر بأن ليس من وجود إنساني حقيقي لي دونه، ولهذا تراني أريد الآخر دومًا، فأكون قريبًا منه بكل أنواعه؛ الآخر طائفيًا أو دينيًا أو قوميًا أو سياسيًا أو جنسًا. بل إني لأستغرب أنْ أجد الكثيرين لا يتقبلون إلا المشابه لهم، ولا أفهم لماذا يكتفون به بينما من يعطيك ويزيدك ويضيف إليك، ومن يُريك نفسك هو الآخر، بل الذي يُمتعك هو الآخر. ولكن لأعترف بأنّ هناك نوعًا من الحيرة في الموقف الذي يجب أن نتخذه من الآخر أحيانًا، وهي عندي نشأت من رؤيتي لاحتلال الآخر - الأميركي وإلى حد ما الأوروبي - لبغداد، ورؤيتي لها في أعقاب عودتي إليها بعد غربة سبع سنوات، محتلّةً منه، ورؤية قسوته وهمجيته، مع تواصل حضور هذا الآخر - عينه تقريبًا، أعني الأوروبي والأميركي - في ذاكرتي بشكل أصدقاء وأحبة عشت وإياهم في بلدانهم وخبِرت تحضرهم ورقيّهم، بل تعلّمت منهم وتطورت بهم.
> لكن هذه الحيرة كانت حافزًا..
- نعم، هذه الحيرة إزاء هاتين الصورتين المتناقضتين جعلت دراسة الآخر وصوره موضوعي الأثير الذي أهتم به، ولكن في الأدب، وبشكل خاص في الرواية، أي علميًا وأكاديميًا ونقديًا، محاولاً حل إشكالات هذا التناقض، والإجابة عن أسئلة كثيرة تُثار فيها، وربما، على العكس، إثارة أسئلة أخرى. وهكذا جاءت أربعة من كتبي، وبضع أوراق بحثية والعشرات من المقالات والدراسات الأخرى، تصب في هذا الموضوع.
> وما سمات هذا «الآخر» في الأدب؟
- قد تشتبك مجموعة صور للآخر مع بعضها، وقد تحضر واحدة منها في هذا العمل وتحضر أخرى في عمل آخر. وكل ذلك يعتمد، بظني، على مجموعة عوامل، لعل أهمها اثنان، الأول تجربة الكاتب العملية والحقيقية، وأعني هنا تجربي أنا الشخصية مع الآخر، والثاني الرؤية الثقافية والفكرية وربما السياسية له التي تجعل الفرد باحثًا أو مفكرًا أو دارسًا أو قارئًا أو حتى إنسانًا عاديًا يرى الآخر، ولا سيما الغربي، بهذا الشكل أو ذلك، أو تسهم في صياغة هذه الرؤية وبالتالي رسم صورته.
> ومن أين يستمد وجوده؟
- في الأدب وفي الفن، يستمد وجوده من تجربة الكاتب ومن رؤيته الفكرية، وقد يمكن إضافة عوامل كثيرة تلعب دورًا أو أدوارًا في هذا الوجود وطبيعته، كما تطرقت إلى هذا فعلاً في دراساتي.
> هل تعريف الآخر معتمد على تعريف الذات؟
