هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)
زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)
TT

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)
زوار في ساحة آزادي (الحرية) عشية احتفالات «نوروز، في طهران مارس الماضي (إ.ب.أ)

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ. ومن ثمّ، ليس كلّ الناس على استعدادٍ لقبول تطفّل الآخرين، ولو أتى هذا التطفّل في صورة المسعى الصادق الرامي إلى اكتشاف الغنى المرصود في قدس الأقداس، أي في أعماق الذات المحصَّنة بأسوارٍ شتّى من الحماية الشرعيّة.
ومع ذلك، لا نستطيع أن نهرب من ضرورات التعبير عن ذاتيّتنا أمام الآخرين، لا سيّما في مجتمعاتنا المعاصرة التي أضحت تتميّز بالتعدّديّة الشاملة، سواء في الأعراق والمنابت أو في المذاهب والتيّارات أو في الأديان والطوائف. يتجاور الناسُ المختلفون في جميع حقول الحياة الاجتماعيّة في مدن التلاقي المسكونيّ كباريس ولندن ونيويورك وساوباولو ونيودلهي وشنغهاي وموسكو وأبيدجان والرياض ودبي والقاهرة وبيروت. الشعور الأوّل الذي ينتابني حين يلاقيني الآخر المختلف أنّه يروم أن يستقرئ العلامات التي تُنبئه بما تنطوي عليه هويّتي الذاتيّة. بيد أنّني، حين أباشر الإفصاح، أحسّ أنّ بعضاً من التردّد يصيبني ويصيبه. يُربكني التردّد، إذ يبدو لي أنّ ما يمكنني أن أقوله ليس كلّه قابلاً الإبلاغَ الواضحَ والاقتبالَ الهنيّ. يُربكه التردّد، إذ إنّه لا يرغب في الإصغاء إلى حقائقَ تخالف مخالفةً فجّةً صارخةً فاضحةً ما استوى عليه كيانُه الذاتيّ من قوامٍ فكريٍّ ومضمونٍ اقتناعيٍّ مكتمل العدّة.
أقول هذا كلّه لأبيّن للقارئ أنّ الإنسان، على وجه العموم، لا يستحسن أن تتحوّل حقيقتُه أو الحقائق التي يعتصم بها إلى مسألةِ أخذٍ وردٍّ. أصلُ هذا الامتناع تصويرُ الحقيقة الذاتيّة في صورة الهيكل المقدّس الذي لا يجوز على الإطلاق مسُّه أو تدنيسُه. والحال أنّ مَن ينظر في حقائق الإنسان يتبيّن له أنّها كلّها، أو على الأقلّ معظمها، آتيةٌ من تقاليد وأعرافٍ وعاداتٍ وطرائق تفكير ومناهج تصرّف انقلبت على توالي الأيّام إلى كتلةٍ اقتناعيّةٍ صلبةٍ، من بعد أن كانت مسألةَ استحسانٍ واستئناسٍ واختيارٍ حرٍّ. أفيَحقّ للإنسان أن يكبّل ذاتَه بأفكارٍ كانت في أصلها سبُلاً حرّةً من التعبير عن اختباراتٍ استحسنها بعضُ الناس وأعرض عنها بعضُهم الآخر؟
