حيث للمرأة أن تقول «لا»!

كثيرًا ما لاحظت في الأدبيات والسنن الإنجليزية عبر التاريخ أن الإنجليز يعطون مكانة متميزة للمرأة، ويؤكدون على مساواتها بالرجل، بخلاف الحال في بقية الشعوب الأوروبية وسواها. نستطيع أن نلمس ذلك حتى في اللغة، فالكثير من قواعد النحو عندهم لا تميز بين الذكر والأنثى، وبين الرجال والنساء. ومفردات الكلام تنطبق على كليهما. أما الآداب الاجتماعية فتعطي المكانة الأولى للمرأة. فلما حصل نقص في الموز خلال الحرب أصبح من العيب على الرجل أن يمد يده ويأخذ موزة حتى تأخذ النساء نصيبهن. والطريف أن هذا الإيتيكيت بقي ساريًا حتى الآن. وتراهم يؤنبون الولد إذا أكل موزة قبل أخته! ومما يعيروننا عليه أننا نمشي وندخل ونجلس ونخرج قبل نسائنا.
يعكس تاريخهم طبعًا هذا المزاج، فهم أول من أعطى المرأة حق الانتخاب، وجل ما يعتزون به في تاريخهم جرى على أيدي نسائهم: الملكة بوديشيا التي قادت شعبها ضد الرومان، والملكة إليزابيث الأولى التي دحرت الأسطول الإسباني ومهدت الطريق لبناء الإمبراطورية وسيادة البحار، والملكة فيكتوريا التي أكملت بناء الإمبراطورية.
تذكرت كل ذلك عبر برنامج الـ«بي بي سي» الرابع عن الحروب الصليبية، وهو ما أشرت له في مقالتي السابقة. وصل القتال بين المسلمين بقيادة صلاح الدين والصليبيين بقيادة الملك ريتشارد قلب الأسد إلى طريق مسدود. لا أحد من الطرفين يجرؤ على خوض معركة جديدة تحسم مصير القدس. أمام هذا الانسداد فكر الملك ريتشارد في حل على طريقة القرون الوسطى، وذلك بالتصاهر، أي بالزواج الدبلوماسي. اقترح على صلاح الدين أن يتزوج أخوه الملك العادل بشقيقة ملك إنجلترا، ريتشارد قلب الأسد، وتقسم فلسطين بين الطرفين؛ منطقة القدس تبقى بيد السلطان الأيوبي، ومنطقة الساحل تعطى لشقيقة ملك إنجلترا التي تصبح زوجة للملك العادل، شقيق السلطان. استلطف صلاح الدين الفكرة، فهي تعني عمليًا بقاء فلسطين بيد الأيوبيين، الداخل بيد صلاح الدين والساحل بيد أخيه الملك العادل.
جرت مراسلات طويلة في الموضوع تحتفظ مكتبة المسجد الأقصى بنصوصها. كل شيء بديع ورائع حتى دخلت حواء في الساحة ولخبطت اللعبة! قالت الأميرة: «كلا! لا أرغب أن أكون زوجة لهذا المسلم الكردي»!
ويجرني جوابها إلى ما بدأت به أولاً. ففي سائر الأحوال الأخرى كان بإمكان هذا الملك الجبار، قلب الأسد، إمبراطور إنجلترا وفرنسا، أن يقول لها: «اسمعي يا حرمة! هذا زواج عملي يحل المشكلة ويصون دماء ألوف الرجال وينهي النزاع. يصبح الإنجليز فيه أخوال المسلمين. تتزوجين أم أكسر رأسك؟!».
هذا ما نتوقعه لولا أن العروس ذاتها كانت إنجليزية وقالت «No»، وكانت كلمتها أقوى من كل سيوف ودروع أخيها قلب الأسد، فلم يجرؤ على تحديها!
ومن جانبنا نطرح هذه الفرضية. ماذا لو أنها قالت نعم وعرس بها الملك العادل وأنجبت له دزينة من الأولاد، أخوالهم نصارى إنجليز وأعمامهم مسلمون أكراد ويحكمون فلسطين؟! وأترك لكل قارئ خياله وحسابه وأنتظر.