- بشكل أدق أقول: معرفتك بالآخر تنطلق في بدايتها على معرفتك لنفسك، بتعبير آخر تعتمد معرفة الآخر، في كثير منها، على معرفة الذات، والعكس صحيح، لتعرف نفسك يجب أن تعرف الآخر. وكلامي هنا يخرج عن حدود الآخر الذي أُعنى به، فالآخر هنا كل من هو ليس أنت، على مستوى الشخص والعائلة والملّة أو الشعب والديانة والطائفة.. إلخ.
> على الصعيد الأدبي، كتبتَ «الرواية العربية والآخر»، كيف عالجتْ الرواية العربية هذا الموضوع؟
- الحقيقة أن لدي كتابين: الكتاب الأول، هو الذي تشير إليه، وهو عبارة عن مجموعة دراسات، واحدة منها فقط تُعنى بالآخر حضورًا وصورةً في الرواية العربية وموقف العربي منه وعلاقته به. أما بقية دراسات هذا الكتاب فهي عن الرواية والآخر من حيث علاقتها به وبأدبه والتأثير والتأثّر بينهما، أحدها عن «كافكا» في الرواية العربية. الكتاب الثاني هو «الآخر في الرواية العربية المعاصرة» أحد أسسه الدراسة التي ضمها الكتاب الأول عن الآخر في الرواية العربية، وهو الفائز بجائزة الإبداع العربية التي تمنحها مؤسسة الفكر العربي المعروفة. فضلاً عن دراسات كثيرة عالجت جوانب مختلفة من هذا الموضوع في الرواية العربية، مثل المرأة الغربية في الرواية العربية، ونحن والآخر إلى أين؟ وغيرها، إضافة إلى كتاب خرجت فيه عن الرواية إلى الشعر، وهو «الآخر في الشعر العربي الحديث».
> بعيدًا عن موضوع «الآخر»، لك كتاب «مشكلة الحوار في الرواية العربية»، الذي قد يكون الكتاب الوحيد عربيًا الذي قام على موضوع «الحوار في الرواية العربية». ما هذه المشكلة؟
- الواقع (مشكلات) وليست مشكلة واحدة، وبظني أن الكثير من العرب، كتّابًا وروائيين وقاصين ومؤلفي أفلام ودراما وكتّاب سيناريو ومخرجين وممثلين، يُخفقون في الحوار. ولكي تعي هذا وتتلمسه تلمّس اليد، إن لم تكن منتبهًا إلى هذا أصلاً، يمكنك أن ترجع إلى كثير من الأفلام والأعمال الدرامية العربية، التي لا تكاد تسلم من الضعف في الحوار، ولهذا بدأتُ كتابي، في المقدمة، بأمثلة مضحكة من أفلام عربية، بوصفها جزءًا من مبررات تأليف كتابي، وكنت أتمنى أن أتناول الفيلم والدراما، ولكن لأن تخصصي واهتمامي بالرواية، فقد جاء الكتاب عن هذه المشكلة في الرواية العربية، وهي مشكلة موجودة، على أية حال، فيها. ومن أهم جوانب الضعف والخطأ اللذين يجعلان من القضية مشكلة، التعامل مع العربية من حيث فصحاها وعاميّاتها، وطول الحوار والجملة الحوارية، وتناسب وعدم تناسب الحوار مع الشخصية المتكلمة به، واستخدام الحوار بوصفه تقنية فنية، وغير ذلك.