إذا أردنا أن نغوص على معاني هذه الحقيقة، كان لا بدّ لنا من أن نستجلي مسارها التكوّنيّ التاريخيّ الذي أصابها منذ نواة النشأة الأولى. هذا مبحثٌ خطيرٌ يستهوي العقل المتّقد. ولكن هناك سبيلٌ آخر يفي بالغرض المقصود، عنيتُ به تفصيل أنواع الحقائق التي يؤيّدها الناسُ. أعتقد أنّ معظم العارفين يُجمعون على القول بأربع حقائق أو أربع دوائر من الحقائق الأساسيّة: دائرة الحقائق العلميّة، ودائرة الحقائق الأخلاقيّة، ودائرة الحقائق الجماليّة، ودائرة الحقائق الاعتقاديّة. واضحٌ أنّ مثل هذا التمييز يفترض أنّ العقل الذي يعتمده قد سبق فانفتح انفتاحاً سليماً على وعود الحداثة الفكريّة. ذلك أنّ العقل الحديث، منذ الفيلسوف الفرنسيّ دِكارت (1596-1650)، ما برح يعتمد معايير الفصل والجمع بحسب مقولات التطلّب البحثيّ العلميّ الموضوعيّ. إذا كان عقلُنا ما فتئ مقيّداً بسلاسل التصوّرات الشموليّة الجامدة القديمة، فإنّه يعجز عن إدراك أسباب هذا التمييز.
لنبدأ بالدائرة الأولى. لا يختلف اثنان في اعتماد الحقيقة العلميّة مرجعاً في وصف الظواهر والوقائع والأحداث التي تُفرج عنها الطبيعة الخارجيّة والطبيعة البيولوجيّة. يعلم الجميع أنّ حقائق العلم تنهض على فرضيّاتٍ مستترةٍ لا يفطن إليها الإنسانُ من الوهلة الأولى. يدعو الفلاسفة هذه الفرضيّات بالنماذج المعرفيّة الناظمة (باراديغم). لكلّ حقبة معرفيّة نموذجُها المهيمن. يجوز لنا أن نناقش هذه الفرضيّة، ولكن لا يجوز لنا أن نناقش ما أفرجت عنه من معادلاتٍ جعلت حياتنا العمليّة، في زمنٍ من الأزمنة، تستوي على هيئةٍ نافعةٍ في العلوم الرياضيّة والفيزيائيّة والبيولوجيّة والصحّيّة والمختبريّة والاقتصاديّة، وما إلى ذلك.
تنفرد الدائرة الثانية باشتمالها على المفاهيم والمقولات التي يستقيم بها الوجود الإنسانيّ برمّته. ذلك أنّ الأخلاق مرآة الحضارة الإنسانيّة، إذا فسدت فسدت الأرض، وإذا ارتقت نَضجت مسالكُ الناس وتصرّفاتهم وأفعالهم. لا يخفى على أحد أنّ الناس، بعد أن بلغوا مرتبةً متقدّمةً من الرقيّ الأخلاقيّ، أعرضوا عن ممارساتٍ وحشيّةٍ كانوا يرتاحون إليها في العصر الحجريّ، من مثل أكل لحوم البشر وتقدمة القرابين البشريّة على مذابح الشعوذات والخرافات. أعرف أنّ الأنظمة السياسيّة المؤدلَجة في القرن الحادي والعشرين تأكل لحومنا بطريقة مختلفة. ولكن ما يعنيني أنّ العقل الحديث لم يعد يسوّغ نظريّاً مثل الممارسات الوحشيّة هذه، لا سيّما في الشرعات الأخلاقيّة العظميات، كشرعة حقوق الإنسان الكونيّة. هل يمكننا، والحال هذه، أن نناقش حقائق الأخلاق؟ يبدو لي أنّ مجال المباحثة الوحيد الممكن يشتمل على التطبيقات، لا على النظريّات. معنى ذلك أنّ كلّ المجتمعات الراهنة تؤيّد الحقائق الأنتروبولوجيّة التي تنطوي عليها قيَم الكرامة والحرّيّة والمساواة والعدالة والأخوّة وسواها من المثُل العليا. غير أنّنا نختلف في تطبيقها تطبيقاً عمليّاً في سياق تراثاتنا المحلّيّة.
