هوامش الأسفار ولطائف الأخبار: «قرطبة خلف النخيل»

بعض الأماكن تشعر وكأنك تعرفها منذ زمن بعيد. تقرأ عنها في جميع الكتب وكل المراحل، وتسمع عنها من الأصدقاء الذين سبقوك إلى هناك. ولا شك أن بعضهم يبالغ قليلاً في وصف ما رأى لكي يعطي مشاهداته شيئًا من المعاني الإضافية. فكل سائح، أو زائر، يتحول إلى شاعر وهو يحدثك عن الذكريات. وما إن تصل إلى قرطبة وتبدأ في تنشق عطرها التاريخي ومعجزاتها الهندسية وعَبَقِها الأندلسي حتى تقول في نفسك، أين هم أولئك الرواة من حقيقة هذه المجيدة الكبرى التي شهدت مرة، على قيام الأندلس، ومرة على زوال ذلك البهاء النادر الذي امتد ثمانية قرون من الجمال والعمار والشعر والفرادة.
لحقتني إلى مدريد وسبقتني إلى هنا قصائد نزار قباني عن الشَعر الفاحم وعيون المها العربية السوداء التي تزيّن عالم الرجل الإسباني، الجامح نحو الحروب والمغامرات والذهب والخسارة. وكما أن للعرب نكسات وهزائم حفرت في نفوسهم غابات اليأس، فإن الإسباني له هزائم حفرت في نفسه إلى الأبد. ولعل «نكبته الكبرى» كانت أواخر القرن التاسع عشر عندما هزمت الولايات المتحدة الإسبانيين في كوبا، ودمرت أسطولهم عام 1898، فعادوا إلى الأرض الأم مهزومين، مُتعبين، مُخلّفين وراءهم المستعمرات التي امتدت على طول القارة الجنوبية وعرضها.
غير أن عبقرية الإسبان كانت في أنهم حوّلوا الانتصارات والهزائم إلى تاريخ ملوّن مثل قوس قزح. فهم ينسبون اليوم الأندلس إلى تاريخهم، لا إلى حروبهم. ويضمون آدابه وتراثه وعلومه إلى تراثهم باعتبار أن الأرض نفسها لم تخرج عن ديارهم، وإن كانت قد تتالت عليها الأحكام. وكيف ينسى الإسبان ما حمله إليهم العرب من قنوات المياه ووسائل الريّ، والقطن، والأرز، والسكر، والياسمين، وأشجار المشمش، والإجاص، والبرتقال، وهذا النخيل الذي يبدو أمامك الآن مثل تيجان مشرفة على المدينة الخالدة. لقد حملوا علومهم وفنونهم معهم، لكنهم لم يأخذوها عندما تهاوت ممالكهم الجميلة وعادوا نحو الشرق. بل تركوا في قرطبة أكبر مكتبات الحقبة وفيها 400.000 من الترجمات والعلوم. وبينها آثار قاضي قرطبة الكبير ابن رشد، الدكتور في القانون وفي الطب وفي الفلسفة وفي الفلك وفي آثار أرسطو. ولقد بقي المسجد الكبير واقفًا على 850 من الأعمدة الرخامية الجميلة، يتحدث بنفسه عن عظمة ما جرى وقول الخليفة المعتصم لشاعره «عندما أسمعك تُنشد، أرى حدود مملكتي تتسع أمامي». هنا أقام العرب أجمل الحدائق والجنائن، ثم رأوها أمام أعيُنهم يضربها اليباس وتجفّ ينابيعها العظيمة، وتَقل أنهرها الكبيرة، ويزول مجدها مثل زَبَد البحار كما قال الشاعر فريد الدين العطار.
لا يمكنك أن تدخل قرطبة من دون أن تتذكر شعر نزار، ولا قصيدة شاعر الأندلس الكبير غارسيا لوركا في هذه المدينة العربية: «قرطبة - بعيدة ووحيدة - حصن أسود، قمر بدر، وحبّات زيتون في سرجي، ومع أنني أعرف الطرقات، فلن أصل أبدا إلى قرطبة - فوق السهول، وعبر الريح، حصان أسود صغير وقمر أحمر - الموت يحدّق بي من أبراج قرطبة - آه يا حصاني الشجاع - آه - لكن الموت ينتظرني قبل الوصول إلى قرطبة - قرطبة بعيدة ووحيدة».
طالما تساءلت عبر السنين، وقد كتبت ذلك في «المستقبل» قبل نحو ثلث قرن: ترى لو لم يكن لوركا شاعر الأندلس، هل يكون شاعر إسبانيا؟ ومن صنع الآخر، عبق الأندلس أم شاعرية هذا البائس الذي قتله جلاّدها فرانكو؟ الجواب ليس مهمًا كثيرًا. لقد بقي لنا في كل الحالات عبير الأندلس وغنائيات لوركا إلى مجده الضائع.
إلى اللقاء..