هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)
مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)
TT

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)
مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة. من أسباب اليأس والانتحار أنّ بعض الناس لم يعودوا يستحسنون ما استقرّ عليه باطنُهم ووعيُهم ووجدانُهم وقلبُهم وعقلُهم وجسدُهم ومظهرُهم ومنطقُهم وفكرُهم ومسلكُهم. حين يضجر الإنسان من هذا كلّه، يَعمد إلى إنهاء حياته أو يخضع لمزاجيّة سوداويّة تنغّص عليه وجودَه كلّه.
غير أنّ الحثّ على قبول الذات وقبول الحياة أمرٌ لا علاقة له بالتحريض على امتداح عناصر الهويّة الثقافيّة الشاملة التي استوت عليها حياةُ الناس وشرائعُهم ونواميسُهم ومعاملاتُهم اليوميّة. لا بدّ، والحال هذه، من النظر في المعايير التي ينبغي أن نعتمدها في تقويم امتداح الهويّة الذاتيّة. لا شكّ في أنّ كلّ جماعة إنسانيّة تبتهج بما تعوّدته من أنماط العيش وأساليب الحياة وطرائق التفكير ومناهج السلوك. غير أنّ الإفراط في الامتداح الذاتيّ يدلّ على عيبٍ ناشبٍ في البناء الفكريّ الداخليّ. أعرف أنّه من العسر الشديد أن يميّز الناسُ الخير من الشرّ داخل عماراتهم الثقافيّة، إذ إنّ معايير التمييز مستخرجةٌ من صلب الاقتناعات الصلبة التي يعتصم بها أهلُ الجماعة. مشكلة هذه المعايير أنّها تسوّغ ما لا يسوّغه الآخرون، وتبيح ما لا يبيحونه، وتحظر ما لا يحظرونه. ومن ثمّ، يصعب على الناس أن يخرجوا من ذواتهم حتّى ينظروا نظراً موضوعيّاً في استقامة فكرهم ومسلكهم. ما إنْ يخرج الإنسان من عمارته الثقافيّة حتّى يصبح في العراء. وليس من عراء ثقافيّ على الإطلاق في قرائن الانتساب التاريخيّ الضروريّ. أين يمكننا أن نقيم الإنسان الذي يرغب في إعادة النظر بمسلّمات أنظومته الثقافيّة؟ إذا أراد الإنسان، على سبيل المثال، أن يتدبّر معايير الاستقامة في العمارة المسيحيّة، كان عليه أن يخرج من المسيحيّة ويتحرّر من فضاء أحكامها حتّى ينظر نظراً موضوعيّاً فيما تُذيعه وتُعلّمه. ولكن ما إنْ يخرج الإنسانُ من هذه العمارة حتّى يفقد صلة الانتماء ورباط الائتلاف ويصبح في موضع ثقافيّ آخر لا يخوّله، في نظر أهل الجماعة، أن يحكم على صحّة معتقداتهم وصوابيّة أخلاقيّاتهم واستقامة أفعالهم.
لا يخفى على أحد أنّ مثل هذا الإشكال يقترن بصعوبةٍ بنيويّةٍ أخرى تنشأ من استحالة تعريف الهويّة الموضوعيّ. ذلك أنّ روحيّة التحاور بين الناس المختلفين تقتضي أن أعرّف الآخر بحسب ما يحلو للآخر أن يُفصح عن ذاته. ليس لي، مهما عظم شأني، أن أفرض على الآخر مقولاتي الذاتيّة. الواجب الأخلاقيّ يفرض عليّ أن أصغي إلى خطاب الآخر الراغب في الإفصاح عن هويّته. بيد أنّ هذا الأمر عسيرٌ مربكٌ محفوفٌ بالالتباسات والمخاطر، إذ كيف يمكنني أن أفهم الآخر إلّا بواسطة الكلمات التي أستخدمها داخل الفضاء المعرفيّ الذي أنتمي إليه؟ ثمّة سؤالٌ أخطر: ما الذي يضمن لي استقامة التعريف الذي يسوقه الآخر في هويّته؟ هل يجوز لي أن أدّعي البراءة المعرفيّة وأخلي السبيل لسيلٍ من التعابير المدحيّة والأوصاف التقريظيّة يستخدمها الآخر في تمجيد ذاتيّته الثقافيّة؟