أمّا الدائرة الثالثة، فينشط فيها النقاش على جميع المستويات النظريّة والعمليّة. ذلك بأنّ الجماليّات خاضعةٌ للنظر الاستنسابيّ في أصولها النظريّة وتطبيقاتها العمليّة. غير أنّ ما يريح الناس في هذه الدائرة ينشأ من براءتها الاستراتيجيّة. أعني بذلك أنّ الاختلاف في الجماليّات لا يُفضي إلى الاحتراب. ولكنّه أيضاً لا يُنشئ اجتماعاً صلباً، إذ نادراً ما يلتئم الناسُ حول نظريّةٍ جماليّةٍ. يتناقش الناسُ بيُسرٍ في موسيقى موتسارت وبيتهوفن، ولا يفعلون ذلك في عقائد أديانهم. ذلك لأنّ الحقائق الجماليّة تذوّقيّةٌ لا تؤثّر في مسلك الإنسان ومصيره، في حين أنّ حقائق الغيب تؤثّر في وجود الإنسان برمّته، ولو أنّ طابعها التذوّقيّ مرتبطٌ بالاختبارات الإيمانيّة الصوفيّة الجوّانيّة.
أصِل إلى الدائرة الرابعة، وهي الأخطر على الإطلاق، إذ إنّ الحقائق الاعتقاديّة تقوم مقام النفس الجوهريّة التي تحيي الكائن الإنسانيّ في أعمق أعماق وجدانه. ولكنّها أيضاً حقائق الاشتباك الكونيّ الأعظم لما تنطوي عليه من شحنٍ انفعاليٍّ وطاقةٍ استنهاضيّةٍ غالباً ما تنفجر عنفاً واقتتالاً. كيف يمكننا، والحال هذه، أن نخفّف من غلواء الحقائق الوجدانيّة هذه حتّى تقوم مقامَها الصحيح من غير تجاوزٍ أو استعلاء؟ يدرك الجميع أنّ الإنسان، بسببٍ من بنية وعيه، يحتاج إلى اختبارٍ في التعالي يخرج به إلى آفاق اللامحدود، بحيث تتنوّع مستويات الاعتقاد. قد يختلف الناس في تعيين هويّة هذا اللامحدود، غير أنّهم يتوقون إليه على مناهج متباينة ومراتب شتّى.
ما يهمّني في هذه المسألة أنّ حقائق الاعتقاد الغيبيّ على وجه الحصر تتملّك وعيَ الإنسان تملّكاً يجعله عاجزاً عن الانفلات منها حتّى في سبيل الاستيضاح. لذلك تصعب المباحثة في طبيعة هذه الحقائق وجدارتها وصوابها وملاءمتها وصلاحيتها وخصوبتها الأخلاقيّة، لا على المستوى النظريّ ولا على المستوى العمليّ. البرهان على ذلك أنّ الأنظومات الدِّينيّة المبنيّة على الاعتقاد الغيبيّ لم تتغيّر تغيّراً جوهريّاً منذ نشأتها حتّى اليوم. جرت بعضُ التحسينات اللغويّة في تحديث التعبير عن العقائد. يدلّنا الثبات التاريخيّ هذا على أنّ الناس المؤمنين لم يناقشوا مناقشةً جذريّةً في حقائق معتقداتهم الدِّينيّة. جلُّ ما فعلوه أنّهم، في أفضل الأحوال، استوضح بعضُهم بعضاً المسائلَ الشائكة في علم اللاهوت اليهوديّ، وعلم اللاهوت المسيحيّ، وعلم الكلام الإسلاميّ، والروحيّات الآسيويّة على اختلافها، وسائر الشعائريّات الأفريقيّة والأمِيركيّة الجنوبيّة، وما سواها. النقاش الدِّينيّ الحقّ جرى خارج الأنظومة الدِّينيّة. أعتقد أنّ أضمن السبُل التي تهب الإنسانيّة فرَص التسالم الكونيّ أن يَعمد أهل الدائرة الرابعة إلى الاحترام العقائديّ المتبادل، شرطَ ألّا تتضمّن عقائدُهم انتهاكاً فاضحاً أو مخالفةً صريحةً للمبادئ الأساسيّة التي تنهض عليها شرعة حقوق الإنسان الكونيّة.
