وشم عاطفيّ

أول ما أتذكره من عهدي بالكتب رائحة أحبار الطباعة في مطبعة والدي بمنطقة «الحلبوني» في وسط دمشق، ثم ما كنا نتلوه في المدرسة الابتدائية من قصار سور القرآن المعروفة باسم «جزء عم»، وكتب التراث الشعبي في مكتبة جدي.
رائحة الكتب الأخاذة تلوّثت برائحة الفظاظة مع قيام النظام في طفولتنا السورية المنكوبة بـ«علفنا» قصائد شاعر الطفولة البعثية سليمان العيسى في كتب «القراءة والتعبير» وحشو أدمغتنا الصغيرة بصور حافظ الأسد الإجبارية على الكتب ودفاتر الدراسة.
ما لبثت ذائقتي أن عافت كتب المدرسة الجافة لأكتشف، في مطلع صباي «زهرة الكاميليا» و«الفرسان الثلاثة» و«الكونت دي مونت كريستو»، وكتب الخوارق الشعبية كعنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن وسيرة الظاهر بيبرس. إلى هذا الباب المفتوح على الخيال انضاف فجأة الكتاب البديع «ألف ليلة وليلة» الذي كلّفتني قراءته ارتكاب عدد من «الموبقات»، فما إن اكتشف جدّي انغماسي في كتاب البالغين - جنسيا على الأقل - هذا حتى أعلن حالة طوارئ وتحقيق ليعرف من باعني إياه. وكي لا أخون بائع الكتب الذي وثق بي وباعني الكتاب الفريد «اعترفت» على بائع كتب آخر، فكان أن نال ضربا من ابن خالتي دون أن يعرف سبب جريمته.
بعد ذلك كان للمراهق في داخلي أن يلوب بما يشبه الحمّى عن أسئلة الطبيعة والعلم والجنس والسياسة والتاريخ، فصارت المكتبة الظاهرية قرب الجامع الأموي بدمشق وطني الجديد، وصرت أتنقّل بين عجائب العناوين: كتب عن الفيزياء والفلك.. والرياضيات (أتذكر منه تعريفا جميلا لها بأنها العلم الذي يستطيع أن يثبت أن القمر مصنوع من جبنة خضراء). كتب جورجي زيدان وألكسندر دوما. ويل ديورانت والأصفهاني. غولدتسيهر، وكاواباتا، وألبرتو مورافيا. الأصمعي وحماسة أبو تمام. الفرزدق ولوتريامون. كتب أخاذة قادمة من كل العصور والبلدان.
اكتشافاتي اللاحقة تأثرت بالذوق الثقافي والسياسي السائد بداية السبعينات من القرن الفائت، فقرأت «البيان الشيوعي» وسألت عمّي صاحب مصنع المنسوجات القطنية أسئلة ساذجة، كأنني أمتحنه، عن البرجوازية الصغيرة والإضرابات. ثم انهمر غوركي وشولوخوف وايتماتوف وحمزاتوف ونيرودا ولوركا.. إلخ.
ما لبث عشق الأدب والشعر أن أخرجني سريعا من الدائرة الضيقة للماركسيين إلى هوغو وشتاينبك وسارتر وكامو والأدب العربي: نزار قباني، وحنّا مينا، وزكريا تامر، وعبد السلام العجيلي ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبديع حقي.
فورة الشباب ما لبثت أن أخلت الطريق لقراءات أكثر اصطفاء، فغرقت في ترجمات جورج طرابيشي لسيغموند فرويد التي زلزلتني من الداخل، وكذا تطبيقاته الجميلة للتحليل النفسي في النقد الأدبي، وترافق ذلك مع قراءتي لميرسيا إلياد، وكتبه عن تاريخ الأديان و«المقدس والمدنس»، مما سمح لي بالخروج التدريجي من إسار الآيديولوجيات وفهم طابعها الديني العميق والاتصال العجيب بين كل العلوم، الدينية والدنيوية.
لم تكف الكتب، حتى الآن، عن إدهاشي، لكن بعضها حفر عميقا في منجم داخلي: كتاب كازانتزاكي العجيب «زوربا»، اندفاعات ماركيز في «الحب في زمن الكوليرا» و«مائة عام من العزلة»، وآفاق سيلين في «آخر الليل» وشاعرية هيمنغواي «عبر النهر وبين الاشجار»، وأشعار درويش وكافافيس وريتسوس ونيرودا.
في بريطانيا، موطني منذ عشرين عاما، صارت روايات أدب الجريمة هوايتي الأثيرة، وكان أجمل ما قرأت خلالها ثلاثية الروائي السويدي ستيغ لارسون «الفتاة ذات وشم التنّين» التي فضح فيها العلاقة الخفية بين الفاشيّة وأجهزة المخابرات والانتهاك الجنسي للنساء.

* مدير تحرير مجلة {اوراق السورية}