إذا اعتمدتُ اعتماداً مطلقاً على كلمات الآخر في وصف ذاته وقعتُ في العري الذاتيّ، وأوشكتُ أن أنتمي إلى أنظومة الآخر الثقافيّة. وهذا واقعٌ غريبٌ غالباً ما واجهه أهلُ الحوار الصادقون الذين أوغلوا في الانتساب إلى ثقافة الآخر، بحيث كفّوا عن استخدام المفاهيم التي تنبثق من ذاتيّتهم اللصيقة بهويّتهم. ربّ معترضٍ يخالف التحفّظ الذي أفصح عنه في هذه المقالة، ويحبّذ أن يخرج الإنسانُ من ذاتيّته خروجاً كاملاً حتّى يلاقي الآخر في غيريّة هويّته واختلافيّتها وجِدّتها وعصيانها على كلّ ضروب الأخذ الإكراهيّ. لا يربكني هذا التحدّي ولا يزعزع يقيني الحواريّ، شرطَ أن يذهب الناسُ إليه معاً، في الزمنيّة الحضاريّة عينها، على طواعيةٍ متجانسة، في عزمٍ صادقٍ منزّهٍ عن أغراض الهيمنة. حينئذ يحلو لنا أن نشهد خروجاً مشتركاً إلى آفاق جديدة لم يألفها الناسُ من قبل، ولم يتعوّدوا خوضَها في منعزلات هويّاتهم المغلقة. غير أنّ واقع التلاقي الحضاريّ الكونيّ لا يتيح مثل التساوق التناغميّ هذا بين الناس المقبلين على الحوار، إذ غالباً ما نقع على محاورين أفذاذ أفنَوا حياتهم في طلب الاختلاف وأتقنوا فنون الحرص على هويّات الآخرين، في حين أنّ من يواجههم في عمليّة الحوار ما برح قابعاً في زمنيّاتٍ ثقافيّةٍ متشنّجة متصلّبة مستكبرة.
أسوق مثالاً واحداً من أجل الإيضاح النافع. يُجمع أغلب المسيحيّين اليوم على دينونة حروب الإفرنجة أو ما يُدعى خطأً بالحروب الصليبيّة، ويُقرّون بأنّ إذاعة رسالة المحبّة في بشرى الخلاص تناقض مبدأ العنف. ولكن ما الذي جرى حتّى استطاع العقل اللاهوتيّ المسيحيّ أن يبلغ الخلاصة الفكريّة الناضجة السلاميّة الواعدة هذه؟ أعتقد أنّ التحوّلات الثقافيّة الجليلة التي أصابت مجتمعات الغرب في عصر النهضة الأُوروبّيّة وزمن الأنوار وحقبة الحداثة العلميّة جعلت الفكر الدِّينيّ المسيحيّ يعيد النظر في بعضٍ من مُسلّماته اللاهوتيّة العتيقة.
ثمّة أمرٌ آخر ينبغي إلقاء البال إليه، عنيتُ به التمييز الحصيف بين الجوهر الفكريّ والأعراض التاريخيّة. ذلك أنّ كلّ أنظومة ثقافيّة تنطوي على قدرةٍ استصفائيّة تنقيحيّة تطهيريّة تفرز الحقائق الأساسيّة من الانحرافات الطارئة. في إثر المجمع الڤاتيكانيّ الثاني (1962 - 1965) واجتهادات الكنائس الأرثوذوكسيّة والبروتستانتيّة في مجلس الكنائس العالميّ، استطاع الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ المعاصر أن يعتمد الخطّة الإصلاحيّة هذه من غير أن يُبطل جوهر الإيمان المسيحيّ. ولكنّ مثل هذا التمييز لا يستقيم على الدوام، سواءٌ في المسيحيّة أو في الأنظومات الدِّينيّة والثقافيّة الأخرى. لذلك لا بدّ من معياريّة موضوعيّة محايدة منزّهة تجعلنا نقبل في هويّة الآخر ما هو صالحٌ ومفيدٌ ومُغنٍ، ونرفض فيها ما هو فاسدٌ ومضرٌّ ومُجحف.
قبل أن أستجلي بعض المعايير الهادية هذه، لا بدّ من السؤال الفلسفيّ الخطير الذي يستفسر عن أصل الانحراف التاريخيّ في الأنظومات الدِّينيّة والثقافيّة على اختلاف منابتها الفكريّة وقرائنها التاريخيّة. هل يكون الانحراف ناشباً في أصل الهويّة أم طارئاً عليها؟ لا أظنّ أنّ أحداً يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال، سواءٌ داخل جماعته أو خارجها، من غير أن يتعرّض للنقد والتهجّم والاضطهاد. أعود إلى حروب الإفرنجة لأسأل: هل خرجت الطاقة العنفيّة هذه من صميم رسالة المسيح أم ابتُليت بها الكنيسة المسيحيّة من جرّاء ضلال بعض أبنائها المسؤولين المهيمنين على مقاليد السلطة فيها؟ يصحّ السؤال عينه في الماركسيّة: هل أتت انحرافاتُ النظام الشيوعيّ من صلب العقيدة الماركسيّة في جوهر بنيانها ومطلبها أم أصابتها بسببٍ من فساد العقول السياسيّة التي هيمنت على مصائر فكرة المساواة المنصفة والتوزيع العادل وواجب النضال التغييريّ البنيويّ؟ لا أخفي على القارئ أنّي أميل إلى بعضٍ من الارتباط الانتقائيّ الاصطفائيّ الطارئيّ الذي ينعقد بين عنصرٍ من عناصر الحقيقة، وضربٍ من ضروب الانحراف المسلكيّ في حياة الجماعة المعتصمة بهذه الحقيقة. بعض الحقائق الصلبة يستجلب العنف استجلاباً!