وعليه، أعتقد أنّ الإنسان يسلك مسلكاً مختلفاً كلّما تغيّر مستوى الكلام على الحقيقة: في الحقيقة العلميّة لا جدال على الإطلاق؛ في الحقيقة الأخلاقيّة مناقشةٌ تقويميّةٌ مفتوحةٌ على مستوى التطبيق؛ في الحقيقة الفنّيّة استئناسٌ ووصالٌ حرٌّ وتقابسٌ استنسابيٌّ، في الحقيقة الاعتقاديّة احترامٌ متبادلٌ تحت رعاية الشرعة الحقوقيّة الكونيّة. أمّا شروط الحوار، فصالحةٌ في جميع الدوائر. في كتاب «الحقيقة والتسويغ» (Wahrheit und Rechtfertigung)، يشترط الفيلسوف الألمانيّ يُرغن هابرماس (1929-....) في الحوار الموضوعيّ المنصف أن يكون علنيّاً، مفتوحاً، شاملاً جميعَ الأطراف المعنيّة من غير استثناء؛ وأن يمنح المتحاورين الحقوق الفرديّة عينها والفرَص التواصليّة نفسها من أجل التعبير الحرّ عن الرأي؛ وأن ينشط بمعزل عن أيّ ضربٍ من ضروب العنف الصريح أو الضمنيّ، فلا يخضع إلّا لقوّة الدليل الأفضل الناعمة؛ وأن يستند إلى خلفيّةٍ أخلاقيّةٍ تتّصف بالنزاهة والصدق والإعراض عن كلّ ألوان التقيّة والمواربة والخداع.
يبقى أن ننظر في طبيعة الحقيقة التي يرتاح إليها الناسُ خارج الدائرة العلميّة. أعتقد أنّه من الجائز أن نطلق عليها عبارة الحقيقة الوجوديّة. يذهب الفيلسوف الفرنسيّ بول ريكور (1913-2005) إلى أنّ الحقيقة الوجوديّة، في جوهرها، بلاغيّةٌ، مجازيّةٌ استعاريّةٌ، فِساريّةٌ تأويليّةٌ. أمّا السبب الذي يسوّغ مثل هذا التعريف، فيعثر عليه في القول إنّ هذه الحقيقة لا يمكن أن تتحوّل إلى قضيّةٍ منطقيّةٍ تصيب الموضوع إصابةً علميّةً قاتلةً، على غرار الحقيقة العلميّة. الحقيقة الوجوديّة تستند إلى الإبداع الدلاليّ الذي يستثمر كنوز المعنى، مُستخرجاً من اللغة الصوَر البيانيّة الجديدة التي تناسب اندفاق الحياة وجيشان الوجدان. ومن ثمّ، لا يكتفي الإبداع الدلاليّ بوصف الواقع الحياتيّ وصفاً مختلفاً، بل يَعمد بالأحرى إلى التعبير عن حالٍ جديدةٍ تَنهض عليها الأمور من غير أن تُدركها المعاينةُ الحسّيّةُ المباشرةُ. ذلك أنّ أسلوب الاستعارة الناشط في مثل هذا الإبداع إنّما يكتشف ما يُبدعه ويجد ما يبتكره، على حدّ قول ريكور. ليس إبداع المعنى في الحقيقة الوجوديّة خلقاً من عدمٍ، وليس العثور على المعنى تكراراً في جمودٍ. خلاصة القول إنّ الحقيقة الوجوديّة تستند إلى الإبداع الدلاليّ في أسلوب الاستعارة الحيّة، وإنّ هذا الإبداع يصوّر الواقع في هيئاتٍ جديدةٍ لم نألفها، ولكن من غير أن يفرض عليه ما لا يطيق احتمالَه. ومن ثمّ، تتجلّى الحقيقة الوجوديّة في الوقت عينه أمينةً على الواقع المفتوح الملهِم، وعصيّةً على الواقع المغلق المفقِر. شرط الشروط في تجديد الخطاب الدِّينيّ أن يعامل الإنسانُ حقائقَه الاعتقاديّة معاملتَه الحقيقةَ الوجوديّةَ هذه.
- مفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