الرواية العراقية

> لديك دراسات توثيقية وبيلوغرافيا عن الرواية العراقية في 100 عام، ما نتائج هذه الدراسة؟
- نعم، أصبتَ، والعمل المركزي فيها هو «فهرست الرواية العراقية 1919 - 2014» وهو في بعض حقيقته طبعة لمشروع غير مكتمل كما أريده وهو «الرواية العراقية في مائة عام 1919 - 2019» أنوي أن أنشره، إذا أمدّ الله في عمري، سنة 2020، وعليه يكون المنشور حاليًا هو بمثابة «الفهرست غير الكامل للرواية العراقية في مائة عام». أما عن النتائج التي تسألني عنها، فهي كثيرة، لكن النتيجة الأساسية أو الرئيسية أو المركزية فهي بالطبع عدد العناوين التي ضمها، التي زادت على 1200 عنوان رواية عراقية صدرت خلال 95 سنة. ومن النتائج الأخرى ما قدمته في فهارس فرعية، وملاحق. من ذلك مثلاً «فهرست الرواية النسوية في العراق»، وضمّ أكثر من 150 رواية، و«فهرست رواية الفتيان في القرن العشرين» وضم 50 رواية، وملحق «أرقام وإحصاءات».
> كيف تفسر غياب العراقيين عن الرواية سنوات طويلة، هل للأمر علاقة بهيمنة الشعر؟
- عدم توجه العراقيين نحو الرواية هو من عدم توجه العرب عمومًا نحوها إلا بعد ظهورها في العالم بعد أكثر من مائتي سنة، ولهذا أسباب كثيرة قد يكون بعضها حقائق، بينما يبقى بعضها الآخر اجتهادات نظرية، قد نتفق معها وقد لا نتفق، وفي كل الأحوال لا بد أن يكون لذلك علاقة بطبيعة الشخصية العربية من جهة، وتعلّقًا بذلك بطبيعة الثقافة العربية المتوارثة.
> ماذا عن الطفرة الروائية التي شهدها العراق خلال العقدين الأخيرين، هل للأمر علاقة بالتحول السياسي الناجم عن تغير نظام وصعود قوى أخرى؟
- نعم، قد يكون هذا صحيحًا، وقد تكون محقًا في أن لهيمنة الشعر علاقة بتأخر الطفرة التي تشير إليها. البداية الحقيقة للرواية الفنية العراقية التي نستطيع أن نسميها إنجازًا، تعود إلى منتصف الستينات، وجاءت الطفرة في العقدين الأخيرين تقريبًا، ومرة أخرى لأسباب كثيرة منها ما تشير إليه. نعم للتحولات التي شهدها العراق في العقدين أو الثلاثة الأخيرة، سلبيّها وإيجابيّها، دور في ذلك. ولعل بعض مؤشرات هذه الطفرة تعبّر عن ذلك، ومنها: أولاً ازدياد عدد الروايات، فبعد أن كان عدد الروايات التي تصدر كل عام قبل عقدين أو ثلاثة يتراوح ما بين 10 و20 صار العدد في السنوات الأخيرة عادة ما يتعدى الستين، وثانيًا ازدياد عدد الروائيات والروايات النسوية، وثالثًا حصول الروائيين العراقيين على جوائز كثيرة، وغير ذلك.

سيرة ذاتية

> ولد في بلدة بهرز بمحافظة ديالى عام 1951. حصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة بغداد عام 1973، ثم الدبلوم العالي في التربية من الجامعة نفسها. وحصل على شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة إكستر في بريطانيا، عام 1984.
>عمل أستاذًا في جامعات العراق وليبيا والأردن وسلطنة عمان، وأستاذًا زائرًا في بريطانيا. وهو حاليًا أستاذ الأدب المقارن والحديث والنقد، في كلية الآداب بجامعة بغداد.
> حصل على كثير من الجوائز، بينها جائزة خليفة التربوية في الإمارات، لسنة 2015، عن كتاب «رواية الفتيان.. خصوصية الفن والموضوعات». وجائزة الإبداع العربي لمؤسسة الفكر العربي في لبنان، لسنة 2014، عن كتاب «نحن والآخر في الرواية العربية المعاصرة». جائزة يوسف بن أحمد كانو في البحرين لسنة 2009، عن كتاب «الآخر في الشعر العربي الحديث».
ألَّف أكثر من ثلاثين كتابًا، من بينها:
> «الرواية العربية في القرن العشرين» (تحرير واشتراك في التأليف)، الدوحة، 2016.
> أميركا والأميركي في الرواية العربية، بيروت، 2016.
> «فهرست الرواية العراقية 1919 - 2014»، بغداد، 2015.
> رواية «الفتيان.. خصوصية الفن والموضوعات»، بيروت، 2014.
> «نحن والآخر في الرواية العربية المعاصرة»، بيروت، 2013.
> «أيقونات الوهم.. الناقد العربي وإشكاليات النقد الحديث»، عمّان، 2011.
> «الآخر في الشعر العربي الحديث.. تمثُّل وتوظيف وتأثير»، بيروت، 2010.



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.