في جميع الأحوال، ينبغي لنا أن نجتهد حتّى نستخرج بعض المعايير الهادية التي تساعدنا في تقويم الخطاب المدحيّ الذي يحمله إلينا أصحابُ كلّ أنظومة وأهلُ كلّ جماعة. أعرف أنّ ما سأقوله منبثقٌ من خلاصات الحداثة التي تغلغلت في خلايا دماغنا وسرَت في شرايين أفكارنا. بيد أنّ موضوعيّة القول وحياديّته ونزاهته تشفع في استنقاذه من ردود المستائين من مثال الانفتاح الثقافيّ المستنير هذا. يقيني أنّ الناس يمكنهم أن يقبلوا ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم الجماعيّة شرطَ أن يأتي خطابُ الامتداح مَبنيّاً على ثلاثة أصول جوهريّة: أوّلاً، التزام الإنسيّة الأخلاقيّة الجامعة التي تنطوي عليها شرعة حقوق الإنسان الكونيّة وتستثمرها في تعزيز كرامة الشخص الإنسانيّ، وتحريره من جميع ألوان العبوديّات، ودفعه إلى تجاوز ذاتيّته التاريخيّة؛ ثانياً، الأمانة على جوهر الأنظومة الثقافيّة أو الدِّينيّة الذاتيّة في أبهى ما انطوت عليه من مثُل رفيعة سامية؛ ثالثاً، الانفتاحيّة النقديّة البنّاءة التي تجعل كلَّ إنسانٍ مُنتمٍ مقتنعٍ يقبل طوعاً إعادة النظر في تطوّر عمارته الفكريّة، وتقويم أدائها، وانتقاد التواءاتها، وتصويب اعوجاجاتها.
من الواضح أنّ المعايير الهادية هذه تضمن لجميع الناس التحاور السليم الشفّاف النزيه الرامي إلى تعزيز إنسانيّة الإنسان في جميع أبعادها الكيانيّة. إذا كان المعيار الأوّل (الإنسيّة الأخلاقيّة) والمعيار الثالث (الانفتاحيّة النقديّة) على وضوحٍ في المعنى، فإنّ المعيار الثاني (الأمانة على الجوهر) قد يلتبس على القارئ، إذ إنّ الأديان والأنظومات الثقافيّة والعمارات الفكريّة تختلف في استخراج الجواهر المنطوية في تراثاتها الأثيلة. غير أنّ الأمر ليس على هذا الإرباك. أعتقد أنّ الناس يدركون فطريّاً أنّ جوهر المسيحيّة المحبّة، وكلّ فكر مسيحيّ يخالف المحبّة يجب نبذه؛ وأنّ جوهر الإسلام الرحمة، وكلّ فكر إسلاميّ يناقض الرحمة يجب نقضه؛ وأنّ جوهر اليهوديّة الاستضافة الكيانيّة المجّانيّة، وكلّ فكر يهوديّ يعطّل هذه الاستضافة يجب إبطاله؛ وأنّ جوهر الهندوسيّة الانسيابيّة الكونيّة الفنائيّة، وأنّ جوهر البوذيّة اليقظة الوجدانيّة، وجوهر الماركسيّة المساواة، وجوهر الاشتراكيّة الإنصاف، وجوهر الليبرالية الحرّيّة، وجوهر النضال البيئيّ صون الطبيعة الأمّ. وعليه، فإنّ جوهر الجواهر في جميع الأنظومات، على ما كان يذهب إليه فيلسوفُ الدِّين اللاهوتيُّ البريطانيُّ جون هيك (1922-2012)، أن يخرج الإنسان من قوقعته الذاتيّة (self-centeredness) إلى رحابة الحقّ الكونيّ (Reality-centeredness).
- مفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.

تحقيقات وقضايا أزياء متنوعة ارتداها مشاركون في انطلاق المرحلة الثانية من رحلة «إعادة إحياء قلب الجزيرة العربية» من الدرعية في 16 يناير 2023 (واس)

الأزياء تروي تاريخ الشعوب... لفظاً وتواصلاً

يقال إنك «بالملبس تستطيع أن تقول من أنت من دون أن تتفوه بكلمة» و«تستطيع الوصول إلى كل ما تتمناه في الحياة إن ارتديت الملابس المناسبة». وثمة أقوال كثيرة مشابهة تثير الرغبة في «اعتناق» المظهر.

أحمد الفاضل

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.