أي حرب بين إسرائيل و«حزب الله» أشد من «طوفان الأقصى»

TT

أي حرب بين إسرائيل و«حزب الله» أشد من «طوفان الأقصى»

مستشفى ميداني إسرائيلي تم تجهيزه في مرآب للسيارات في الطابق الثالث تحت الأرض في مدينة حيفا تحسباً لحرب مع "حزب الله" (غيتي)
مستشفى ميداني إسرائيلي تم تجهيزه في مرآب للسيارات في الطابق الثالث تحت الأرض في مدينة حيفا تحسباً لحرب مع "حزب الله" (غيتي)

في الحروب يحرص عادة كل طرف على نصب الكمائن للطرف الآخر. أما اليوم، في الحرب الدائرة بين إسرائيل و«حزب الله»، فيبدو أن كل طرف يوقع نفسه في الكمائن. فعلى رغم أن كلا الطرفين يؤكد أنه غير معني بتوسيع نطاق الحرب، فإنهما يندفعان بشكل جارف إلى توسعتها. وعلى الجانب الإسرائيلي، تجري تدريبات حربية متواصلة على كيفية توسيعها، في حين تشير الاستطلاعات إلى أن الجمهور يؤيد هذه التوسعة. قبل شهرين فقط كان 64 في المائة من المستطلعين الإسرائيليين يؤيدون حرباً مع «حزب الله» حتى لو كان الثمن حرباً إقليمية واسعة. وفي الشهر الأخير هبطت هذه النسبة إلى 46 في المائة وهي لا تزال نسبة مرتفعة إلى حد بعيد. هذا التأييد أفزع القيادات العسكرية في تل أبيب، وجعلها تشعر بأن الجمهور لا يدرك تماماً ما قد تعنيه هذه الحرب.

أيال حولتا، المستشار الأسبق للأمن القومي في الحكومة الإسرائيلية، يقول إن حرباً كهذه ستؤدي إلى تدمير مناطق شاسعة من لبنان، ولكنها أيضاً ستلحق أضراراً كبيرة في إسرائيل، وقد توقع نحو 15 ألف قتيل فيها.

فتاة تعبر قرب دكان مغلق كتب عليه "لقد مات 4 من رفاقي. منطقة حرب" في تل أبيب (رويترز)

معهد أبحاث الإرهاب في جامعة رايخمان، أجرى دراسة حول سيناريوهات حرب مع «حزب الله» بمشاركة 100 خبير عسكري وأكاديمي، خرجوا فيها باستنتاجات مفزعة؛ إذ قالوا إن من شأن حرب كهذه أن تتسع فوراً لتصبح متعددة الجبهات، بمشاركة ميليشيات إيران في سوريا والعراق واليمن وقد تنضم إليها حركتا «حماس» و«الجهاد» في الضفة الغربية.

ورجّحت الدراسة أن يطلق «حزب الله» طيلة 21 يوماً كمية هائلة من الصواريخ بمعدل 2500 إلى 3000 صاروخ في اليوم ويركز هجومه على إحدى القواعد العسكرية أو المدن في منطقة تل أبيب، وكذلك على مناطق حساسة أخرى، مثل محطات توليد الكهرباء وآبار الغاز ومفاعل تحلية المياه والمطارات ومخازن الأسلحة. وبالإضافة إلى الدمار الذي سيحدثه هذا القصف، ستنفجر فوضى لدى الجمهور الإسرائيلي.

كذلك، سيحاول «حزب الله» الدفع بخطته القديمة، في إرسال فرق «الرضوان» لتخترق الحدود الإسرائيلية وتحتل بلدات عدة، كما فعلت «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) وأكثر.

تدمير على نسق غزة

هذا السيناريو المخيف، جاء أولاً وبالأساس لكي يصبّ بعض الماء البارد على الرؤوس الحامية التي راحت تمارس ضغوطاً على الجيش لكي يجتاح الأراضي اللبنانية. والجيش، إذ يدرك بأن القيادات السياسية اليمينية الحاكمة تحرّض عليه وتظهره متردداً وخائفاً من الحرب، ينشر في المقابل خططاً تظهر أنه جاد في الإعداد للحرب. وبحسب التدريبات والتسريبات التي يمررها، يتضح أنه يعدّ لاجتياح بري واسع يحتل فيه الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني، وربما حتى نهر الزهراني أيضاً. وهو يقول إنه في حال رفض «حزب الله» اتفاقاً سياسياً يبعده عن الحدود، فإن الجيش سيسعى لفرض هذا الابتعاد بالقوة.

ويوضح أنه سيبدأ توسيع الحرب بقصف جوي ساحق يدمر عدداً من البلدات اللبنانية على طريقة غزة، وبعدها يأتي الاجتياح. وبحسب مصادر عسكرية، فإن إسرائيل استعادت الأسلحة المتأخرة من الولايات المتحدة، بما فيها القنابل الذكية، وستستخدمها في قصف الضاحية الجنوبية في بيروت ومنطقة البقاع على الأقل.

طائرة إطفاء إسرائيلية تلقي مواد لإخماد النيران المشتعلة في الجليل الأعلى جراء صواريخ أطلقها «حزب الله» (أ.ف.ب)

ويبعد نهر الليطاني عن الحدود 4 كيلومترات في أقرب نقطة و29 كيلومتراً في أبعد نقطة، ليشكل شريطاً مساحته 1020 كيلومتراً مربعاً يشمل ثلاث مدن كبيرة، صور (175 ألف نسمة) وبنت جبيل ومرجعيون. ويعيش في تلك المنطقة نصف مليون نسمة، تم تهجير أكثر من 100 ألف منهم، حتى الآن. لذا؛ فإن الحديث عن احتلال هذه المنطقة كلها لن يكون سهلاً. فـ«حزب الله» أقوى بكثير من «حماس» ولديه أنفاق أكبر وأكثر تشعباً من أنفاق غزة، كما أنه يملك أسلحة أفضل وأحدث وأكثر فتكاً، وهو مستعد لهذه الحرب منذ فترة طويلة. وإذا كانت إسرائيل تخطط لحرب قصيرة من 21 يوماً، فإن أحداً لن يضمن لها ذلك وقد تغرق في الوحل اللبناني مرة أخرى.

جدوى الحرب ومستوطنات الشمال

بدأ الجيش الإسرائيلي في إعداد الجبهة الداخلية لمواجهة حرب طويلة، فجرى إنعاش أوامر الاحتياط الأمني في أوقات الطوارئ في المستشفيات والمصانع والمؤسسات الحكومية والرسمية والملاجئ. وهو يضع في الحسبان احتمال أن يستطيع «حزب الله» إطلاق آلاف الصواريخ والمسيّرات وضرب البنى التحتية من محطات توليد كهرباء وتحلية مياه وآبار غاز. وفي التدريبات التي جرت في الشهرين الماضيين، وضع في الحسبان أيضاً احتمال أن تتدخل إيران مباشرة. عندها ستتفاقم فوضى الملاحة في البحر الأحمر وقد يتم ضرب قبرص. وهذا يعني أن الأراضي الإسرائيلية، كلها، ستتحول إلى جبهة مشتعلة.

ويقول معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب في دراسته: «حتى الآن أطلق (حزب الله) أكثر من 5000 ذخيرة مختلفة، معظمها من لبنان، على أهداف مدنية وعسكرية في إسرائيل؛ ما أدى إلى مقتل 33 مدنياً وعسكرياً، وإحداث أضرار جسيمة. فهناك شعور قوي بعدم جدوى الحرب بالنسبة لمستقبل المنطقة الشمالية، والمستوطنات الـ28 التي تم إخلاؤها ومدينة كريات شمونة وسكانها، الذين يتساءلون متى وتحت أي ظروف سيتمكنون من العودة إلى بيوتهم».

يهود متدينون يؤدون صلاة الصباح عند هضبة في الضفة الغربية بعد وعود حكومية بضمن مزيد من الاراضي الفلسطينية (أ ب)

ترسانة «حزب الله»

بحسب التقارير ومنذ حرب لبنان الثانية، يشكّل «حزب الله» التهديد العسكري الرئيسي لإسرائيل؛ نظراً لضخامة قواته المدعومة إيرانياً وبصفته «رأس الحربة في محور المقاومة». وتتكون الترسانة الرئيسية للحزب مما لا يقل عن 150 ألف صاروخ وقذيفة وأسلحة إحصائية أخرى، بالإضافة إلى مئات الصواريخ الدقيقة الموجهة، والمتوسطة والطويلة المدى، التي تغطي المنطقة المأهولة بالسكان في إسرائيل. يكمن الضرر الرئيسي المحتمل لهذا المخزون في الصواريخ الدقيقة، والتي تشمل صواريخ كروز، والصواريخ الباليستية، والصواريخ الدقيقة القصيرة المدى المضادة للدبابات، والصواريخ الساحلية المتقدمة وآلاف الطائرات والمروحيات المُسيّرة. وفي حرب 2006، عندما خاض الجانبان حرباً استمرت 34 يوماً، كان لدى «حزب الله» نحو 15 ألف صاروخ وقذيفة، غالبيتها العظمى لم تكن موجهة ومداها أقل من 20 كيلومتراً؛ مما يعني أنها لم تكن قادرة على الوصول لمدينة حيفا شمالي إسرائيل. وقد أطلق الحزب نحو 120 صاروخاً يومياً في تلك الحرب؛ ما أسفر عن مقتل 53 إسرائيلياً وإصابة 250 وإلحاق أضرار مادية جسيمة.

أما اليوم، فإلى جانب ما ذُكر، هناك أيضاً المنظومات السيبرانية المتقدمة، القادرة على التسبب بأعمال قتل جماعي وأضرار مدمرة للأهداف المدنية والعسكرية، بما في ذلك البنية التحتية الوطنية الحيوية. الموارد العسكرية التي يملكها «حزب الله» كبيرة كمّاً ونوعاً، بما يضاهي عشرات أضعاف القدرات العسكرية لـ«حماس» قبل اندلاع الحرب. والأهمية الاستراتيجية هي أن «حزب الله» يمتلك البنية التحتية والقدرات العسكرية اللازمة لشنّ حرب طويلة، ربما لأشهر عدة، وإلحاق أضرار جسيمة بإسرائيل.

عناصر من «حزب الله» يشيعون في بيروت القيادي في الحزب محمد نعمة ناصر الذي قتل في غارة إسرائيلية (د.ب.أ)

ويضيف التقرير أنه «في حرب واسعة النطاق ضد (حزب الله)، سيتعين على أنظمة الدفاع الجوي التابعة للجيش الإسرائيلي أن تتعامل، مع مرور الوقت - وخاصة في الأسابيع الأولى من الحرب - مع وابل من الأسلحة يصل إلى آلاف يومياً، ولن يكون من الممكن اعتراضها كلها. هذه الهجمات، بما في ذلك من جبهات أخرى، مثل إيران والعراق وسوريا واليمن، يمكن أن تسبب التشبع لطبقات الدفاع الجوي الإسرائيلية، بل وربما نقصاً في وسائل الاعتراض. وهذا تهديد عسكري ومدني لم تعش مثله إسرائيل. في مثل هذا السيناريو، سيكون مطلوباً من الجيش الإسرائيلي تحديد الأولويات، سواء بين ساحات القتال المختلفة أو فيما يتعلق بتوزيع الموارد للدفاع الفعال عن الجبهة الداخلية. من المتوقع أن تعمل القوات الجوية كأولوية أولى لحماية الأصول العسكرية الأساسية، وكأولوية ثانية لحماية البنى التحتية الأساسية، وكأولوية ثالثة فقط لحماية الأهداف المدنية، التي سيكون لسلوك الجمهور فيها، أهمية كبيرة في مواجهة تحذيرات الجبهة الداخلية والحماية السلبية بمختلف أنواع الملاجئ، والتي تعدّ قليلة».

آثار صدمة 7 أكتوبر

ويحذر الدكتور العميد (احتياط) أريئيل هايمان من أن «إسرائيل، في معظمها، لا تزال تعاني صدمة جماعية مستمرة، من جراء هجوم (حماس) في 7 أكتوبر، تضر بشدة بقدرتها على الصمود. ويتجلى هذا الوضع في تقلص مؤشرات الصمود، كما تظهرها استطلاعات الرأي العام التي أجراها معهد دراسات الأمن القومي. فهناك تراجع كبير في الصمود الوطني للمجتمع الإسرائيلي، مقارنة بالأشهر الأولى للحرب. ويتجلى ذلك في انخفاض واضح في مستوى التضامن والثقة في مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش الإسرائيلي، وفي مستوى التفاؤل والأمل لدى غالبية الجمهور. كل هذا، أيضاً في مواجهة ما يُعدّ «تباطؤاً» في الحرب على غزة، والتي كان ينظر إليها في البداية، على أنها حرب مبررة، وأدت في البداية إلى «التقارب حول العلم الوطني». من المشكوك الآن، إلى أي مدى سيكون المجتمع الإسرائيلي مستعداً ذهنياً لحرب صعبة وطويلة الأمد في الشمال أيضاً».

جندي إسرائيلي يتفقد الأضرار في منزل أُصيب بصاروخ أطلقه «حزب الله» على كريات شمونة (أ.ف.ب)

ويقول البروفسور بوعز منور، رئيس جامعة رايخمان، الذي ترأس البحث حول الحرب مع لبنان: «لا تخافوا، إسرائيل لن تُهزم في حرب كهذه. لكن 7 أكتوبر سيبدو صغيراً أمام ما سيحل بنا في حرب مع لبنان. سيحصل ضرر استراتيجي كبير. لكن لن يكون هناك خطر وجودي علينا. وأنا لا أريد أن أخفف وطأة هذه الحرب إلا أنني أضع الأمور في نصابها. والحقيقة أننا لا نحتاج إلى حرب كهذه؛ إذ إنه في حال التوصل إلى اتفاق في غزة سينسحب الأمر على الشمال».

وحذّر البروفسور شيكي ليفي، الباحث في اتخاذ القرارات ورئيس دائرة التمويل في الجامعة العبرية، من حرب لبنان ثالثة عالية، مؤكداً أن «الجميع يتفق على أن مثل هذه الحرب، إذا ما نشبت، ستكون حرباً وجودية، مع إصابات في الأرواح وفي الممتلكات على نطاق لم تشهده دولة إسرائيل أيضاً. هذه حرب ستضع مجرد وجود الدولة في خطر حقيقي». ويضيف، في مقال نشرته «معاريف» أخيراً أن «انعدام ثقة أغلبية الجمهور في إسرائيل بالقيادة السياسية غير مسبوق، كما ينعكس في استطلاع إثر استطلاع. الجيش متآكل حتى الرمق الأخير من الحرب المتواصلة منذ 7 أكتوبر. يوجد حد لما يمكن أن نطلبه من رجال الاحتياط الذين انفصلوا عن عائلاتهم، جمّدوا حياتهم المهنية والتعليمية ويقاتلون منذ أشهر طويلة في غزة وفي الشمال».

على رغم كل ذلك، هناك احتمال كبير في أن تختار إسرائيل فتح هذه الحرب، أو الانجرار إليها على طريق الكمائن الذاتية. فهي تواصل سياسة الاغتيالات لقادة «حزب الله»، مع علمها اليقين بأن مع كل اغتيال يأتي رد تصعيدي. في الوقت الحاضر، يحافظ «حزب الله» على السقف الذي حددته الولايات المتحدة وإيران في بداية الحرب، بمنع الانفجار الأوسع، ملتزماً بسياسة الرد وعدم المبادرة إلى عمليات كبيرة. لكن استمرار هذا الانضباط ليس مضموناً. فيكفي أن يقع أحد الأطراف في خطأ ما حتى تنفجر الأمور وتخرج عن السيطرة. وعندها لا يبقى من كلام سوى ذلك المثل القائل: «مجنون ألقى حجراً في البئر».